Haqiqat Al-Iqala: Dirasah Nazariyah Tatbiqiyah
حقيقة الإقالة دراسة نظرية تطبيقية
Maison d'édition
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Numéro d'édition
السنة الخامسة والثلاثون. العدد ١٢١
Année de publication
(١٤٢٤هـ)
Genres
المقدمة
الحمد لله حث على العلم وشرف حملته، ورفع درجة أهله ومنْزلته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن التفقه في الدين من أفضل القربات التي تستحق بها نفائس الأوقات لأنه السبيل الذي تعرف به العباد الأحكام التي تعبد الله بها على بصيرة، وتميز بين الحلال والحرام، وكما يلزم المسلم معرفة عبادته لربه كذلك يلزمه أن يعرف حكم تعامله مع غيره، وما يترتب على هذا التعامل من الأحكام الفقهية.
وبما أن الإقالة من المسائل التي ناقشها الفقهاء، واختلفت فيها وجهات النظر وتباينت في تنظيرها رأيت أنه من المناسب الكتابة في هذا الموضوع المهم وقد جعلت البحث في (حقيقة الإقالة دراسة نظرية وتطبيقية) وقد دفعني إلى اختيار هذا الموضوع عدة أسباب من أهمها ما يلي:
١ أن موضوع حقيقة الإقالة لم يفرده أحد بالبحث حسب علمي وإن كان هناك بحوث يدخل في ضمنها، فيكون واحدا من مسائل كثيرة تبحث في تلك البحوث، ومن أبرز من تناول هذا الموضوع:
أد. عبد اللطيف عامر في بحثه الموسوم ب: الإقالة في العقود في الفقه والقانون (مطبوع بدار مرجان للطباعة بالقاهرة) وهو بحث يغلب عليه الإيجاز والعناية بالمذهب الحنفي إضافة إلى مقارنته بالقانون.
ب د. إبراهيم بن عبد الرحمن العروان في أطروحته للدكتوراه» الإقالة والفسخ في عقود المعاوضات المالية في الفقه الإسلامي «وهي رسالة جيدة في
1 / 229
موضوعها، وقد اعتنى الباحث بأحكام الإقالة والفسخ في العقود، ولكنه لم يعن بحقيقتها ومن ذلك انعقادها بلفظها وبغير لفظها ولا بالمسائل التطبيقية على الخلاف فيها.
والبحث الذي أقدمه خاص بحقيقة الإقالة، ولن أتعرض فيه لأحكامها.
٢ أن الإقالة من المسائل الفقهية التي اختلف الفقهاء في التكييف الفقهي لها مما يؤدي إلى الاختلاف في تطبيقها.
٣ أن بعض الفقهاء ذكر بعض المسائل التطبيقية في الإقالة لكن دراسته لها كانت دراسة مذهبية موجزة وقاصرة على بعض عناصرها كما فعل السيوطي في الأشباه والنظائر ١ لذا كان لابد من تجلية هذا الجانب والعناية به وأرجو أن أوفق في عرض هذا البحث بأسلوب فقهي يسهل على القارئ فهمه وإدراك المراد فيه.
وقد قسمت البحث إلى قسمين:
القسم الأول: الدراسة النظرية وتشمل ستة مباحث:
المبحث الأول: تحديد المراد بالإقالة وتحته مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الإقالة.
المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة بها.
المبحث الثاني: حكم الإقالة وتحته ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الحكم التكليفي للإقالة.
المطلب الثاني: الأدلة على مشروعيتها.
المطلب الثالث: الحكمة من مشروعيتها.
_________
١ ص ٣٣، ط دار الكتاب العربي.
1 / 230
المبحث الثالث: صيغة الإقالة وتحته مطلبان:
المطلب الأول: الإقالة بلفظها.
المطلب الثاني: الإقالة بغير لفظها وفيه ست مسائل:
المسألة الأولى: الإقالة بلفظ الفسخ أو الترك أو التراد.
المسألة الثانية: الإقالة بلفظ البيع.
المسألة الثالثة: الإقالة بلفظ الصلح.
المسألة الرابعة: الإقالة بلفظ المعاطاة.
المسألة الخامسة: الإقالة بالكتابة.
المسألة السادسة: الإقالة بالإشارة.
المبحث الرابع: التكييف الفقهي للإقالة.
المبحث الخامس: أركان وشروط صحة الإقالة وتحته مطلبان:
المطلب الأول: في أركان الإقالة.
المطلب الثاني: في شروط صحة الإقالة.
المبحث السادس: محل الإقالة.
القسم الثاني: الدراسة التطبيقية وقمت فيه بدراسة ثلاثين مسألة، والمسائل المذكورة يقصد من ذكرها التمثيل لا الحصر، لأنها أكثر من أن تحصر، وقد توخيت الاختصار في دراسة المسائل، وحاولت عدم التعمق في الخلاف وذكر المخالفين لأن ذلك سيطيل البحث، وقد جمعت أقوال العلماء في موضوع البحث من مصادرها الأصلية، فإن لم يكن فإلى أقرب مصدر يمكن أن يؤخذ منه القول، وحققت في نسبة الأقوال إلى أصحابها، وقمت أحيانًا بالتوثيق بالنص من كتب الفقهاء إذا رأيت أن الحاجة داعية إلى ذلك واضعا ذلك بين قوسين،
1 / 231
وأوردت الأدلة لكل قول، وما يرد عليها من مناقشات إن وجدت، وعزوت الآيات بذكر اسم السورة ورقم الآية، وخرجت الأحاديث من مصادرها، وأما الأعلام الوارد ذكرهم في البحث فقد ترجمت لمن رأيت الحاجة داعية للتعريف به، لأن الترجمة للأعلام المشهورين في نظري من قبيل توضيح الواضحات، لذا رأيت أن لا أثقل البحث بما لا فائدة فيه للقارئ، وقد وضعت بعد الخاتمة بيانًا بالمراجع.
