كانت درية تعلم أن فخري لم يقم في القرية بعدما كان من أبيها، وأنه رحل إلى القاهرة في الباكر من الصباح التالي؛ فهو لم يسمع من أمر الجرائم التي تمت شيئا، وهكذا كانت تعلم أنها في زيارتها تلك لن تلقاه، ولكنها أرادت أن تقوم بهذه الزيارة عسى الأمل ألا ينقطع عند آل الشيخ حسن، وعساهم يكررون الطلب إذا ما سنحت سانحة ليتكرر هذا الطلب. - مساء الخير يا خالتي أم صلاح. - أهلا مساء الخير يا حبيبتي، خطوة عزيزة، مرحبا بالحبيبة بنت الحبيب. - أكثر الله خيرك يا خالتي أم صلاح، كنت في البلدة فلم أرض أن أمر ببيتك دون أن أزورك. - مرحبا يا حبيبتي، شرفت! يا فاطمة. - نعم يا ستي أم صلاح؟ - عندك البن في الطاق، اعملي لنا فنجان قهوة الله يسترك، أنت عارفة مكان الحاجات. - من عيني يا ست أم صلاح.
وتقوم فاطمة إلى القهوة، وتعود أم صلاح إلى ضيفتها: أظنك كنت تزورين المساكين الذي اعتدى عليهم قاطع الطريق. - إي والله يا خالتي مساكين، حالهم يبكي. - لا أعلم والله أين كانت هذه المصائب مختبئة لنا يا بنتي؟ - إي والله يا خالتي. - والمصيبة أن المصائب كلها جاءت متلاحقة، عمك الشيخ حسن مريض منذ كان عند أبيك، خرج مريضا من عندكم، ولم يخرج من البيت حتى الآن. - ألف سلامة له. - والله زعل من أبيك جدا يا درية. - ما له يا خالتي؟ كفى الله الشر. - والله يا بنتي لا أعرف، حمى - بعيد عنك - أم برد لا أدري، لا يكلم أحدا ولا يأكل شيئا منذ جاء من عندكم، وزاد عليه المرض عندما سافر فخري . - كل شيء يهون يا خالتي إن شاء الله. - عرف بالحوادث التي جرت، وحاول أن يقوم فلم يستطع القيام، حتى لقد جاء الخواجة استاورو قبل أن يسطى عليه فلم يستطع أن يلقاه، وقال إنه سيعود إلينا في اليوم التالي، ولكن اللص هاجمه في الطريق فلم يعد بعدها إلى البلد أبدا. - وبعد يا خالتي؟ - لا بعد ولا قبل، هي مصيبة وحطت علينا، والأمر لله، حتى الذين باعوا قطنهم للخواجة استاورو وقبضوا منه عرابين قطنهم لم يأتهم أحد ليتسلم القطن، وقد سمعوا أن الخواجة لن يعود إلى بلدة السلام مرة أخرى، وقد قصده أحمد أبو خليل يطلب إليه أن يأتي ليتسلم قطنه فقال له: إنه لن يعود إلى البلدة أبدا، وإنه لا يريد العرابين التي دفعها. - وبعد يا خالتي؟ - القطن عندنا كالقتيل لا يجد من يشتريه، وقد ذهب أخوك صلاح اليوم إلى المديرية ليبحث عمن يشتريه، ولم يعد حتى الآن. - إن شاء الله يجد المشتري يا خالتي. - والله يا بنتي لا أظن، التجار خائفون من القرية، والتجارة يا بنتي أمان، النهاية ... كيف حالك أنت؟ - الحمد لله يا خالتي.
وعادت فاطمة بالقهوة، فراح ثلاثتهن يشربنها على حديث فاطمة التي انتهزت فرصة الصمت من السيدتين، فقالت: ألم تري وطنية اليوم يا ستي أم صلاح؟ - لا والله يا بنتي، لها أيام لم تأت. - هناك ... إنها اليوم في أحسن حال - على الأقل في شكلها - إلا أنها مع كل ما هي فيه من نعيم غاضبة ساخطة كأنما مات لها عزيز. - خير؟ ما الذي جد عليها؟ - جد عليها؟ جلباب إن رأيته قلت فستانا أحمر حلو، وعصبت رأسها بمنديل جديد، والعجيب أن شعرها خاضع للمنديل الجديد ولا أدري بماذا أخضعته، لا بد أنها اشترت له زيتا غاليا.
فقالت أم صلاح: عجيبة! ألا تكون هي قاطعة الطريق ونحن لا ندري؟
وضحك النسوة الثلاث ضحكا عاليا، قطعه عليهم سعال الشيخ حسن صادرا من مقعده بأعلى المنزل ينادي زوجته: يا فضيلة. - نعم يا شيخ حسن. - فنجان قهوة وحياة والدك. - حالا يا سي الشيخ .
وقبل أن تستأذن فاطمة لعمل القهوة، استأذنت درية لتنصرف قالت أم صلاح: ولم؟ اقعدي قليلا سأعود إليك حالا. - لا، تأخر بنا الوقت وأخشى أن يدخل أبي فلا يجدني، وهو في هذه الأيام غاضب ضيق النفس لا يطيق الدنيا، مسيت بالخير يا خالتي. - مسيت بالخير يا حبيبتي، بلغي سلامي للست الحاجة، وإن شاء الله أجيء إليها عندما يغادر عمك الشيخ حسن الفراش. - سأبلغها يا خالتي.
وحيت فاطمة أم صلاح وانصرفت تتبع سيدتها إلى الخارج، حيث وجدتا فتحي واقفا ينتظر خروجهما، وسار الركب عائدا إلى بيت العمدة، مارا بالنيران والأنوار الخافتة والرجال المتحلقين، ولكن درية لم تحفل شيئا مما مرت به؛ فقد هاجت لها الزيارة ذكريات قديمة وجديدة لازمتها حتى أسلمتها إلى أمها المتسائلة عن التأخير، فراحت درية تقص عليها ما لقيته في البيوت المنكوبة، وراحت الأم تسمع في عجب حزين.
وحين خلت درية بحجرتها وأعادت ما كان من أم صلاح وترحيبها، أدركت أن أم فخري لم تقطع الأمل؛ فهي تعرف عن الست فضيلة ذكاء متوقدا، وهي تعرف أنها ما كانت لترحب بها هذا الترحيب إلا لأنها تضمر في دخيلة نفسها أن تعود إلى المحاولة، وقد تمكن هذا التفكير من درية حين تذكرت وعد أم صلاح بزيارة أمها، وهي تدري أن أم صلاح ما كانت لتزور الأم إن كانت قد قطعت الأمل في هذا الزواج الذي تصبو إليه نفوس كثيرة، وهي تدري أن أم صلاح ما طلبت إليها أن تبلغ والدتها بهذه الزيارة إلا لتشير لدرية نفسها من طرف خفي أنها غير غاضبة، وأنها ما زالت تأمل أن يتم هذا الزواج، فما كانت أم صلاح لتغبى أن زيارة درية إنما تمت في خفاء عن والديها.
وبهذه الآمال التي أحيتها درية في نفسها استسلمت إلى نوم منصور، وأغمت عينيها على أحلام وردية لا شأن لها ولا صلة بهذا السواد الحالك الذي يحيط بقرية السلام، وبعمدة قرية السلام.
11
Page inconnue