Mouvements de réforme et centres culturels dans l'Orient islamique moderne
محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث
Genres
ومنها أن ابن تيمية - وهو يدعو للعودة إلى الإسلام في حالته الأولى - اضطر إلى مهاجمة كل الفرق الدينية التي وجدت منذ ظهر الإسلام إلى عهده؛ كالخوارج والمرجئة، والرافضة والقدرية، والمعتزلة والجهمية، والكرامية والأشعرية، والنصيرية وغيرها، واضطر كذلك إلى الطعن في رجال الدين والمتصوفة وفقهاء المذاهب المختلفة، ومعظم هؤلاء كانوا يلون الوظائف الكبرى في الدولة كوظائف قضاء القضاة والحسبة ومشيخة الشيوخ والتدريس، وكانوا تبعا لهذا ينالون الأموال الجمة التي تأتيهم من الجوامك والرواتب والأوقاف والنذور ... إلخ، ونجاح دعوة ابن تيمية يسلبهم كل ما كان لهم من سلطان ومال؛ ولهذا كانوا هم - لا الشعب - الذين حملوا عليه وحاربوا دعوته، إلى أن أضعفوا من شأنها، أما بلاد العرب فلم يكن بها هذا العدد الوفير من العلماء والفقهاء والمتصوفة وأتباع المذاهب المختلفة، ولم يكن للقلة الموجودة منهم في بلاد العرب من المصالح قدر ما كان لعلماء مصر والشام على عهد ابن تيمية. حقيقة قد عارض ابن عبد الوهاب بعض معاصريه من علماء نجد والأحساء، ولكن معارضتهم لم تكن من القوة بحيث تؤثر في حركة ابن عبد الوهاب أو تضعف من شأنها.
ومنها أن حركة ابن تيمية ظهرت والعالم الإسلامي لا يزال في عنفوان قوته، بعد أن انتصر انتصاراته الحاسمة على الصليبيين والتتار في حطين وعين جالوت، وبينما هو يبذل الجهود لمقاومة غزوات التتار المتجددة على الشام، في حين أن دعوة ابن عبد الوهاب ظهرت والعالم الإسلامي قد شاخ ونالت منه عوامل الضعف والانحلال، فربط المسلمون في أذهانهم بين عوامل التأخر الديني وعوامل الضعف السياسي، ورأوا أن الأولى سبب للثانية، واعتقدوا أن القضاء على عوامل التأخر الديني والعودة إلى أصول الإسلام قد يقضي على عوامل الضعف السياسي، ويعيد للعالم الإسلامي ما كان له من عزة وقوة.
ومنها أن حركة ابن تيمية اقتصرت على الجدل الديني والمناقشات الفقهية، ولم تستعن بسند حربي أو بقوة سياسية، أما ابن عبد الوهاب فكان أبعد نظرا وأكثر نجاحا، ورأى أنه لكي يضمن لدعوته النجاح؛ لا بد له أن يضع لها برنامجا سياسيا إلى جانب البرنامج الديني، وأن يستعين بقوة سياسية حربية، وأدرك منذ اللحظة الأولى أنه لا أمل في الدولة العثمانية التي كانت تحكم جميع أجزاء العالم الإسلامي الواقعة في الشرق الأوسط؛ لأنها كانت دولة ضعيفة، وهي في ضعفها ترى في كل حركة إصلاحية خطرا عليها وعلى كيانها؛ فهي لذلك تحارب كل مصلح، وتناهض كل ناصح.
وأدرك ابن عبد الوهاب كذلك أنه لا أمل في علماء الدين في الحواضر الإسلامية الكبرى؛ كالقسطنطينية ودمشق والقاهرة، فهم قد تحولوا مع الزمن إلى عقول جامدة، لا تنشط إلى تفكير جديد أو إلى محاولة للإصلاح، وهم قد أصبحوا موظفين رسميين يؤمنون بالطاعة العمياء لولي الأمر ما دامت لهم مناصبهم الموقرة وأرزاقهم الموصولة؛ ولذلك لم يكونوا على استعداد لأن يجازفوا بهذا كله في سبيل نظريات أو دعوات جديدة تتطلب الكثير من الجهد والتضحية، وقد يكتب لها النجاح أو الفشل.
لهذا كله قدر محمد بن عبد الوهاب أنه - لكي يدرك شيئا من النجاح لدعوته - لا بد له أن يتعاون مع قوة سياسية حربية؛ لأن النظريات والمثل العليا لا تستطيع أن تنتصر بقوتها وصدقها وحسب، بل بما يؤيدها من قوى السياسة؛ ولهذا اتصل بأمير الدرعية محمد بن سعود، وتعاهد الرجلان على الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى استقامة الشعائر، ونشر الدعوة في جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها.
