وشهدت حجرة أحمد سلطان في تلك الليلة روايات كاد يقف لها شعر صفوت، روايات جعلته يعتقد أنه - بكل مغامراته وما فعله - ليس سوى قطرة من بحر أحمد سلطان. بل الأمر لم يقتصر على هذا، ولم تقتصر اعترافات أحمد سلطان على نفسه. تعدتها الاعترافات ومضت بكلمة وراءها كلمة وحقيقة إثر حقيقة، تكشف عن الوجه الآخر لحياة التفتيش، الوجه المستتر دائما الذي لا يظهر أبدا ولا يطلع عليه أحد، الوجه المعقد المتشابك الحافل بكل ما هو أغرب من الخيال، علاقات بين أبناء ونساء آبائهم، وبين فاضلات وفاسقين، وفاسقات وفاضلين، وحجاج و«تملية»، وحتى الموتى وردت في الحجرة سيرتهم.
وأخيرا وبعد مقدمة طويلة ساقها صفوت للتدليل على حياده، وعلى أنه فقط يريد أن يعرف - بصرف النظر عن علاقته الشخصية بالمسألة - طرق صفوت الموضوع الذي من أجله جلس تلك الجلسة واستغرق كل تلك المدة الطويلة في جس النبض، سأل أحمد سلطان - وهو يستحلفه بكل مقدس وشريف - أن يقول الحقيقة، سأله عما يعرفه عن الوجه الآخر للنده.
وهذه المرة - وبوجه جاد وملامح لا تحتمل الشك - نفى أحمد سلطان أنه يعرف عنها أي شيء يدعو للخجل. وعاد صفوت يلح في سؤاله، وعاد أحمد يلح في نفيه وتأكيده.
ومع هذا، وحين قام صفوت وقد بدأت الشمس تستعد للمغيب، حين قام ليستعد هو الآخر للرجوع إلى بيتهم، كان لا يزال غير مطمئن تمام الاطمئنان إلى ما قاله أحمد سلطان عن لنده. •••
أما أحمد سلطان فقد ظل برهة طويلة جالسا على نفس المقعد «الجريد» ذي المساند الذي كان يجلس عليه، يحدق في سقف الحجرة ومن خلال نافذتها الوحيدة، ويتأمل. ثم بدأ لمعان غريب يتسرب إلى عينيه، لمعان كومض الجنون أو برق النشوة. ثم بدأ يتململ في كرسيه وكأن مشكلة كبرى تحيره، ولكن تململه لم يدم طويلا فما لبث أن قام من مكانه وغادر البيت. وظل وقتا يحوم في شارع العزبة الرئيسي بحذر - مع أنه الوحيد بين رجال الإدارة الذي كان قد كسر قانون عدم اختلاط الموظفين بالفلاحين - حتى أصبح وجوده في قلب شارع العزبة أو في أحد بيوتها أمرا لا يثير اندهاشا أو تساؤلا. وعند باب بيت مفتوح توقف قليلا، وبهفة من ثوبه وإشارة من يده كانت الجالسة في الداخل قد أدركت هدفه وفهمت أنه يريد لقاءها عند الجامع.
والجامع كان يقع في زاوية العزبة الغربية، جامع مبني بناء رخيصا من الطوب النيئ، ومئذنته قصيرة تبدو كالإصبع المرفوعة المبتورة، والطريق إلى الجامع خال في أغلب الأحيان؛ إذ نادرا ما يستعمل للصلاة إلا في يوم الجمعة، أما بقية الفروض فيؤديها الفلاحون في «المصلى» المقام على الترعة، والذي كان مقامه في أول الأمر على الخليج في مواجهة المنزل الذي يقطن فيه المأمور، ولكنه أمر بهدمه وعدم استعماله، وأقام ذلك المصلى الآخر؛ إذ كان يضايقه - إلى درجة الغضب - مرأى الفلاحين وهم جلوس في المصلى أمام بيته «يجرحون» البيت وسكانه، على حد تعبيره، والأدهى من هذا حين يقبلون في الصباح الباكر ويخلعون ملابسهم ليغطسوا في الترعة ويتطهروا.
لم يمض وقت طويل على أحمد سلطان - في ذهابه ومجيئه وراء الجامع - حتى بدا له من خلال ظليمات المغرب ذلك الثوب الأسود الفضفاض الذي يعرف صاحبته، كانت أم إبراهيم زوجة فقي الجامع وخطيبه ومؤذنه، امرأة فارعة الطول قمحية ذات قدرة خارقة على وضع الكحل في عينيها وحبك المنديل على جبينها وإمساك طرف ثوبها بيدها، وهفها باليد الأخرى حين تمشي وتتمخطر.
وكانت معرفتها بأحمد سلطان وطيدة؛ إذ كانت من أوائل من عرف من النساء حين جاء أول ما جاء إلى التفتيش، ثم تطورت تلك «المعرفة» إلى نوع من الصداقة، تطبخ له أحيانا، وتهاديه بطبق قشطة أحيانا أخرى، مع أنها كانت قد فقدت الأمل فيه وفي تجدد علاقتهما.
سلم عليها أحمد سلطان بحرارة، وقرصها في بطنها كعادته في الأيام الغابرة، وبعد عتاب طويل منها وحجج منه قال لها: عايزك في حاجة. - اؤمر. - لنده.
قال الكلمة وسكت، ولم تسأله هي أيضا منتظرة أن يكمل، وخائفة في الوقت نفسه ألا يكمل، هي فاهمة وهو فاهم ولا داعي للتغابي.
Page inconnue