وبعد:
فإن رجائي أن ينظر القارئ في هذا البحث بعين الإنصاف، فما وجد فيه من صواب فهو بتوفيق الله، وما وجد فيه من خطأ فهو من ضعف البشر، وأسأل الله ﷿ أن ينفع به كاتبه وقارئه إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
1 / 232
القسم الأول: الدراسة النظرية
المبحث الأول: تحديد المراد بالإقالة
المطلب الأول: تعريف الإقالة
الفرع الأول: معنى الإقالة في اللغة:
الإقالة في اللغة العربية مصدر أقال يقيل إقالة بمعنى الفسخ جاء في الصحاح "أقلته البيع إقالة وهو فسخه، وربما قالوا قلته البيع وهي لغة قليلة، واستقلته البيع فأقالني إياه" ١
وقيل إن الإقالة مشتقة من القول، والهمزة للسلب أي إزالة القول السابق، وهو ما جرى بينهما من البيع كأشكى إذا أزال شكواه، وهذا غير صحيح لأمور:
١ أنهم قالوا قِلْتُ البيع بالكسر وأقلته فدل على أن العين ياء.
٢ ذكرت الإقالة في المعاجم العربية في القاف مع الياء لا في القاف مع الواو ٢.
٣ أنهم قالوا أقاله البيع قيلا لا قولا ٣.
فظهر أن الإقالة مشتقة من القيل لا من القول، ومعناه الفسخ والإزالة والإسقاط والرفع يقال تقايلا البيع تفاسخا صفقتهما، وتركتهما يتقايلان البيع أي يستقيل كل واحد منهما صاحبه، وقد تقايلا بعد ما تبايعا أي تتاركا، وتقايلا
_________
١ الصحاح للجوهري: ٥/١٨٠٨ مادة «قيل» .
٢ ينظر الصحاح للجوهري: ٥/١٨٠٨، ولسان العرب لابن منظور: ١١/٣٧٥، المصباح المنير للفيومي: ٢/٥٢١، وتاج العروس للزبيدي: ١٥/٦٤٤ مادة «قيل»، وتبيين الحقائق للزيلعي: ٤/٧٠، والبحر الرائق لابن نجيم: ٦/١١٠، وحاشية سعد جلبي على شرح العناية: ٦/١١٣، وحاشية ابن عابدين: ٤/١٤٤، وأنيس الفقهاء للقونوي ص: ٢١٢.
٣ ينظر لسان العرب لابن منظور: ١١/٣٧٥، وتبيين الحقائق للزيلعي: ٤/٧٠.
1 / 234
إذا فسخا البيع وعاد المبيع إلى مالكه، والثمن إلى المشتري، إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما.
والاستقالة: طلب الإقالة يقال استقاله البيع فأقاله ١.
الفرع الثاني: الإقالة في الاصطلاح:
عرفت الإقالة بتعريفات كثيرة، ولكن مؤداها واحد، وإن كان فيها بعض الاختلاف، وسوف أذكر بعضها على النحو الآتي:
التعريف الأول:
عرفت الإقالة بأنها: ترك المبيع لبائعه بثمنه ٢.
ويلاحظ على هذا التعريف أنه خص الإقالة في البيع مع دخولها في غيره كالإجارة والسلم وغيرها من عقود المبادلة المالية ٣.
وقوله "ترك المبيع" يفهم منه أن الإقالة لا تصح إلا في جميع المبيع ولا تصح في بعضه، وهذا خلاف ما ذهب إليه عامة أهل العلم ٤.
ويدخل في التعريف: ترك المبيع بحكم القضاء، وترك المبيع من دون رضا الطرفين، والإقالة لا تتم بذلك.
_________
١ لسان العرب لابن منظور: ١١/٣٧٥، والمصباح المنير للفيومي: ٢/٥٢١ مادة «قيل» .
٢ هذا التعريف لابن عرفة ينظر شرح حدود ابن عرفه للرصاع ص: ٣٨٥، وذكره كذلك المواق في التاج والاكليل: ٤/٤٨٤ (مطبوع بهامش مواهب الجليل للحطاب) .
٣ ينظر المهذب للشيرازي: ١/٣٠٩، وشرح الوجيز للرافعي: ٤/٢٨٢، ٢٨٣، والبحر الرائق لابن نجيم: ٦/١١٠، وتقرير القواعد لابن رجب ٣/٣١٨، والاشباه والنظائر للسيوطي ص: ٣١٣، وحاشية ابن عابدين: ٤/١٤٦، وبداية المجتهد لابن رشد: ٢/١٥٦.
٤ ينظر روضة الطالبين للنووي: ٣/٤٩٤، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: ٣/١٥٥، والاشباه والنظائر للسيوطي ص: ٣١٤.
1 / 235
التعريف الثاني:
الإقالة: رفع البيع ١.
ويلاحظ على هذا التعريف حصره الإقالة في البيع مع أنها تدخل في غيره من عقود المبادلات المالية كما سبق في التعريف الأول، ولذا ذكر ابن عابدين ٢ أن تخصيصها بالبيع لكون الكلام فيه، وإلا فهذا تعريف للإقالة مطلقًا، لأن حقيقتها في الإجارة لا تخالف حقيقتها في البيع، ولهذا لم يُذكر لها باب في غير هذا الموضع ونظيره النية مثلًا تذكر في باب الصلاة ونحوها وتعرف بالقصد الشامل للصلاة وغيرها ٣.
التعريف الثالث:
الإقالة: رجوع كل من العوضين لصاحبه ٤.