ونجحت الدعوة شيئا فشيئا، ودخل الناس فيها أفواجا، ومن عارضها من أمراء أو شيوخ العرب حورب وأخضع بالقوة، وكلما دخل الرجلان - الشيخ والأمير - بلدة أزالا البدع ونشرا تعاليمهما، وبعد موتهما تعاقد أبناء الأمير وأبناء الشيخ على أن يعملوا متآزرين لنصرة الدعوة، وظلوا يعملون إلى أن دخلوا مكة والمدينة.
وعند ذلك شعرت الدولة العثمانية بخطر الحركة وخطر نجاحها، إن نجاحها يؤدي إلى فصل الحجاز، وخروجه من يدها، أو بمعنى آخر خروج الحرمين الشريفين، وهذا يفقدها الشيء الكثير؛ يفقدها الزعامة التي تتمتع بها على العالم الإسلامي بحكم إشرافها على هذين الحرمين، في وقت كانت قد بدأت تسعى فيه إلى القضاء على عوامل الضعف الداخلية وتقوية الصلات بينها وبين أجزاء العالم الإسلامي؛ باعتبارها مركز الخلافة الإسلامية.
وكانت الدولة العثمانية مشغولة في ذلك الوقت بنضالها مع العالم الخارجي، ولم يكن لديها القوة الحربية الكافية التي ترسلها لبلاد العرب، فاستعانت بمحمد علي، وأرسل محمد علي جيوشه إلى الحجاز، وسافر إلى هناك بنفسه، وظلت هذه الجيوش تقاوم الوهابيين إلى أن انتصرت عليهم، وفي نفس الوقت نشطت الدعوة العثمانية في جميع أنحاء العالم الإسلامي ضد هذه الحركة، واتهمت الوهابيين بالكفر والخروج على طاعة الخليفة، وشارك علماء المسلمين في هذه الدعوة التشهيرية، وشارك الإنجليز كذلك في التشهير بالدعوة الوهابية وتشويه مبادئها؛ لأن أي اضطراب يصيب بلاد العرب يهدد طريق تجارتهم إلى الهند؛ ولأن بعض مسلمي الهند قد اتصلوا بالحركة في مواسم الحج، وبدءوا عند عودتهم إلى وطنهم يدعون دعوات إصلاحية مشابهة.
وهكذا اجتمعت قوى كثيرة على محاربة الدعوة الوهابية؛ ولهذا فشلت الحركة في أول الأمر فشلا ظاهريا، فلم تلق الأفكار الوهابية قبولا في المجتمع الإسلامي خارج بلاد العرب، حتى إن بعض المصلحين المعاصرين من أمثال شاه ولي الله الدهلوي كان يتهم بالوهابية لتنفير الناس من اتباعه، ولعل هذا راجع إلى أن المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت كان يتعلق بفكرة الوحدة أو الجامعة الإسلامية، ويرى أن هذه الوحدة هي السبيل للنهضة ولمقاومة الخطر الأوروبي، وأن أي انفصال أو أية دعوة انفصالية تؤدي حتما إلى إضعاف الخلافة رمز هذه الوحدة، وقد كانت الحركة الوهابية حركة انفصالية؛ لأن سعودا الثاني عندما فتح المدينة ودخلها في سنة 1803م، أرسل إلى السلطان ينهاه عن إرسال المحمل السنوي إلى الحجاز مصحوبا بالطبول والزمور، ثم أخذ يعد الحملات لمهاجمة العراق والشام.
وقد أثارت الحركة الوهابية معارضة نفر آخر من المسلمين، وخاصة رجال الدولة والعلماء؛ لأنها اصطنعت أسلوب القوة والعنف لتنفيذ تعاليمها، فاعتبرت البلاد الإسلامية التي لا تؤمن بمبادئها والتي تنتشر فيها البدع دار حرب وجهاد، وكان الوهابيون إذا دخلوا بلدا استعملوا العنف لإجبار أهلها على اعتناق مبادئهم، فهم عند دخولهم مكة مثلا هدموا كثيرا من القباب الأثرية؛ كقبة السيدة خديجة، وقبة مولد النبي عليه السلام، ولما دخلوا المدينة نزعوا بعض الزينة والمعادن الثمينة والحلي التي كانت تزين قبر الرسول، مما أثار شعور المسلمين وأسفهم، ولكن الوهابيين لم يريدوا أن يلتزموا أضعف الإيمان فيعملوا على تغيير المنكر باللسان، بل أرادوا أن يستعملوا أقوى الإيمان، فاستعانوا بالأيدي لتغيير هذا المنكر.
Page inconnue