359

وعصفت ريح الشتاء في الخارج كالنواح، فتخيل ‏- مأخوذا بنشوة الخيال ‏- أن عاشور أصغى لها ذات ليلة في بدرومه الخالد.

52

في الصباح سقط رذاذ مشبعا بروح أمشير النقية المتقلبة الثائرة، ونفذت البرودة إلى نخاع العظام. مضى شمس الدين فوق الأرض الزلقة متوكئا على عصاه الغليظة. رحب به سمعة الكلبشي وهو متربع فوق أريكته بالقهوة. - أهلا بالمعلم شمس الدين.

دعاه إلى الجلوس إلى جانبه فجلس، ثم سأله هامسا: نشرع في إجراءات البيع؟

فأجاب شمس الدين بهدوء مريب: كلا. - كلا؟! - لا بيع ولا شراء.

فاصفر وجه الفتوة وتمتم: يا له من قرار جنوني! - بل هو عين الصواب.

ارتسمت في أساريره صورة كالحة للشر وقال: تعتمد على مصاهرتي؟

فقال شمس الدين بهدوئه المصمم: أعتمد بعد الله علي نفسي! - تتحداني؟! - بل أصارحك برأيي ليس إلا.

اجتاح الغضب سمعة فلطمه بقسوة. جن جنون الآخر فرد اللطمة بأشد منها. وثب الرجلان في لحظة واحدة شاهرين نبوتيهما. وسرعان ما التحما في معركة قاسية. كان شمس الدين قويا وأصغر من سمعة بعشر سنوات، ولكنه لم يمارس المعارك. وجاء رجال الفتوة من جميع الأنحاء وبسرعة مذهلة وبينهم سماحة. أحاطوا بالمتعاركين دون تدخل من جانبهم احتراما للتقاليد المرعية. وتمكن سمعة الكلبشي من خصمه واستجمع قوته ليوجه إليه ضربة قاضية. في تلك اللحظة وثب سماحة وثبة مفاجئة فهوى بنبوته على رأس الفتوة فتقوض بنيانه وانطرح أرضا. وقع ذلك بسرعة خاطفة. صرخ الرجال وانقضوا على شمس الدين وسماحة، ولكن ثمة مفاجأة أخرى كانت متربصة، انضم نفر من الرجال إلى سماحة وشمس الدين! هتفت أصوات: خيانة وضيعة!

والتحم الفريقان بضراوة ووحشية. تصادمت النبابيت، تلاطمت الأجساد، فرقعت الصكات، تطايرت اللعنات تحت الرذاذ، سالت الدماء، استحرت الأحقاد، أغلقت الدكاكين، هرولت العربات، تجمع الناس في طرق الحارة، اكتظت النوافذ والمشربيات، علا الصريخ والعويل.

Page inconnue