ويلاحظ على هذا التعريف أنه غير جامع، لأنه يدخل فيه رجوع كل من العوضين بحكم القضاء، وهو غير داخل في الإقالة، كما أن التعبير بالرجوع غير سليم، لأنه ربما يرجع البيع بسبب آخر غير الإقالة مثل العيب، أو ثبوت الغبن أو استحقاق المبيع لغير البائع وغير ذلك، وهذا التعريف في نظري منصب
_________
١ هذا التعريف للحصكفي ذكره في الدر المختار (مطبوع بهامش حاشية ابن عابدين): ٤/١٤٤.
٢ هو محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين الدمشقي فقيه أصولي من أكابر فقهاء الحنفية في عصره، توفى بدمشق سنة ١٢٥٢هـ، من مصنفاته رد المحتار على الدر المختار ونسمات الاسحار على شرح المنار.
ينظر الأعلام للزركلي: ٦/٤٢، ومعجم المؤلفين لعمر كحاله: ٣/١٣٥، وهدية العارفين: ٦/٣٦٧.
٣ ينظر حاشية ابن عابدين: ٤/١٤٤.
٤ ذكر هذا التعريف أبو الحسن التسولي في كتابه «البهجة في شرح التحفة»: ٢/١٤٦.
1 / 236
على أثر الإقالة، وليس تعريفًا لذاتها، والشيء لا يعرف بأثره، وإنما بما يظهر حقيقته وماهيته.
التعريف الرابع:
ذكره زكريا الأنصاري ١ فقال: هي ما يقتضي رفع العقد المالي بوجه مخصوص ٢.
ويلاحظ على هذا التعريف أنه لم يبين نوع العقد الذي ترد عليه الإقالة هل ترد على كل العقود؟ أو ترد على العقد اللازم فقط؟ كما أنه لم يبين الوجه المخصوص الذي أشار إليه.
التعريف الخامس:
الإقالة: رفع العقد السابق بلفظ ٣.
ويلاحظ على هذا التعريف أنه غير مانع، لأنه لا يمنع أن تدخل فيه عقود جائزة مع أن الإقالة لا تدخل في العقود الجائزة، لأن رفع هذه العقود لا يتوقف على الرضا من الجانبين، بل يجوز لكل واحد منهما أن يفسخ متى شاء بخلاف الإقالة، ولا يمنع أن يدخل فيه رفع الإقالة بحكم القضاء، وهي كما
_________
١ هو زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الشافعي أبو يحيى قاض مفسر وفقيه من حفاظ الحديث، ولد سنة ٨٢٣؟، وتوفي سنة ٩٢٦؟. له ترجمة في الأعلام للزركلي: ٣/٤٦.
٢ ينظر اسنى المطالب شرح روض المطالب لزكريا الأنصاري: ٢/٧٤.
٣ هذا التعريف ذكره ابن نجيم في رسائله ص: ٣٢١، وهو قريب من التعريف الثاني السابق وقد ذكر ابن قدامة في المغني: ٦/٢٠٠ أن الإقالة يراد بها رفع العقد، وبعض الحنابلة يذكر أن المراد بالإقالة الرفع والإزالة، ينظر الشرح الكبير لأبي الفرج بن قدامة: ٢/٤٠٨، وكشاف القناع للبهوتي: ٣/٢٤٨، والانصاف للمرداوي: ٤/٤٨١، وقد ذكر هذا التعريف أيضًا د. وهبة الزحيلي في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته: ٤/٧١٣.
1 / 237
ذكرت لا تدخل فيه ١.
التعريف المختار:
يظهر لي أن الإقالة يراد بها عند الفقهاء: رفع عقد المعاوضة المالي اللازم للمستقيل باتفاق العاقدين.
فقولنا: المعاوضة: يخرج النكاح فرفعه يكون بالطلاق.
وتقييده باللزوم يخرج غير اللازم فإن فسخه لا يسمى إقالة لأنه لا يشترط فيه رضا المتعاقدين.
وقولنا: للمستقيل لأن العقد قد يكون لازمًا من جهته غير لازم للمقيل.
وقولنا باتفاق العاقدين: يخرج ما لو أُكرها على رفع العقد.
_________
١ ينظر ما سبق في التعريف الثالث.
المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة بها ... المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة بالإقالة هناك ألفاظ لها صلة بالإقالة أذكرها على النحو الآتي: ١ الفسخ: وهو في اللغة الرفع والنقض والإزالة، يقال فسخت العود فسخًا من باب نفع أزلته عن موضعه بيدك، وفسخت الثوب ألقيته وفسخت العقد رفعته، وتفاسخ القوم توافقوا على فسخه، قال السرقسطي ٢ فسخت البيع والأمر نقضتهما ٣. وبما أن الإقالة بمعنى الفسخ فإنها أخص من الفسخ لأنها تتوقف على اتفاق _________ ٢ هو قاسم بن ثابت بن حزم السرقسطي عني بالحديث واللغة هو وأبوه، ألف كتاب في شرح الحديث سماه الدلائل بلغ فيه الغاية من الإتقان ومات قبل إكماله فأكمله أبوه بعده ت ٣٠٢؟. له ترجمة في بغية الوعاة للسيوطي: ٢/٢٥٢، وانباه الرواة للقفطي: ١/٢٩٧. ٣ ينظر المصباح المنير للفيومي: ٢/٤٧٢، والمعجم الوسيط: ٢/٦٨٨.
المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة بها ... المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة بالإقالة هناك ألفاظ لها صلة بالإقالة أذكرها على النحو الآتي: ١ الفسخ: وهو في اللغة الرفع والنقض والإزالة، يقال فسخت العود فسخًا من باب نفع أزلته عن موضعه بيدك، وفسخت الثوب ألقيته وفسخت العقد رفعته، وتفاسخ القوم توافقوا على فسخه، قال السرقسطي ٢ فسخت البيع والأمر نقضتهما ٣. وبما أن الإقالة بمعنى الفسخ فإنها أخص من الفسخ لأنها تتوقف على اتفاق _________ ٢ هو قاسم بن ثابت بن حزم السرقسطي عني بالحديث واللغة هو وأبوه، ألف كتاب في شرح الحديث سماه الدلائل بلغ فيه الغاية من الإتقان ومات قبل إكماله فأكمله أبوه بعده ت ٣٠٢؟. له ترجمة في بغية الوعاة للسيوطي: ٢/٢٥٢، وانباه الرواة للقفطي: ١/٢٩٧. ٣ ينظر المصباح المنير للفيومي: ٢/٤٧٢، والمعجم الوسيط: ٢/٦٨٨.
1 / 238
العاقدين بخلاف الفسخ فإنه قد يكون متوقفًا على اتفاقهما، وقد يكون غير متوقف عليه كفسخ العقد الجائز، والإقالة لا ترد إلا على العقد المالي الصحيح اللازم الذي تقصد منه معاوضة محضة، أما الفسخ فإنه يرد على العقد سواء أكان فيه مبادلة مالية كالبيع أو لم يكن فيه ذلك كالوكالة، وسواءً كان لازمًا كالبيع الخالي من الخيار أم جائزًا كالإيداع، وسواء أكان العقد يقصد منه معاوضة محضة كالبيع أم غير مقصود منه ذلك كالنكاح.
فظهر مما سبق أن الإقالة نوع من أنواع الفسخ.
٢ الإسقاط: في اللغة يأتي بمعنى الإلقاء والإزالة يقال أسقطت الحامل الجنين ألقته، وأسقط الشيء أوقعه وأنزله، وتساقط على الشيء أي ألقى نفسه عليه وأسقطه هو، وتساقط الشيء تتابع سقوطه ١.
ومع أن الإقالة فيها إسقاط للحق وإزالة له إلا أنها أخص من الإسقاط لأن الإسقاط يشمل جميع الحقوق سواءًا كانت عقودا أو ديونًا أو غيرها بخلاف الإقالة.
٣ الإبراء: في اللغة يأتي بمعنى الإسقاط والسلامة والتخلص، يقال برئ من دينه يبرأ براءة سقط عنه طلبه فهو بريْ وبارئ وبراء، وأبرأته منه وبرّأته من العيب بالتشديد جعلته بريئًا منه، وبرئ منه مثل سلم وزنا ومعنى ٢.
وبرئ إذا تخلص وبرئ إذا تنَزه وتباعد ٣.
وإذا كان الإبراء بمعنى الإسقاط، فإنه يعتبر نوعًا من أنواع الإسقاط، لأن
_________
١ ينظر لسان العرب لابن منظور: ٦/٢٩٣، والمصباح المنير للفيومي ص: ٢٨٠، والمعجم الوسيط: ١/٤٣٥ مادة «سقط» .
٢ ينظر المصباح المنير للفيومي: ١/٤٦.
٣ ينظر لسان العرب لابن منظور: ١/١٨٢.
1 / 239
الإبراء بغير عوض بخلاف الإسقاط فإنه يكون بعوض وبغير عوض ١.
والإبراء وإن كان أخص من الإسقاط فإنه يكون في العقود سواء كانت لازمة أو غير لازمة، فهو أعم من الإقالة من هذا الوجه لأنها لا تكون إلا في العقود اللازمة، كما أن الإبراء قد يكون في غير العقود كالقصاص والتعزير وحد القذف وغير ذلك.
_________
١ ينظر الفروق للقرافي م ١ ج ١/١١٠، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام: ٢/٨٢.
1 / 240
المبحث الثاني: حكم الإقالة
المطلب الأول: الحكم التكليفي للإقالة
الإقالة في الأصل مباحة وجائزة في الجملة بعد انعقاد العقد ولزومه١ وإذا ندم أحدهما على الصفقة وطلب الإقالة استحب للآخر أن يقيله ٢ لما رواه أبو هريرة أن النبي ﷺ قال "من أقال نادما بيعه أقال الله عثرته" ٣، وقد ذكر بعض علماء الحنفية أن الإقالة قد تكون واجبة ومثلوا لذلك بكون العقد مكروهًا أو فاسدًا٤ وحينئذ يجب على كل من المتعاقدين الرجوع إلى ما كان له
_________
١ ينظر الهداية للمرغيناني: ٣/٥٤، ومختصر القدوري ص: ٨٥، واللباب في شرح الكتاب للميداني: ١/٢١٧، والاختيار لتعليل المختار للموصلي: ٢/١١، والقوانين الفقهية لابن جزي ص: ٢٣٤، والشرح الكبير للدردير: ٣/١٥٥، وشرح الوجيز للرافعي: ٤/٢٨٠، وروضة الطالبين للنووي: ٣/٤٩٣، ومغني المحتاج للشربيني: ٢/٦٥، والكافي لابن قدامة: ٢/١٠١، وكشاف القناع للبهوتي: ٣/٢٤٨، وإعلاء السنن للتهانوي: ٩/٢٤٩، والمحلى لابن حزم: ٩/٦٠٥.
٢ ينظر تبيين الحقائق للزيلعي: ٤/٧٠، وشرح الوجيز للرافعي: ٤/٢٨٠، وروضة الطالبين للنووي: ٣/٤٩٣، ومعونة أولي النهي لابن النجار: ٤/١٨٥، وكشاف القناع للبهوتي: ٣/٢٤٨.
٣ أخرجه ابن حبان في صحيحه:١١/٤٠٤، رقم الحديث (٥٠٢٩) وابن عدي في الكامل: ٦/٣٠٤ بهذا اللفظ، والقضاعي في مسند الشهاب: ١/٢٧٨، ٢٧٩ الحديثان رقم ٤٥٢، ٤٥٣، والحاكم في معرفة علوم الحديث: ص:١٨، والبيهقي في السنن الكبرى: ٦/٤٤ الحديث رقم (١١١٢٩) بلفظ من أقال نادمًا أقاله الله تعالى يقوم القيامة.
