وأنفذ كمال وعده إلى الفقراء، فقد كانت تهبط عليهم صبابة من المال من حين إلى حين، وكم فرحوا حين وافتهم الدفعات الأولى، ثم كم حزنوا بعد حين.
لم يكن هؤلاء الفقراء إلا الأجراء الذين يعملون بالأجرة في حقول الملاك الصغار، وقد كان شأنهم في هذا الموسم أن يستأجروا ليبذروا البرسيم تحت الذرة، ولكن الملاك لم يستأجروا واحدا منهم ولم يبذروا البرسيم، بل إنهم لم يفكروا في قطع الذرة وتهيئتها للبيع، وكيف لهم أن يفعلوا وهم لا يدرون ماذا يحمل لهم الغد؟! أتعيش بهائمهم لتأكل البرسيم؟ أيباع الذرة إذا قطع؟ لا يعرفون، فهم لا يستأجرون أحدا، وبحسبهم ما معهم من ثمن القطن يعيشون به وتعيش به بهائمهم أيضا، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
الفقراء أيضا في حال من السخط الشديد، فما كانت الأموال المفاجئة لتغنيهم عن الأجر المنتظم ...
مجلسان في القرية لم ينقطع فيهما الحديث فجأة، ولم تلتق فيهما العيون حسرى كليلة؛ المجلس الأول هو مجلس كمال، وقد كان يأخذ فيه مكانه من الأرض صدر الليل، حتى إذا انتثر الناس وانفضوا إلى بيوتهم وخلا بهم المجلس، ارتقى كمال مكانه على الأريكة، أما الأرض فهي لأي واحد منهم غيره، وقد تنبهوا بعد الليلة الأولى أن يتركوا بهذه الحجرة الزهار أو النمرود إذا خرجوا هم إلى عملية لهم، حتى يبيع ذلك المتروك من المخدرات إلى من يقصد إلى بيت النمرود في أغوار الليل. وقد أمر كمال أن يكون البيع دائما خارج البيت حتى لا يكتشف المشتري خلو الحجرة منهم عندما تخلو. على أنهم لا يلبثون بعيدا عن الغرفة إلا ريثما يتم تسليم المبلغ المفروض، ويذهبون إلى المغارة يودعونها أسلحتهم، ثم هم ينقبلون إلى حجرة النمرود فرادى.
وأما المجلس الآخر الذي اتصل فيه الحديث فهو مجلس الحاج علي، الذي تخلى عنه الحاج إبراهيم ليحل محله أحمد أبو خليل الذي لم يدفع بعد مؤخر الرشوة إلى الشيخ رضوان، وقد اتصل الحديث بينهم؛ لأنهم كانوا يمتدحون ما تقوم به جماعة الخير ويذيعون هذا الحديث ويروجونه؛ فقد كان النفاق في دمهم لا يطيقون عنه محيدا. وقد كانوا جميعا أضيق ما يكونون بجماعة الخير؛ فقد دفعوا هم أيضا - ما عدا أحمد - الإتاوة المفروضة عليهم، ثم ارتأوا أن يذيعوا بين الناس أنهم دفعوها حبا في الخير، واقتناعا بالفكرة التي تسعى إليها جماعة الخير. يحاولون بذلك أن يدافعوا عن كرامتهم التي هتكها الإجبار، وتبعهم في قولهم بعض القوم ليظهروا أمام نسائهم أنهم أشداء وإن كانوا قد دفعوا الإتاوة، وأنهم كرماء يطيب لهم أن يمدوا للفقير عونا.
كان هؤلاء قلة على أية حال، وكانوا إذا خلوا بأنفسهم صارحتهم أنفسهم بحقيقة أمرهم فأصمتوها خشية أن يطلع أحد على خبيء نفوسهم أو خشية أن تنم عليهم نفوسهم. نعم، لقد كان أبناء قرية السلام يخشون من أنفسهم أن تشي بهم أنفسهم.
أمر كمال ألا يغالي أفراد الجماعة في إظهار مالهم الذي كسبوه من أعمالهم؛ فقد كان يخشى أن يدل ثراء المظهر على ما تدرؤه الأخصاص والمغارة والظلام عن العيون. ولكن أملا كان يتردد في نفس الزهار أراد اليوم تحقيقه. إنه الأمل الذي بثه كمال إلى نفسه حين كان يجتذبهم إلى إنشاء الجماعة: سعدية.
