180

غيرت الدنيا سحنتها. كل شيء ينطق بالغرابة. السخرية متجسدة حول الكلوبات مثل وجه ساحرة. نفايات الأمان مكومة في المزابل، أما الحارة فتتموج برقص الراقصات والراقصين، ورائحة السمك تملأ الهواء. إنه الشتاء فلم لا تمطر السماء؟ أين الرعد والبرق؟ أين قسوة الرياح؟ وعلا الطبل والزمر، وضج المكان بالهتاف والزغاريد. ها هو موكب الأصدقاء يقترب، تتقدمه جياد راقصة مجلجلة بأهلتها الفضية. ها هو أبغض خلق الله، الفللي القبيح اللئيم الطاغية، شابكا ذراعيه بذراع فتوتنا. يبتسم عن أسنان ذهبية. ها هو دجلة، عنتر، فريد، أين حمودة؟ قتل، سجن، مات. الأوغاد مجتمعون. أين القضاء والقدر؟ ما جدواك أيها الحقد؟ إنهم يبتعدون ولكن الضوضاء تتفشى. ليلة صاخبة، معربدة، مضمرة للعذابات المبهمة، متوعدة بكل شر. عزرائيل يباركها. حبل المشنقة يطوقها. الأحلام تختنق فيها. الأحبة - محاسن ورمانة وقرة ووحيد - يتحولون إلى أطياف، قد تتلاشى في أي لحظة، ويحل ظلام دامس، ويحل يأس قاتل، ويحل فراغ شامل.

35

رجع إلى دكانه مستقبلا التهاني. القبوع في البيت مفسدة للروح، مثير للمخاوف، مهول للأحزان. أما الحركة فبركة. المعاملة تجديد للدماء وبعث للشجاعة. اختفى الأعداء. توارى عزرائيل. رحيق الحياة يجري في ريقه. التوكل على الله ينعش روحه. الأمل يخطر من جديد. الإلهام يفعم وجدانه. اطمئن يا بدر ولا تخف، تحصن وراء لحيتك واعتمد على رب العدل.

واشتدت ارتباطاته الوجدانية بمحاسن ورمانة وقرة ووحيد، بالطعام والشراب والعبادة والحياة، حتى الشتاء وجد في سحبه شغفا. طرب لكل شيء حتى أصوات الشتائم المتبادلة. أسف على أنه لا يستطيع أن يلقن الأبناء حكايات عاشور وشمس الدين، أن ينشئوا جاهلين لأصلهم المبارك، لبركة الحلم، وصداقة سيدنا الخضر. متى يعرف رمانة أنه رمانة سماحة الناجي؟

وقال لنفسه: افرح عند كل شروق شمس ولا تحزن عند غروبها!

36

كان يسجل مرور يوم جديد بدفتره السري عندما أمره شعور داخلي بأن يرفع عينيه . رفع عينيه فرأى محمد توكل شيخ حارته الأصلية على بعد متر من دكانه. رآه يمر وهو يلقي نظرة عابرة.

انخلع قلبه. اخترقه الفزع مثل بلطة. تلاشى كل شيء.

هل رآه الرجل؟! هل تذكره؟!

ولمحه عن بعد جالسا في دكان شيخ الحارة. يتحدثان ويتضاحكان. وتنظر عيناه كيفما اتفق. إنه الموت. شد ما يسعده أن يقدم خدمة للداخلية. شد ما يسعده أن يهنئ الفللي بالقبض عليه. لو عمي الرجل ما عرف - هو - الأمان بعد الساعة. أصبحت بولاق مباحة للأعداء.

Page inconnue