قال الشيخ الألباني في الإرواء: ٥/١٨٢ «رجاله ثقات رجال البخاري غير أن الفروي قد كف فساء حفظه فان كان حفظه فهو على شرط البخاري» .
٤ العقد الفاسد عند الحنفية هو ما وجد ركنه وهو الايجاب والقبول وتوافرت في هذا الركن الشروط التي يتطلبها الشارع غير أنه اتصل به وصف ينهى الشارع عنه، ويعبر الفقهاء عنه بأنه ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه. ينظر حاشية ابن عابدين ٢/٩٧، والمدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. عبد الكريم زيدان: ص ٣٦٦.
1 / 241
من رأس المال صونا لهما عن المحظور، ولا يكون ذلك إلا بالإقالة، ولأن رفع المعصية واجب بقدر الإمكان ١.
وقد اعترض على ذلك بأن الفاسد يجب فسخه على كل منهما بدون رضا الآخر، وكذا للقاضي فسخه بلا رضاهما والإقالة يشترط لها الرضا ٢.
وقد صحح بعض علماء الحنفية ما ورد من وجوب الإقالة بأن المراد بالإقالة فيه مطلق الفسخ والرفع ٣.
وبهذا يتضح أن ما ذكر من وجوب الإقالة يراد به المعنى اللغوي لا الإقالة بمعناها الخاص المعروف عند الفقهاء.
_________
١ ينظر فتح القدير لابن الهمام: ٦/١١٤، والبحر الرائق لابن نجيم: ٦/١١٠، وحاشية ابن عابدين: ٤/١٤٦.
٢ ينظر فتح القدير لابن الهمام: ٦/١١٤، وبدائع الصنائع للكاساني: ٥/٢٥٢، وحاشية ابن عابدين: ٤/١٤٦.
٣ ينظر حاشية ابن عابدين: ٤/١٤٦.
المطلب الثاني: الأدلة على مشروعيتها ... المطلب الثاني: الأدلة على مشروعية الإقالة ثبتت مشروعية الإقالة بالكتاب والسنة والإجماع، والمعقول، أما الدليل من الكتاب فقوله تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ ٤، فالآية المذكورة تدل بعمومها على مشروعية الإقالة لأن الأمر فيها ورد بفعل الخير، ولاشك أن إقالة النادم من فعل الخير. _________ ٤ من آية ٧٧ سورة الحج.
المطلب الثاني: الأدلة على مشروعيتها ... المطلب الثاني: الأدلة على مشروعية الإقالة ثبتت مشروعية الإقالة بالكتاب والسنة والإجماع، والمعقول، أما الدليل من الكتاب فقوله تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ ٤، فالآية المذكورة تدل بعمومها على مشروعية الإقالة لأن الأمر فيها ورد بفعل الخير، ولاشك أن إقالة النادم من فعل الخير. _________ ٤ من آية ٧٧ سورة الحج.
1 / 242
الأدلة من السنة:
الدليل الأول: ما رواه أبو هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ "من أقال نادما بيعه أقال الله عثرته" ١.
الدليل الثاني: ما رواه أبو هريرة أيضًا أن رسول الله ﷺ قال: "من أقال مسلمًا أقال الله عثرته" ٢.
الدليل الثالث: عن أبي شريح ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "من أقال أخاه بيعًا أقال الله عثرته يوم القيامة" ٣.
والدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة لأن فيها حثًا من الرسول ﷺ على قبول الإقالة من طالبها، وأن فاعل ذلك يلقى الثواب والأجر العظيم، وذلك بأن يقيل الله عثرته يوم القيامة.
الدليل الرابع: عن عائشة ﵂ قالت: قال رسول الله ﷺ:
_________
١ سبق تخريج هذا الحديث ص:٢٤١ وقد ورد الاستدلال بها الحديث في بدائع الصنائع للكاساني:٥/٣٠٦، وتبيين الحقائق للزيلعي:٤/٧٠، والمغني لابن قدامة:٦/١٩٩، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي:٣/٥٥٠، والمحلى لابن حزم:٩/٦٠٢.
٢ أخرجه أبو داود في سننه: ٣/٧٣٨ رقم الحديث (٣٤٦٠) بهذا اللفظ، وابن ماجه في سننه: ٣/٢٦، ٣٧ رقم الحديث (٢١٩٩)، والبيهقي في السنن الكبرى: ٦/٤٤ رقم الحديث (١١١٢٨)، والحاكم في المستدرك: ٢/٤٥، وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي واقره المنذري في الترغيب: ٢/٥٦٦ وقد ورد الاستدلال بهذا الحديث في كشاف القناع للبهوتي:٣/٢٤٨، وحاشية احمد الشلبي على تبيين الحقائق:٤/٧٠.
٣ أخرجه الطبراني في الأوسط. ١/٢٧٢ رقم الحديث (٨٨٩) قال المنذري في الترغيب: ٢/٥٦٧ رجاله ثقات وقد ورد الاستدلال بهذا الحديث في حاشية احمد الشلبي على تبيين الحقائق:٤/٧٠.
1 / 243
"أقيلوا ذوي الهيئات ١ عثراتهم إلا في الحدود" ٢.
وجه الدلالة من الحديث:
ويمكن توجيه الاستدلال بهذا الحديث بأن يقال: إن الحديث ورد بلفظ "أقيلوا" والإقالة في المبايعة هي فسخ البيع فالحديث بعمومه يشملها، والمراد موافقة ذي الهيئة على ترك المؤاخذة له أو تخفيفها.
