La Récolte Philosophique du XXe Siècle : et Autres Recherches Philosophiques
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
56
يتصور نيتشه إذن النزعة العدمية كشرط تاريخي أو حالة تاريخية، لا كحالة شاملة للعقل، إنها حالة غامضة يمكن تفسيرها بطريقتين: فيمكن أن تفسر على أنها علامة على القوة المتزايدة للروح، وهي التي يسميها نيتشه بالعدمية الفعالة
Active Nihilism ، كما يمكن أن تفسر على أنها انحدار ونكوص لقوة الروح، وهي التي يسميها بالعدمية السلبية
.
57
بذلك يكون نيتشه قد وضع مشكلة الحضارة في إطار تاريخ النزعة العدمية الأوروبية. ومن ثم قام بمحاولته الجريئة لإعادة تقييم كل القيم بما في ذلك قيمة الحضارة نفسها.
إن الوعي التراجيدي بالحياة يكمن في فلسفة نيتشه. وقد عبر نيتشه نفسه عن ذلك بشجاعة نادرة بأن أعلن أنه أول فيلسوف تراجيدي يقبل على الحياة بكليتها أو في مجموعها. إنه يقول نعم لطبيعتها المتنوعة والمتعارضة، نعم للبهجة والألم معا، وربما كان هذا أبلغ تعبير عن قوة إرادة الحياة التي تبتهج حتى بالكوارث والمآسي: «إن قول نعم للحياة - بما في ذلك أغرب وأفظع مشاكلها، وإرادة الحياة المبتهجة بقدرتها التي لا تنفد على التضحية بأسمى نماذجها - ذلك هو الذي وصفته بأنه ديونيسي، وهو الذي رجحت أنه هو الجسر الموصل إلى نفسية الشاعر التراجيدي.»
58
يتغلب الإنسان إذن على مأساوية وجوده التاريخي بالمزيد من إرادة الحياة، فالحياة والألم لا ينفصلان. وإذا كانت الأخلاق التقليدية أو الموروثة هي نسق من التفكير يحاول - في رأي نيتشه - أن يفرض مستوى مطلقا من الصواب والخطأ، والخير والشر على الوجود، فإنها - أي الأخلاق - تقطع التجربة الإنسانية المفعمة بوفرة الحياة، وهي محاولة لإدانة الوجود، كما هي محاولة لإدانة وإنكار إرادة القوة، وهي عند نيتشه الغريزة الأساسية للإنسان التي من خلالها ينمو يتطور.
ماذا بعد عرض فلسفة نيتشه التاريخية وما تحمله من مفارقة بين الوعي التاريخي والوعي اللاتاريخي؟ هل ساهمت هذه الرؤية النقدية للتاريخ في حل مشكلة التاريخ أو مشكلة الحضارة التي وصلت أزمتها إلى متفرق طرق لم يظهر فيه بارقة أمل لإصلاح ما أفسده التطور الثقافي والحضاري؟ ربما يكون الإسهام الحقيقي لهذه الرؤية النقدية لمشكلة التاريخ (التي ألقينا عليها الضوء بقدر ما سمحت به الخطوط العريضة لهذا البحث) هو إعادة النظر في الموروث الثقافي، ومراجعة اعتقادات ظل الإيمان راسخا في الأذهان فترات طويلة من الزمن، وذلك فضلا عن إسهامها في إعادة تقييم كل ما أثمرته الحضارة الإنسانية. لقد كان نيتشه رائدا جسورا لتيارات عديدة جاءت بعده، وأخذت على عاتقها مراجعة التراث الغربي، وزعزعة الثقة في الميراث الحضاري. واستمرت هذه التيارات - التي أخذت وجهتها من نيتشه - في فلسفات هيدجر، ومن يطلق عليهم اسم فلاسفة الاختلاف وتيار ما يسمى الآن بفلسفة «ما بعد الحداثة»، وعلى رأسها التيار التفكيكي الذي يتزعمه جاك دريد - على الرغم من رفض هذا الأخير إدراج منهجه التفكيكي تحت ما يسمى ب «ما بعد الحداثة» - فمنذ إطلاق نيتشه صرخته الأولى وإعلانه «موت الإله» كحد أوروبي - وهي الفكرة التي قصد بها تحطيم الميتافيزيقا الغربية وتدميرها وإعلان موتها وزلزلة الأسس التي يستند إليها التراث الحضاري الغربي - منذ ذلك الحين ما زالت تتوالى التيارات والرؤى النقدية من أجل إعادة التقييم. لم يكن هدم نيتشه للتاريخ وللحضارة إلا من أجل بناء هذا التاريخ وتلك الحضارة من جديد، ولم يكن هجومه على إنسان العصر الحديث إلا من أجل ظهور إنسان آخر جديد سماه «السوبر مان» أو الإنسان الأعلى. وبفضل دعوة نيتشه لتدمير التاريخ والحضارة الغربية، يعيد الغرب الآن حساباته من جديد لتأسيس مفاهيم جديدة تستند إليها حضارة غريبة جديدة.
Page inconnue