Mouvements de réforme et centres culturels dans l'Orient islamique moderne
محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث
Genres
أصبح السيد محمد مرتضى بعد سنة علما من أعلام الفكر والعلم، لا في مصر وحدها ، بل في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولا في أوساط العلماء وحسب، بل في أوساط الحكام والأمراء والملوك في مختلف الدول الإسلامية، فطلبه السلطان عبد الحميد للذهاب إلى عاصمة الخلافة في سنة 1194ه، فأجاب، ثم امتنع.
يقول الجبرتي: «وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق، وملوك المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة، وكثرت عليه الوفود من كل ناحية.»
وأصبح الشيخ يعيش في بحبوحة من العيش، فاشترى الجواري وأولم الولائم للضيوف وأكرم الوافدين عليه، وأصبح بيته محجة يحج إليها كل الواردين والوافدين على مصر من أنحاء العالم الإسلامي، ومصر بحكم مركزها المتوسط يكثر بها الوارد والوافد من الشرق ومن الغرب؛ للزيارة أو للتجارة، أو في الطريق إلى الحج، وكان هؤلاء جميعا يحملون للسيد الهدايا والصلات من الطرف الغريبة الموجودة في كل إقليم، وكان السيد بدوره يرسل الطرف من هدايا كل إقليم إلى الإقليم الذي لا توجد فيه، فيأتيه في مقابلها أضعافها؛ فقد أهدي إليه مرة أغنام من إقليم فزان، وهي - كما وصفها الجبرتي - «عجيبة الخلقة عظيمة الجثة، يشبه رأسها رأس العجل»، فأرسل منها إلى أولاد السلطان عبد الحميد، فأعجبوا بها كثيرا.
وكان أهل كل إقليم يهادونه بأغرب وأجمل ما في إقليمهم، فكانت تأتيه من السودان الطيور والببغاوات والجواري والعبيد، وكان يأتيه من الهند واليمن ماء الكاري والمربيات، والعود والعنبر والعطر بالأرطال. (1-9) اعتقاد المغاربة والمشارقة في ولايته
وكان أهل المغرب أكثر الناس حبا له وتعلقا به واعتقادا فيه؛ يقول الجبرتي: «وربما اعتقدوا فيه القطبانية العظمى، حتى إن أحدهم إذا ورد إلى مصر حاجا ولم يزره ولم يصله بشيء، لا يكون حجه كاملا!»
وقد بلغ السيد محمد هذه المكانة في قلوب المغاربة؛ لذكائه ورقته في معاملتهم وحسن ضيافته لهم، فكان إذا زاره واحد منهم سأله عن اسمه وأهله وبلده، ومكان سكنه ... إلخ، وحفظ هذا كله أو سجله عنده، فإذا ورد عليه بعد ذلك زائر آخر له صلة بالزائر السابق، فيبادره بالسؤال عنه فيقول له: «فلان طيب؟ فيقول: نعم سيدي. ثم يسأله عن أخيه فلان وولده فلان، وزوجته وابنته، ويشير له باسم حارته وداره، وما جاورها، فيقوم ذلك المغربي ويقعد، ويقبل الأرض تارة ويسجد تارة، ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصراح»؛ ولذلك كان المغاربة يتزاحمون على بابه في موسم الحج ازدحاما شديدا من الصباح إلى الغروب، وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيئا: إما موزونات فضة أو تمرا أو شمعا، على قدر فقره وغناه، وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها، ويلتمسون منه الأجوبة، فمن ظفر منهم بقطعة ورق - ولو بمقدار الأنملة - فكأنما ظفر بحسن الخاتمة، وحفظها معه كالتميمة، ويرى أنه قد قبل حجه، وإلا فقد باء بالخيبة والندامة، وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده، ودامت حسرته إلى يوم ميعاده.»
ولم يكن اعتقاد المشارقة في السيد مرتضى أقل من اعتقاد المغاربة، وخاصة الأمراء والحكام، وكان أقواهم عقيدة في ولايته أحمد باشا الجزار حاكم سوريا، فكان يراسله ويهاديه، وإذا وفد عليه وافد من مصر سأله عن السيد محمد، فإن مدحه وأثنى عليه، وأجاب أنه يعرفه ويجتمع به ويأخذ عنه، أحبه وأكرمه، وأجزل صلته، وإن أجاب بأنه لا يعرفه ولا صلة له به، نفر عنه وقابله بالوجوم، ولم يحقق له مطلبا، وقد عرفت هذه الخلة عن الجزار، فكانت المفتاح الذي يستعمله الناس للوصول إلى قلبه، والحصول على عطفه.
ومع إقبال الحياة والناس على السيد مرتضى، ومع مكابة الملوك والعلماء له، وشهرته التي ذاعت في جميع أنحاء العالم الإسلامي؛ لم تفتر همته ولم يقل نشاطه، بل ظل دءوبا على العمل والإنتاج، مداوما على إلقاء دروسه في مسجد الحنفي وفي مسجد شيخون، وفي منزله ومنازل أصدقائه، وكانت كتبه التي ألفها ودروسه التي ألقاها تدور في معظمها حول علم الحديث. وقد أحصى له الكتاني اثنين وثلاثين كتابا كلها في علم الحديث، كما أحصى له عشرين كتابا أخرى فيما سماه «الصنعة الحديثية»، أي العلوم المتصلة بالحديث.
ومن كتب المجموعة الأولى: كتاب عنوانه «الأمالي الشيخونية» ويقع في مجلدين، وقال في التعقيب عليه: «وقد بلغت أربعمائة مجلس إلى تاريخ إجازته لأبي الأمداد محمد بن إسماعيل الربعي اليمني، وذلك تمام سنة 1195ه.» (1-10) وفاة زوجته وانعكافه
ويبدو أن السيد مرتضى انقطع عن إلقاء دروسه أو أماليه الشيخونية في علم الحديث في أواخر هذه السنة، وهي سنة 1195ه؛ فقد أصيب بعد ذلك بقليل بالملمة الكبرى التي هدت كيانه وأدمت قلبه، وصرفته عن الحياة، ودفعته إلى العزلة والتفرغ للعبادة، وتأليفه كتابه الآخر الكبير «شرح إحياء علوم الدين للغزالي»، هذه الحادثة هي فقد زوجته؛ فقد توفيت في سنة 1196ه، وحزن عليها الزبيدي حزنا كثيرا، ودفنها عند مشهد السيدة رقية، وبنى على قبرها مقاما ومقصورة، وزوده بالستائر والفرش والقناديل، ولازم قبرها أياما طويلة، وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون، ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكو والقهوة والشربات»، ثم اشترى قطعة أرض مجاورة للقبر، وبنى عليها منزلا صغيرا، وأثثه وأسكن به أمها، وكان يبيت به أحيانا وقد رثاها كثير من الشعراء، فكان يجيزهم بالمال الوفير، ورثاها هو بشعر كثير جميل لم يطلع الناس عليه، وإنما عثر على بعضه تلميذه وصديقه عبد الرحمن الجبرتي في أوراقه المدشتة، ونقل بعض هذا الشعر في تاريخه، وهو شعر جميل في معظمه، يدل على وفاء نادر، وفيه يعبر الزبيدي عن حزنه وألمه لفقد هذه الزوجة الحبيبة، ويصف جودها وحلمها وحياءها وطيب محتدها، ويذرف الدمع سخينا لفقدها، ويبكي حبها وحدبها عليه، وطاعتها له، وعنايتها بتوفير الراحة له.
Page inconnue