الدليل الخامس:
أخرجه مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن ٣ عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن ٤ أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثمر حائط في زمان رسول الله ﷺ
_________
١ ذوو الهيئات: هم الذين لا يُعرفون بالشَّرِّ، فيزلُّ أحدهم الزَّلةَ. ينظر: النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير ٥ / ٢٨٥.
٢ أخرجه الإمام أحمد في مسنده: ٩/٥٤٤ رقم الحديث (٢٥٥٣٠) (تحقيق الدرويش)، وأبو داود في سننه: ٤/٥٤٠ رقم الحديث (٤٣٧٦)، وأبو نعيم في الحلية: ٩/٤٣، وصححه الألباني ينظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: ٢/٢٣١ وما بعدها رقم الحديث (٦٣٨)، وقد روى الحديث بلفظ «أقيلوا ذوى الهيئة زلاتهم» أخرجه الخطيب في تاريخه: ١٠/٨٥، والخرائطي في مكارم الأخلاق، ينظر المنتقى من مكارم الأخلاق للأصبهاني ص ٨٥، ٨٦، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: ٢/٢٣٥ «إنه شاهد حسن لحديث عائشة»، وقد ورد الاستدلال بهذا الحديث في بدائع الصنائع: ٥/٣٠٦.
٣ هو محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان الأنصاري البخاري أبو الرجال المدني كنيته أبو عبد الرحمن ثقة كثير الحديث، له ترجمة في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم:٧/٣١٧ رقم الترجمة: ١٧١٧، وتهذيب الكمال للمزي: ٢٥/٦٠٢- ٦٠٤ رقم الترجمة: ٥٣٩٥، وتهذيب التهذيب لابن حجر: ٩/٢٩٥ رقم الترجمة: ٤٩٠.
٤ عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية والدة أبي الرجال كانت في حجر عائشة ﵂ مدنية تابعة ثقة ت ١٠٦؟. لها ترجمة في تهذيب الكمال للمزي: ٣٥/٢٤١-٢٤٣ رقم الترجمة: ٧٨٩٥، وتهذيب التهذيب لابن حجر: ١٢/٤٣٨ رقم الترجمة: ٢٨٥١.
1 / 244
فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان فسأل رب الحائط أن يضع له أو أن يقيله، فحلف أن لا يفعل، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، فقال رسول الله ﷺ تألّى١ أن لا يفعل خيرًا، فسمع بذلك رب الحائط فأتى رسول الله ﷺ فقال يارسول الله هو له ٢.
وجه الدلالة:
يمكن توجيه الدلالة بأن يقال إن النبي ﷺ وصف الإقالة بأنها من أفعال الخير، وفعل الخير يستحب للإنسان أن يبادر إليه وذلك دليل على مشروعية الإقالة.
وأما الإجماع:
فقد أجمع العلماء على مشروعية الإقالة ٣.
_________
١ تألَّى: هو من الأليَّة: اليمين، يقال: آلى يولي إيلاءً، وتألَّى يتألَّى تألِّيًا، والاسم الأليَّة. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير ١ / ٦٢.
٢ أخرجه مالك في الموطأ: ٢/٤٨٣ رقم الحديث (١٥) من كتاب البيوع. قال ابن عبد البر في التمهيد: ١٣/١٤٩ «لا أعلم هذا الحديث بهذا اللفظ يسند عن النبي ﷺ من وجه متصل إلا من رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة ... ثم ذكر الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما عن عائشة أن النبي ﷺ سمع صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء وهو يقول والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله ﷺ فقال أين المتألي على الله أن لا يفعل المعروف فقال أنا يا رسول الله فله أيّ ذلك أحب» ينظر صحيح البخاري: ٣/١٧٠، ومسلم في صحيحه: ٣/١١٩١-١١٩٢ رقم الحديث (١٥٥٧)، وأخرج الحديث الشافعي في مسنده عن مالك ينظر مسند الشافعي ص ١٤٥، والبيهقي في السنن الكبرى: ٥/٤٥٧ رقم الحديث (١٠٦٢٥) .
٣ ينظر الأحكام للمالقي ص: ٢٨١، وشرح زروق على متن الرسالة: ٢/١١١، وفتح باب العناية للقاري:٢/٣٥١، وشرح الوجيز للرافعي:٤/٢٨٠، والكا في لابن قدامة:٢ /١٠١.
1 / 245
وأما المعقول:
١ فإن الناس يحتاجون للإقالة كحاجتهم إلى البيع فتشرع، وذلك أن العاقد قد يندم على ما أقدم عليه، ولا يجد أمامه طريقًا للتخلص من العقد إلا بالإقالة.
٢ أنها ترفع العقد فصارت كالطلاق مع النكاح ١.
_________
١ ينظر الاختيار لتعليل المختار للموصلي: ٢/١١، وفتح القدير لابن الهمام: ٦/١١٤، وحاشية أحمد الشلبي على تبين الحقائق للزيلعي: ٤/٧٠.
المطلب الثالث: الحكمة من مشروعيتها ... المطلب الثالث: حكمة تشريع الإقالة التعاون من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي في الشريعة الإسلامية، فالأفراد يجب عليهم أن يتعاونوا في جلب المصالح، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ ٢. وقد حث الرسول ﷺ على السماحة في التعامل؛ فقد ثبت من حديث جابرأنه قال: "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى وإذا اقتضى" ٣، ومن مقتضيات السماحة أن يتوافر عنصر الرضا عند انعقاد العقد، وإذا ثبت العقد ثم ندم المتعاقدان أو أحدهما إما لظهور غبن أو لانعدام الثمن أو زوال الرجاحة أو غير ذلك، فإن ذلك الندم وعدم الرضا لا يبيحان فسخ العقد لأنه وقع صحيحًا لازمًا، ولا سبيل لإزالة ذلك الندم وعدم الرضا إلا بالإقالة فشرعت تنفيساَ لمن وقع في أمر لا يستطيع الخلاص منه، ألا وهو العقد الصحيح اللازم. _________ ٢ من آية ٢ سورة المائدة. ٣ أخرجه البخاري في صحيحه: ٣/٩ في كتاب البيوع باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف.
