فقال باستخفاف: يوجد شيء حقيقي واحد يا أبي هو الموت.
فقال عبد ربه معتذرا: ما كان يليق أن أشرب في هذه الأيام، ولكني عاجز.
فقال له وهو يسنده: تمتع بحياتك يا أبي.
29
ومضى الخريف يولي، ويقبل الشتاء بقسوته القاهرة. وراح الهواء البارد يسفع الجدران ويلسع العظام. وتطلع جلال إلى سحابة مظلمة فهام بالمستحيل. ورأى ذات مرة ألفت هانم وهي راجعة من القرافة، فكرهها من صميم فؤاده، وبصق في خياله على صورتها المتورمة. قبلته كارهة، ثم تخلصت منه بالموت. والموت عندها طقوس وفطائر. كلهم يقدسون الموت ويعبدونه، فيشجعونه حتى صار حقيقة خالدة. لا شك أنها اغتاظت عندما تسلم نصيبه من تركة قمر؛ لذلك أخذه كاملا، ثم وزعه على الفقراء خفية. وقال لنفسه إن علامة الشفاء عنده أن يحطم رأس الهانم المتعجرفة.
30
وصادف في طريقه جبريل الفص شيخ الحارة فحياه الرجل وقال: لا ترى يا معلم جلال إلا ذاهبا أو آيبا، عم تبحث؟
فأجابه بازدراء: أجد ما لا أبحث عنه، وأبحث عما لا أجد.
31
وانفرد بنفسه تلك الليلة في ساحة التكية، لا التماسا للبركة، ولكن تحديا للظلمة والبرد. هنا خلوة عاشور، هنا اللاشيء. وقال إنه يعترف بأنه ليس عاشقا. لا حزن على حب ضائع. أنا لا أحب. أنا أكره. الكراهية والكراهية فقط. أكره قمر. هذه هي الحقيقة. هي الألم والجنون. هي الوهم. لو عاشت لانقلبت على مثال أمها. تحكم بالغباء وتضاحك التافه وتقلد الأمراء وهي حفنة من تراب. كيف هي الآن في قبرها؟ قربة منتفخة تفوح منها روائح عفنة، وتسبح في سوائل سامة ترقص فيها الديدان. لا تحزن على مخلوق سرعان ما انهزم. لم يحفظ العهد، لم يحترم الحب، لم يتمسك بالحياة، فتح صدره للموت. إننا نعيش ونموت بإرادتنا. ما أقبح الضحايا! دعاة الهزيمة، الهاتفون بأن الموت نهاية كل حي، وبأنه الحق. إنه من صنع ضعفهم وأوهامهم. نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف. عاشور حي. أشفق على الناس من مواجهة خلوده فاختفى. أنا خالد. وجدت ما أبحث عنه. وما يغلق الدراويش الأبواب إلا لأنهم خالدون. من شهد جنازة لهم؟
Page inconnue