استأذن الزهار كمالا أن يحقق أمله اليوم؛ فليس أصلح من اليوم يحقق أمله، فالزوج قد طلق والمنافس لا يطيق أن يطاوله بالمال، والطريق معد ولم يبق إلا السير فيه. أذن له كمال وأعد له ما يقول عن أسباب غناه، فحفظه ومضى شأنه إلى سعدية التي أقامت ببيت أبيها حتى يبيع أحمد قطنه، وحتى يبيع أيضا بعضا من قراريطه ويهيئ لها العيش الذي تصبو إليه، وكان أبو سعدية قد مات بعد أن زوجها إلى صالح، وكانت أمها ضعيفة لا تملك من أمر ابنتها شيئا، فأصبح أمر سعدية كله بيدها. - كيف أنت يا سعدية؟ - أهلا زهار، يا ترى أنظيف في زيارتك أم تحمل معك تهمة من التي توزعها؟ - لا نظيف والحمد لله. سمعت يا سعدية أنك ستتزوجين من الولد أحمد؟! - وما لزوم ولد هذه؟ - إذن فأنت ستتزوجين منه؟! - وما له؟ هل في الزواج عيب؟! - لا عيب به إن كنت تختارين من يليق بك. - وما له أحمد؟ - من أجل الفدانين؟! - فدانين وعشرين قيراطا هل تملكها أنت؟! - لا أملك أرضا، ولكني أملك مالا. - أتسمي هذه القروش التي تنحتها مالا؟ - مري أنفذ، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. - من أين لك؟ لو كنت أكثر جرأة مما أعرفه عنك لقلت إنك من جماعة الخير. - يا ليتني كنت، يا ليت. - والله لو دخلتها لخربت. - يا ستي ما لنا وما لهم؟ أجيبي فيما أسألك. - أجبني أنت أولا: من أين لك المال؟ - شاركت النمرود، أذهب أنا إلى البلاد ويقيم هو هنا، وقد أفاد هذا التجارة؛ لأن المخبرين لا يعرفونني، فاستطعت أن أبيع صفقة كبيرة.
ورأت سعدية أن كلام الزهار معقول، وهي تعلم أن التجارة التي يعمل بها تدر الربح الوفير، وهي ترى أن أحمد يطاولها، وإن كانت أعذاره في المطاولة واضحة لا ريب فيها ... وهكذا رأت ألا تقطع الأمل من نفس الزهار فتضمن زيجة على أية حال، فإن لم تتم الزيجة بمن تحبه، فلتكن زيجة بمن يحبها، فقالت في اهتمام: والله طيب يا زهار فأنت تكسب كثيرا الآن. - أكثر مما تحلمين به، وأضعاف ما سيأتيك به أحمد، وإنك تعلمين أنني أحبك قبل أن تتزوجي من صالح. لقد أحببتك وطلبت الزواج بك قبل صالح وأحمد، لماذا لم يطلب أحمد الزواج بك قبل صالح؟ - أتتجاهل؟ ألا تعلم أنه كان حينذاك فقيرا لا يملك شيئا؛ فقد كان أبوه لا يزال يحيا، وكان - كما تعلم - بخيلا، فلم يرض أن يعطيه ما يتزوج به. - ولكنني كنت أحبك أكثر من أي إنسان في الدنيا، ألا تعلمين ذلك؟ - أعلم يا زهار، ولكن أحمد ماذا أقول له؟ - لا تقولي شيئا، أما ترين أنه حتى الآن لم يتزوجك؟ - معذور والله، وأعلم عذره. - وما عذره؟ - أراد أن يبيع بعض قراريط من أرضه فلم يستطع، فإنه منذ أخذت جماعة الخير الإتاوة عن الفدان الذي باعه عبد الحميد إلى عبد الجليل شيخ الخفراء، والبيع والشراء قد انقطعا من البلد تماما، وقد حاول أن يبيع فدانا في السر إلى الحاج إبراهيم، وتعهد أن يقوم هو بالزراعة إلى أن يكشف ربنا الغمة ... الغمة، حتى لا تعرف الجماعة أنه باع شيئا، ولكن الحاج إبراهيم كان قد أقسم يمين طلاق ألا يشتري منه، وعرض عليه الفدان بأربعمائة جنيه فلم يقبل الحاج أن يشتري. - هيه ولماذا لم يبع القطن؟ - والله، الله أعلم! - ولماذا لم يبعه إلى أبي عليوة، لقد سمعت أنه قبض منه العربون. - الله، ولد يا زهار، ستجعلني أقول لك كل أسرار الرجل؟! - يا ستي وهل بيننا سر؟ - لقد جعلني أقسم ألا أبوح بهذا السر. - وهل إذا قلته لي تحنثين بيمينك؟ أنا نفسك يا سعدية، ألم تعرفي هذا بعد؟ - عارفة يا زهار.
وصمتت بعض الحين، ولكنه أبى عليها الصمت. - هيه ... ماذا سيفعل أحمد؟ - أخاف يا زهار أن تقول لأحد. - يا سعدية اتقي الله، أنا أذيع سرا لك؟! - لقد أقسم أحمد على المصحف ألا يعطي جماعة الخير إتاوة على قطنه. - عجيبة وما الداعي؟ أهو الرجل الوحيد بالقرية؟ لقد باع أغلب الأعيان أقطانهم ودفعوا الإتاوة، أهو أشجع من العمدة أم من الحاج علي أم من نور الكحلة؟ - أراد أن يثبت أنه أشجع منهم جميعا. - عجيبة ولماذا أراد أن يثبت هذا؟! - كان يتكلم معي وجرى الحديث عن الجماعة، فقال: إن البلد ليس فيه رجال وإنهم جميعا نسوان. فقلت له: وماذا فعلت أنت؟ وعيرته بأنه يمدحهم في دكان الحاجعلي، فأخذته الحمية، وأقسم ألا يعطي الجماعة إتاوة، وأن يبيع القطن برغم الجماعة ... الجماعة. - هيه والله رجل، وماذا سيفعل؟ - احذر يا زهار أن تبوح بهذا الحديث لأحد؛ إنها حياة رجل وأنت المسئول عنها. - أتشكين يا سعدية؟ إذن فلا تقولي السر. - سأقوله، ولكن اقسم أولا ألا تبوح به لأحد. - وحياتك.
Page inconnue