المطلب الثالث: الحكمة من مشروعيتها ... المطلب الثالث: حكمة تشريع الإقالة التعاون من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي في الشريعة الإسلامية، فالأفراد يجب عليهم أن يتعاونوا في جلب المصالح، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ ٢. وقد حث الرسول ﷺ على السماحة في التعامل؛ فقد ثبت من حديث جابرأنه قال: "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى وإذا اقتضى" ٣، ومن مقتضيات السماحة أن يتوافر عنصر الرضا عند انعقاد العقد، وإذا ثبت العقد ثم ندم المتعاقدان أو أحدهما إما لظهور غبن أو لانعدام الثمن أو زوال الرجاحة أو غير ذلك، فإن ذلك الندم وعدم الرضا لا يبيحان فسخ العقد لأنه وقع صحيحًا لازمًا، ولا سبيل لإزالة ذلك الندم وعدم الرضا إلا بالإقالة فشرعت تنفيساَ لمن وقع في أمر لا يستطيع الخلاص منه، ألا وهو العقد الصحيح اللازم. _________ ٢ من آية ٢ سورة المائدة. ٣ أخرجه البخاري في صحيحه: ٣/٩ في كتاب البيوع باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف.
1 / 246
ولا ريب أن من السماحة التي حثت عليها الشريعة الإسلامية إقالة النادم، لما فيها من الثواب العظيم، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: "من أقال نادمًا أقال الله عثرته" ١وَرَوى أيضا أن النبي ﷺ قال: "من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر في الدنيا يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" ٢.
ويقضي مبدأ التعاون والتواد ّ بين أفراد المجتمع أن يحس المسلم بأخيه المسلم ويتألم لألمه، لما رواه النعمان بن بشير ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" ٣.
ومن قبيل ذلك الإحساس أن يقيل المسلم أخاه إذا ندم على العقد وطلب أن يفسخه، ليحصل على الثواب العظيم والأجر منه ﷾.
_________
١ سبق تخريج هذا الحديث ص: ١٤
٢ أخرجه مسلم واللفظ له الحديث رقم (٢٦٩٩) صحيح مسلم: ٤/٢٠٧٤، والترمذي في باب ما جاء في الستر على المسلم من كتاب الحدود الحديث رقم (١٤٢٥) سنن الترمذي: ٤/٣٤، وأبو داود في باب المعونة للمسلم من كتاب الأدب الحديث رقم (٤٩٤٦) سنن أبي داود: ٤/٢٨٧، وابن ماجه في باب الانتفاع بالعلم والعمل به من المقدمة الحديث رقم (٢٣٨) سنن ابن ماجه: ٤٨١، وأحمد في مسند المكثرين الحديث رقم (٧٣٧٩) مسند أحمد: ٢/٤٩٧.
٣ أخرجه أحمد في مسنده: ٣٠/٣٢٣ رقم الحديث (١٨٣٧٣) والبخاري في صحيحه: ٧/٧٧ في باب رحمة الناس في البهائم، ومسلم في صحيحه: ٤/١٩٩٩ رقم الحديث (٢٥٨٦)، والقضاعي في مسند الشهاب: ٢/٢٨٣ رقم الحديث (١٣٦٧)، والبيهقي في السنن الكبرى: ٣/٤٩٣ رقم الحديث (٦٤٣٠) .
1 / 247
المبحث الثالث: صيغة الإقالة
المطلب الأول: الإقالة بلفظها
إذا قال البائع: أقلتك، أو أنت مُقَالٌ، أو لك القيلة، أو قايلتك، أو أقالك الله ١، ونحو ذلك من الألفاظ، فإن عامة العلماء يرون صحتها٢ وإن اختلفوا في تكييفها لصراحة لفظ الإقالة في التحلل من العقد وتركه.
وذكر ابن رجب٣ أن القاضي٤ في خلافه ذكر أنها لا تنعقد بلفظ الإقالة إن قلنا هي بيع لأن ما يصلح للحل لا يصلح للعقد٥.
_________
١ ذكر النووي في المجموع شرح المهذب: ٦ /: ١٥٤ أنه لو قال: قد أقالك الله، فهذا كناية؛ إن نواه صحَّ، وإلاَّ فلا. وإذا نواهما كان التقدير: قد أقالك الله لأني أقلتك. ا؟.
٢ ينظر الدر المختار للحصكفي (مطبوع بهامش رد المحتار): ٤/١٤٤، والعناية على الهداية للبابرتي: ٦/١١٥، ومجمع الأنهر لداماد افندي: ٢/٧١، والبهجة في شرح التحفة للتسولى: ٢/١٤٧، وحاشية الدسوقي على شرح الكبير: ٣/١٥٤، وشرح الوجيز للرافعي: ٤/٢٨٠، وروضة الطالبين للنووي: ٣/٤٩٣، وأسنى المطالب شرح روض الطالب لزكريا الأنصاري: ٢/٧٥، ومعونة أولي النهى لابن النجار: ٤/١٨٦، والإنصاف للمرداوي: ٤/٤٧٦، وكشاف القناع للبهوتي: ٣/٢٥٠.
٣ هو أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي محدث حافظ فقيه ولد في بغداد سنة ٧٣٦هـ وتوفى في دمشق سنة ٧٩٥هـ له ترجمة في الدرر الكامنة لابن حجر: ٢/٣٢١، ٣٢٢ رقم الترجمة (٢٢٧٦) وطبقات الحفاظ للسيوطي ص: ٥٣٦ رقم الترجمة (١١٧٢) .
