La Récolte Philosophique du XXe Siècle : et Autres Recherches Philosophiques
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
15
يبدو تعريف نيتشه للحياة في هذه العبارة غير محدد تماما - كما تصور هو ذلك - ولن نجد في كتاباته - على كثرتها - تعريفا جامعا مانعا لمفهومه عن الحياة. وليس ما يهمنا هنا هو البحث عن مفهوم محدد لفكرة الحياة، بل إن ما يهمنا هو تأكيد نيتشه على أن الوجود كله ليس إلا الحياة، وليست هذه الحياة إلا إرادة، ولكن هذه الإرادة ليست فحسب إرادة حياة كما يقول شوبنهور، بل هي إرادة القوة التي لا تعني سوى التسامي والعلو. ولذلك فإن الحقيقة عند نيتشه هي ما يساعدنا على الاستمرار في الحياة، وهي في كلمة واحدة ما ينفع الحياة، وبهذا المعنى تكون الحقيقة مرتبطة بالحياة ومتقلبة معها، وليست ثابتة ولا مطلقة، بل هي وسيلة غايتها نفع الحياة. (1-1) أنواع التاريخ
امتد هجوم نيتشه على القيم إلى الهجوم على التاريخ والنزعة التاريخية - هذه النزعة التي رأت أنها حققت غايتها في عصره - فطرح سؤاله عن قيمة التاريخ وليس عن نوع المعرفة التي تسلم بها الدراسات التاريخية، ولم يعنه مدى صدق معرفتنا التاريخية عن الماضي، بل جاء سؤاله عن قيمة التاريخ؛ لأنه كان على وعي كامل بمخاطر استخدام التاريخ؛ لذلك جاء تأمله الثاني في كتابه تأملات في غير أوانها تحت عنوان يحمل دلالات هذا الوعي «استخدامات ومساوئ التاريخ بالنسبة للحياة»
On the Uses and Disadvantage of History for life . لا يبحث هذا التأمل عن الترتيب الزماني لما حدث في التاريخ، بل يحاول أن يفضح زيف ما يسميه التاريخيون في عصره بالوعي التاريخي ليثبت أنه إحدى العلامات الأساسية للوضع المتفسخ للعصر الحاضر: «سأحاول أن أنظر من جديد لأشياء يفخر بها عصرنا أي دراسته للتاريخ لكشف ما به من ضرر وخلل وعجز ... إن الحس التاريخي المتضخم - كما هو في عصرنا - بإمكانه أن يدمر الأمة.»
16
كما حدد نيتشه هدفه بوضوح من دراسة التاريخ، ولماذا نحتاجه: «أي فائدة من التاريخ إذا انحصر في كونه تعليما عقيما بغير حيوية، ومعرفة لا ترتبط بالفعل، ألا يصبح التاريخ بذلك شيئا كماليا لا جدوى منه ... نحن نحتاج التاريخ ، لكن لأسباب مختلفة عن تلك الأسباب التي يحتاجها المتسكع في بستان المعرفة ... نحن نحتاج التاريخ من أجل الحياة والفعل، لا لكي ندير ظهورنا للحياة والفعل ... نحن نخدم التاريخ بالقدر الذي يخدم به الحياة.»
17
هكذا لم يبحث نيتشه في التاريخ إلا باعتباره مجالا يخدم الحياة، الحياة على هذه الأرض وفي هذا العالم وليس في عالم آخر. ولذلك أنزل نيتشه القيم من عالم السماء إلى عالم الأرض، لا للهبوط بها إلى أدنى المستويات، بل لتغدو متعلقة بالحياة الأرضية ومرتبطة بها. إن عودة القيم إلى الأرض وإلى الإنسان لا يعني سوى تمجيد قدرة الإنسان على الخلق والإبداع، والتأكيد على أن الحياة هي القوة الدافعة وراء هذا الخلق والإبداع، كما أن الحياة هي العنصر الكامن وراء كل قيمة، وكل معرفة. وعلى الرغم مما في الحياة من قوى دافعة، إلا أنها مليئة بالفظائع أيضا، فإذا كانت الحياة هي إرادة القوة، فإن هذه القوة - بالمعنى السابق أي التسامي والعلو - تتجلى في قدرة الإنسان على الوعي بهذه الفظائع ومواجهتها بشجاعة، وبقدرته أيضا على إثراء نفسه بالعلم والمعرفة والسيطرة على الطبيعة، ومقدرته على الفعل الخلاق، وشجاعته في الانتصار على نفسه. كل هذا من أجل تمجيد الحياة وإعلائها، وكل هذا النشاط الخلاق لا يتم إلا من خلال التاريخ الذي يتحول إلى مجال يخدم الحياة.
وإذا وضع التاريخ في خدمة الطاقة المبدعة للحياة، فنحن نحتاج - في رأيه - إلى أن نتعرف على ثلاثة أشكال رئيسية لدراسة وكتابة التاريخ: النوع الأول يسميه نيتشه التاريخ التذكاري
monumental history ، والنوع الثاني أطلق عليه اسم التاريخ العتيق
Page inconnue