وتمالك الشيخ عبد الودود نفسه بعض الشيء وهو يقول: والله يا بني أنا لا أستطيع أن أعطيك الحزام بيدي، فخذه أنت إن شئت. - فارفع هذا القميص. - لا أستطيع يا ابني يدي لا تقوى.
ويمزق صاحب اللثام القميص أيضا، ويفك أربطة الحزام فيخلص إليه، فيدفع الشيخ بعيدا عنه ويصيح في وجهه: امض، اذهب الآن. - أذهب؟ - أسرع.
يقولها ويطلق عيارا في الهواء فينكفئ الشيخ من الرعب، ولكن قدم صاحب اللثام تعاجله بركلة فيقوم مهرولا طريقه إلى البلدة، ينكفئ فيحس قدم اللص التي ركلته فيقوم ثم ينكفئ، ويقوم حتى يدخل البلدة ذاهلا هلعا ينكفئ، لا يسمع حتى تلك الأعيرة التي تعالت متكاثرة بعد العيار الذي أطلق لإخافته؛ فقد ظن الحراس أن هذا العيار قد أطلق لإيقاظهم، فراحوا يظهرون مقدار يقظتهم بأعيرة عالية الصوت تجاوب صداها في وسيع الفضاء.
8
رجع المشايخ الثلاثة من عند العمدة وقد أذهلتهم في ليلتهم تلك أمور كثيرة؛ عجبوا أول ما عجبوا من الحاج إبراهيم وغضبه، وقد تعودوا أن يمزحوا معه في شأن هذا الفدان وتعود هو مزاحهم، وكان يقبله؛ لأنه لا يمس حقيقة نفسه، فقد كان يدري أن يده لم تمتد يوما لغير الحق، وقد كان يحسب إخوانه يدركون أنه لن يرضى لنفسه إلا هذا الحق الذي ألزم به نفسه، ولكنه حين رأى مزاحهم يلقى في مواطن الجد، اتخذ هذا الموقف الحازم وألزمهم حدا يقفون عنده. وعجبوا من إقبال الشيخ حسن الضاحك المستبشر، ثم انصرافه الغاضب العجلان. ثم عجبوا من ثورة العمدة بأحمد أبي خليل، وميله إلى صالح بعد أن عرف فقر صالح وعثر يده، ومع تمام علمه بغنى أحمد وكرمه إذا اقتضى الأمر كرما، وراحوا يتساءلون في أنفسهم أهي غمزات الحاج إبراهيم حركت في العمدة بقية عفة، أم أن العمدة غاضب الشيخ حسن فضاق صدره وأفرغ غضبه على أحمد. أيا كان الأمر فقد مشى ثلاثتهم صامتين يدير كل منهم الأمور في رأسه ولا يبين عنها.
وعلا ضجيج المساء من حولهم فازداد صمتهم، فليس لأمسيات الصيف في الريف سكون، فثمة الكلاب النابحة تتناوب النباح كأنها موكلة بالسكون ألا يسكن، فإن مرت هنيهة لم يجب فيها كلب كلبا علا نقيق الضفادع وتصاعد من كل أقطار الأرض، فيخيل إليك أنها تعيش في البيوت والطرق والحقول وكل مكان، ولا تقتصر سكناها على الترع ومواطن الماء، وقد يطيب لها من حين إلى حين أن تقطع ضوضاءها طفرة واحدة، ومن ثم تتبين صوتا منفردا كان يخالط أصواتها فيكونان معا نغما واحدا تعوده أبناء القرى ويضيق به زوارها، إن صمتت الضفادع صات هذا الصفير وحده، فهو صفير تسلخت نغماته ودقت، فما فيه من حلاوة الصفير شيء: إنها الصراصير تشارك في العدوان العنيف على سكون القرى.
وكان المشايخ الثلاثة غارقين في صمتهم تصل إليهم هذه الأصوات، فلا يحسون من أمرها شيئا، فهي توافيهم مع غروب الشمس، فهم قد عودوها كما عودوا أن تغرب الشمس فيحل المساء، ولكن صوت طلق ناري اندفع إلى آذانهم غير بعيد وغير قريب أيضا، ثم تبعه طلق ثان فثالث فرابع، فتضاحك الحاج علي، وقد انتوى أن يقطع صمتهم الذي طال به الأمد: يا أخي أولاد الكلب هؤلاء لا يكفون عن إطلاق النار في الهواء، فإن هاجمهم لص ولوا الفرار، أتراهم يحرسون القطن من الهواء الذي يصوبون إليه أعيرتهم؟! والله صدق من قال:
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
فقال الشيخ رضوان: يا أخي أنت لا يسلم أحد منك أبدا ، هل أنت مسحوب من لسانك يا أخي؟ وماذا فعل بك هؤلاء الخفراء أيضا؟ إنهم ينبهون بعضهم بعضا حتى إذا جاء اللص ...
Page inconnue