٤ هو أبو يعلى القاضي محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء البغدادي الحنبلي انتهت إليه رياسة مذهب الحنابلة في عصره وعنه انتشر مذهبهم، من مؤلفاته أحكام القرآن، وعيون المسائل والخلاف الكبير، توفى سنة ٤٥٨هـ ببغداد، له ترجمة في الطبقات لابن أبي يعلى: ٢/١٦٦، والمنهج الأحمد للعليمي: ٢/٣٥٤.
٥ ينظر تقرير القواعد لابن رجب ٣/٣١٤.
1 / 248
وما ذكره القاضي مبني على الخلاف في تكييف الإقالة (هل هي فسخ أو بيع) وهو ما سوف نتكلم عليه في المبحث الرابع من هذا البحث.
المطلب الثاني: الإقالة بغير لفظها المسألة الأولي: الإقالة بلفظ الفسخ أو الترك أو للتراد ... المطلب الثاني: الإقالة بغير لفظها المسألة الأولى: الإقالة بلفظ الفسخ أو الترك أو التراد: إذا كانت الإقالة بلفظ: فاسختك وتاركت، أو رددت عليك ونحو ذلك من الألفاظ الصريحة المفيدة للفسخ فإنه لا خلاف بين الفقهاء في صحتها١، وقد ألحق الفقهاء بذلك كل ما يدل على هذا المعنى وذلك كما لو طلب البائع الإقالة وقال المشتري قبلت أو هات الثمن، لأن ذلك يدل على الرضا والقبول فتصح به ٢. والقائلون بأن الإقالة بيع وإن وافقوا على صحتها إلا أنهم لا يعتبرونها بيعًا إذا جاءت بلفظ الفسخ أو الترك أو التراد، لعدم دلالته على البيع، قال ابن عابدين "لو كانت بلفظ مفاسخة أو متاركة أو تراد لم يجعل بيعًا اتفاقًا"٣. _________ ١ ينظر فتح القدير لابن الهمام: ٦/١١٤، واللباب في شرح الكتاب للميداني: ١/٢١٧، والدر المختار للحصكفي (مطبوع بهامش رد المحتار): ٤/١٤٤، والبحر الرائق لابن نجيم: ٦/١١٠، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي عليه:٣/١٥٥، واسنى المطالب شرح روض الطالب لزكريا الأنصاري: ٢/٧٥، وكشاف القناع للبهوتي: ٣/٢٥٠. ٢ ينظر اللباب في شرح الكتاب للميداني: ١/٢١٧، والفتاوى الهندية: ٣/١٥٧، والبهجة في شرح التحفة للتسولي: ٢/١٤٧، وروضة الطالبين للنووي: ٣/٤٩٣، وكشاف القناع للبهوتي: ٣/٢٥٠. ٣ حاشية ابن عابدين: ٤/١٤٤، وينظر البحر الرائق لابن نجيم: ٦/١١٢.
المسألة الثانية: الإقالة بلفظ البيع: ذهب بعض علماء الحنابلة إلى القول بأن الإقالة تصح بلفظ البيع ٤، وذهب _________ ٤ ينظر كشاف القناع للبهوتي: ٣/٢٥٠، وتقرير القواعد لابن رجب: ٣/٣١٤.
المطلب الثاني: الإقالة بغير لفظها المسألة الأولي: الإقالة بلفظ الفسخ أو الترك أو للتراد ... المطلب الثاني: الإقالة بغير لفظها المسألة الأولى: الإقالة بلفظ الفسخ أو الترك أو التراد: إذا كانت الإقالة بلفظ: فاسختك وتاركت، أو رددت عليك ونحو ذلك من الألفاظ الصريحة المفيدة للفسخ فإنه لا خلاف بين الفقهاء في صحتها١، وقد ألحق الفقهاء بذلك كل ما يدل على هذا المعنى وذلك كما لو طلب البائع الإقالة وقال المشتري قبلت أو هات الثمن، لأن ذلك يدل على الرضا والقبول فتصح به ٢. والقائلون بأن الإقالة بيع وإن وافقوا على صحتها إلا أنهم لا يعتبرونها بيعًا إذا جاءت بلفظ الفسخ أو الترك أو التراد، لعدم دلالته على البيع، قال ابن عابدين "لو كانت بلفظ مفاسخة أو متاركة أو تراد لم يجعل بيعًا اتفاقًا"٣. _________ ١ ينظر فتح القدير لابن الهمام: ٦/١١٤، واللباب في شرح الكتاب للميداني: ١/٢١٧، والدر المختار للحصكفي (مطبوع بهامش رد المحتار): ٤/١٤٤، والبحر الرائق لابن نجيم: ٦/١١٠، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي عليه:٣/١٥٥، واسنى المطالب شرح روض الطالب لزكريا الأنصاري: ٢/٧٥، وكشاف القناع للبهوتي: ٣/٢٥٠. ٢ ينظر اللباب في شرح الكتاب للميداني: ١/٢١٧، والفتاوى الهندية: ٣/١٥٧، والبهجة في شرح التحفة للتسولي: ٢/١٤٧، وروضة الطالبين للنووي: ٣/٤٩٣، وكشاف القناع للبهوتي: ٣/٢٥٠. ٣ حاشية ابن عابدين: ٤/١٤٤، وينظر البحر الرائق لابن نجيم: ٦/١١٢.
المسألة الثانية: الإقالة بلفظ البيع: ذهب بعض علماء الحنابلة إلى القول بأن الإقالة تصح بلفظ البيع ٤، وذهب _________ ٤ ينظر كشاف القناع للبهوتي: ٣/٢٥٠، وتقرير القواعد لابن رجب: ٣/٣١٤.
1 / 249