La Récolte Philosophique du XXe Siècle : et Autres Recherches Philosophiques
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
31
وتضعنا فكرة العود الأبدي في مفارقة أخرى، فمن ناحية يكون الماضي مستقبلا، كما يصبح المستقبل ماضيا، ومن ناحية أخرى تصبح الزمانية والأبدية شيئا واحدا، وكأن الفكرة تعتمد في أساسها على أبدية دورة الزمن، التي تعني أزلية الماضي وأبدية المستقبل معا، عندما تصبح النهاية عودة إلى البداية، ولكن الفكرة في مجموعها تضعنا في إشكالية التعرف على - أو تحديد - الأبعاد الزمنية الثلاثة. وربما نجد في «اللحظة» الحل الوحيد لهذا اللغز المحير، فهي - أي اللحظة - تجمع كل الأبعاد الزمنية في «آن» واحدة، وهي جوهر الزمن. وتأكيد اللحظة هو تأكيد لطبيعة الزمن نفسه: «وإذا كان لدى الإنسان القوة والشجاعة ليؤكد اللحظة التي تشكل الزمن، فسيكون الإنسان - إذن - قادرا على تأكيد طبيعة الزمن نفسه، تماما مثل تأكيد الوجود الإنساني كله باعتباره غير منفصل عن قدره أو مصيره، مثل هذا التأكيد يعتمد على أن نعرف أن حياة الإنسان كلية ومصيرية، وأن اللحظة ليست مكتفية بذاتها ولا منعزلة عن كل اللحظات الأخرى؛ لأن تجربة اللحظة باعتبارها أبدية تكشف كل وجود الإنسان.»
32
يفهم من كل هذا أن كلية الوجود مفهوم يتضمن تفسير الأبدية، فكل لحظة هي كلية الوجود، وكلية الوجود هي في كل لحظة، إذن «لا يستطيع أي من الماضي أو المستقبل أن يأتي بأي شيء ... النتيجة هي نوع من اللاحركة في العلاقة بين لحظات الزمن. لكي تتحقق كلية الوجود، ليس من الضروري أن تتحرك من الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل، طالما أن كل شيء حاضر في كل لحظة.»
33
ربما يفهم مما سبق أن في كلية الوجود إنكارا للحركة، هذا بالإضافة إلى أنها تبدو كما لو كانت أبدية تتقنع بالزمانية التي تعارض الأبدية، ولكن لكي نفهم نيتشه - هذا الفيلسوف غير التقليدي - يجب أن نتحرر من المضامين التقليدية لمفهوم كل من الأبدية والزمانية اللذين وفقا لهما تعني الأبدية الوجود غير المتحرك الذي يعلو على الصيرورة، بمعنى آخر أن الأبدية تعني الواحد، والزمانية تعني التعدد؛ وذلك لأن نيتشه يفهم علاقة الواحد بالكثرة كوحدة قائمة على التعدد. ولهذا فإن الأبدي والزمني عنده ليسا متعارضين. وكما أن الوجود ليس معارضا للصيرورة، فإن الأبدية أيضا ليست معارضة للزمانية. لم يفصل نيتشه إذن الأبدي عن الزمني، بل أوجد علاقة متداخلة بينهما بما يعني أن اللحظة الحاضرة تتضمن لحظات الزمن الماضي وزمن المستقبل. ويتشكل موقف الإنسان من الحياة بأن يتعلم كيف يعيش اللحظة، وكيف أن الكائن الإنساني الأعلى ممكن في كل العصور - كما كان كذلك في الماضي - وهو الذي يشكل ثقافة العصر، وهو عند نيتشه الإنسان المبدع المتجاوز للتاريخ، المبدع للقيم. وإذا كان للتاريخ هدف، فإنه لن يكون شيئا آخر سوى عمل تلك الشخصيات المتجاوزة للتاريخ التي تعيش اللحظة وتبدع من أجل الأبدية. ويمتدح نيتشه الفرد المتجاوز للتاريخ، الذي لا يرى الخلاص في صيرورة التاريخ، وإنما يراه في العالم الذي يكتمل ويصل لنهايته في كل لحظة.
لقد رأى البعض أن فكرة العود الأبدي لا يمكنها أن تأتي بإبداع متفرد، وأنها غير منسجمة مع فكرة الاختيار الحر، بالإضافة إلى أنها تعطل شرعية الإبداع الإنساني، ولكن كيف يكون ذلك وكل فلسفة نيتشه تتجه إلى إبداع الجديد؟ ربما يزول هذا اللبس عندما نعرف أن فكرة العود الأبدي تؤكد أن على الإنسان أن يعمل أو يبدع أفضل ما عنده في اللحظة؛ وذلك لأنه على وعي بأنها ستعود إليه ثانية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تؤكد الفكرة على عنصر المسئولية الملقاة على عاتق الإنسان إزاء أفعاله وإبداعه في اللحظة التي سترتد إليه ثانية في دورة تالية. ربما تكون هذه أيضا هي إحدى مفارقات نيتشه التاريخية «إن إرادة العودة إلى الوراء لا يمكن لها أن تتحقق إلا بالإرادة المتجهة إلى الأمام. ويكون خلاص الماضي أو إنقاذه كامنا في الإرادة المبدعة للمستقبل. فالمستقبل هو الذي يتم فيه إبداع الجديد من القديم من الماضي»،
34
هكذا تتشكل من الماضي إرادة مبدعة جديدة في «اللحظة البريئة» الكامنة في المستقبل، والتي تضمن وصول الجديد والمتفرد. كل شيء سيصير، لذلك فليس هناك حقائق أبدية وليس هناك قيم مطلقة. وسواء كانت فكرة العود الأبدي إنكارا للأبدية أم تأكيدا للصيرورة، ولتدفق الزمن، فإنها مما لا شك فيه تأكيد للمفهوم الصحيح للوجود التاريخي. وإذا كان الوجود هو الصيرورة، فكل شيء يتغير. وبما أن الصيرورة في حد ذاتها ليست خيرا ولا شرا، ليست حسنة ولا سيئة، فنحن نستطيع إذن أن نفرض عليها - أي على حركاتها العشوائية - ما نريد من القيم؛ ولهذا فإن الإبداع لا يمكن تمييزه عن العماء
Chaos . وبذلك تكون الحياة - في اعتقاد نيتشه - مرادفة للعماء، أي أنها في ذاتها بلا قيمة؛ لأن المعنى والقيمة إبداع إنساني، ومن ثم يعتمد الإبداع الإنساني على العماء.
Page inconnue