أما بعد ... فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق؛ فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها، ولكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي، فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك ... وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فغضب الرشيد من هذا الكتاب غضبا شديدا، حتى لم يجرؤ أحد على النظر إليه من غضبه ... وكتب إليه كتابا غير مؤدب أيضا - والبادي أظلم - يقول فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم ... من هارون الرشيد إلى كلب الروم.
قد قرأت كتابك، والجواب ما تراه لا ما تسمعه.
وقد بر الخليفة بإيعاده، وشخص بنفسه على رأس جيشه، حتى وصل إلى «هرقلة» - إحدى البلاد البيزنطية - فدارت بين الفريقين معركة حامية؛ أسفرت عن هزيمة الروم هزيمة منكرة، وقد تبين من هذه الحروب أن الفنون الحربية عند المسلمين كانت أرقى منها عند الروم، وتوسل نقفور إلى الرشيد أن يقبل منه جزية أكثر من تلك التي قبلها من إيريني، فأجابه الخليفة إلى ذلك، وقد كانت تنشأ ثورات أخرى، منشؤها محاولة إرجاع الدولة العباسية إلى عهد الفرس الماجد الزاخر، وهذا داء قديم.
وكثير ممن اتهموا بالزندقة، وقتلوا عليها في عهد المهدي، كانوا أشخاصا حاولوا مثل هذه المحاولة، وكانت ثورات سياسية ... إنما صبغت بالصبغة الدينية لاستمالة الرأي العام. وقد اتهم البرامكة بمثل هذه التهمة بجانب التهم التي عددناها، وذلك مثل ثورة الخرمية في طبرستان ... فقد تحركوا بناحية أذربيجان تدعوهم إلى ذلك القومية - على ما يظهر - فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فارس فأسر وسبى حتى انتهى أمرهم.
الشعر والغناء
مجالس الرشيد
على كل حال لم يخلد اسم هارون تلك الحروب ولا الانتصارات، وإنما خلدته مجالس الأدب والعلم ومجالس الغناء.
نعم، قال أبو تمام: «السيف أصدق أنباء من الكتب».
Page inconnue