La Récolte Philosophique du XXe Siècle : et Autres Recherches Philosophiques
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
5
لم يطرح نيتشه تساؤله عن طبيعة المعرفة، ولم يهتم بطبيعة الحقيقة - كما فعل سائر الفلاسفة - وإنما حصر دائرة بحثه في قيمة المعرفة، وقيمة الحقيقة، فكان هجومه على التراث الفلسفي الغربي هو بداية هذا المشروع النقدي. فإذا كان أفلاطون «قد وضع في محاورة «الجمهورية» أسس التاريخ الغربي، فإن نيتشه قد دمر في «هكذا تكلم زرادشت» هذا التاريخ الذي وهن وفسد بعد أن أضنته المسيحية تاريخيا.»
6
وإذا كان هناك العديد من الفلاسفة الذين اهتموا بطبيعة الحقيقة، فإن القليل منهم هو الذي شك في قيمة الحقيقة، فاتخذ نيتشه من هذا الإغفال نقطة بدايته، وجعل قيمة الحقيقة - وليست طبيعتها - محورا لفلسفته في إطار نقده للقيم. ولا شك أن عملية إعادة تقييم القيم أدت إلى رفضها بالكامل. فقد رفض نيتشه رفضا نهائيا نظرية المثل أو الصور الأفلاطونية، وأخذ على عاتقه تدمير تلك النزعة. وإذا كان أفلاطون قد أسس قديما ما أطلق عليه «العالم الحق»، فقد أكد نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» أن العالم الحقيقي محض خرافة، وبدأ نقده للتاريخ من نقده للفكرة الأفلاطونية-المسيحية عن الحقيقة مدينا تمييز الفكر الأوروبي بين «ماهية الشيء» و«ما يبدو منه»، مؤكدا أن روح الاستياء والمرارة التي تميز تاريخ الميتافيزيقا الغربية كله من أفلاطون حتى كانط، إنما كانت نتيجة المقابلة بين عالمين متعارضين «العالم الماورائي» الذي تم تصويره على أنه العالم الحق، وعالم الصيرورة (الهنا والآن) الذي تم تصويره على أنه العالم الظاهر فحسب. وهي الفكرة التي جعلت مفكري التراث الغربي يخلقون «عالما ميتافيزيقيا» كان عند أفلاطون هو «العالم المثل» وكان في المسيحية هو «ملكوت الرب».
نظرت الحضارة الغربية إلى القيم على أنها الحقيقة التي تستحق التبجيل، فهذه القيم هي التي وضعت الخير في مقابل الشر، والصدق في مقابل الكذب. وأخذ نيتشه على عاتقه اقتفاء آثار سلالة تلك القيم ليؤكد عدم وجود قيمة بدون تقييم «أيا كانت القيم في عالمنا الآن فليس لها قيمة في حد ذاتها، ولا وفق طبيعتها - الطبيعة دائما بلا قيمة، ولكنها تكتسب القيمة في بعض الأحيان لكونها موجودة - لكننا نحن الذين أضفينا عليها هذه القيمة.»
7
وقد اضطلع نيتشه بهذه المهمة النقدية في كتابه «جينالوجيا الأخلاق»، وهي المهمة التي تطلبت دراسة الظروف التي نشأت فيها القيم الأخلاقية - كيف نمت وتطورت وتغيرت - وتطلبت أيضا دراسة الأشكال المختلفة التي ظهرت فيها تلك القيم الأخلاقية. وقد ظهر اهتمام نيتشه بسلالة الأخلاق «في وقت مبكر في سن الثالثة عشر، فكرس جهده الفلسفي للبحث عن أصل الشر، وعلى الرغم من أنه نسبه - أي الشر - في هذه المرحلة إلى الله، إلا أنه فصل في سن متأخرة بين اللاهوت والأخلاق، وتوقف عن النظر إلى الشر فيما وراء العالم. فكانت دراسته للتاريخ وعلم اللغة واهتمامه بعلم النفس قد حولت إشكاليته وصاغتها بشكل أكثر نضجا تحت أية ظروف ورث الإنسان أحكام القيمة عن الخير والشر؟ وهل أحكام القيمة تعد ازدهارا للإنسانية أم علامة على تدهورها؟»
8
للأسباب السابقة قدم نيتشه تحليلا تاريخيا وسيكولوجيا لنشأة القيم وتطورها في محاولة لإقناعنا بالتخلي عن كل أشكال النزعة الأفلاطونية-المسيحية التي وضعت القيم في عالم الخلود أو في السماء، وهو ما يشجعنا على إيجاد قائمة جديدة من القيم تتصدى للتدهور العدمي الذي غرق فيه التراث الأوروبي . ويناشدنا نيتشه «بتغيير مكان القيم من السماء إلى الأرض، من الأبدية إلى التاريخ، ويتطلب هذا التغيير إثبات الوجود الأرضي والتاريخي؛ لأنه إذا تم إنكار أو إغفال أي جزء من الوجود الإنساني، فإن هذا سيفسح مجالا للمثالية أو يسمح بعودتها وعودة فكرة «ما ينبغي أن يكون» لتعود معها الثنائية التراثية بين الوجود الإنساني الناقص الخالي من القيم واليوتوبيا المتخطية أو المتجاوزة للتاريخ
transhistorical Utopia
Page inconnue