La vérité: une très courte introduction
الحقيقة: مقدمة قصيرة جدا
Genres
عندما نتساءل عما إذا كان الحاضر واقعيا، فإننا لا نريد معرفة إذا ما كان واقعيا وفقا لتعريفات «الواقع» الثلاثة الأولى التي يمكن وصفها بأنها تعريفات «سهلة». وجميعنا نعرف أن الحاضر يظهر لنا ويظهر أيضا لأغلب الناس؛ ولذا فإنه واقع لا يقبل الشك وفقا لتعريف فيلم «ماتريكس» ولتعريف رواية «1984». ولكن ماذا عن تعريفي نهاية العالم والسلحفاة «الصعبين»؟
تكمن الصعوبة التي تواجهنا عند الدفاع عن كون اللحظة الآنية واقعا أم لا وفقا لهذين التعريفين في أنها لا تظهر في النظريات العلمية على الإطلاق؛ فعلى الرغم من أن الحاضر مهم للغاية بالنسبة للطريقة التي يظهر بها العالم لنا (لأنه وقت ظهور العالم لنا)، فإنه ليس واقعيا بأي شكل من الأشكال وفقا لتعريف نهاية العالم للواقع. فلو لم يكن هناك كائنات واعية، لما كان هناك «الآن». ولن يستطيع أي وصف علمي كامل للكون أن يخبرنا متى يكون الآن. ولن يمنح اللحظة الآنية أي سمة خاصة لا تشاركها فيها أية لحظات زمنية أخرى.
ثمة صعوبة أخرى؛ وهي أنه على الرغم من أهميتها الذاتية، فإننا لا نشعر مطلقا بمرورنا باللحظة الآنية. تستغرق معالجة المعلومات العصبية وقتا؛ فإذا شعرت بدفء النار بيدك، يجب أن ينتقل هذا الشعور من جزء معين من بشرتك عبر مسارات عصبية متعددة خلال ذراعك، وجسمك، إلى أن يصل في النهاية إلى الدماغ. وبمجرد أن تصل معلومة درجة الحرارة إلى هناك، فإنها تندمج مع العديد من المعلومات الأخرى (التي ربما تكون قد دخلت عبر أعضاء الحواس الخاصة بك في أزمنة مختلفة)، مثل منظر اللهب أو رائحة الخشب المحترق. هذا التمثيل المتماسك المعقد الذي ينطوي على كائنات أو أحداث وخصائصها سيكون هو تمثيل النار. ومع ذلك بمجرد أن تتاح لنا هذه المعلومة معرفيا، فإن اللحظة التي حدث فيها الحدث وكل ما حدث في هذه اللحظة يعتبر بالفعل شيئا من الماضي. وعندما نحاول التواصل مع اللحظة الآنية، نواجه الموقف نفسه للشخص الذي ينظر إلى نجم بعيد، وما زال نور هذا النجم يصل إلى عينيه، في حين أن النجم نفسه قد اختفى من الوجود. من الواضح أن النطاق الزمني المعني هنا أقصر بكثير، ولكن النقطة الأساسية تظل كما هي.
بحث عالم الفسيولوجيا الأمريكي بنجامين ليبت الفترة الفاصلة المنقضية إلى أن يبني الدماغ تمثيلا واعيا للحاضر في مجموعة من التجارب بدأت في الخمسينيات من القرن العشرين. وكانت تجارب ليبت مهمة بشكل خاص لأنها اشتملت على تفاعل مباشر مع دماغ الشخص الخاضع للتجربة. هناك أنواع معينة من الجراحات يجب إجراؤها أثناء وعي المريض وبتخديره موضعيا فحسب. بهذه الطريقة يستطيع الجراح تحفيز مناطق معينة على سطح الدماغ باستخدام تيار كهربي ضعيف. وبمراقبة ردود أفعال المريض الجسدية يستطيع الجراح إنتاج خريطة لسطح الدماغ، ويحرص على تجنب جميع المناطق الحيوية أثناء الجراحة التالية. أثناء رسم هذه الخريطة، من الممكن في بعض الأحيان إجراء تجارب إضافية لا ينتج عنها أي مخاطر جديدة (على افتراض موافقة المريض على إجراء هذه التجارب).
أجرى ليبت التجربة بتحفيز المناطق من الدماغ التي تعالج المعلومات المرتبطة بحاسة اللمس الصادرة من البشرة. وبتوصيل هذه المناطق بتيار كهربي، يشعر المريض بشعور ما، «يوجهه» بعد ذلك نحو الجزء من الجسم الذي تأتي منه عادة المعلومات الحسية المعالجة بهذا الجزء من الدماغ؛ ومن ثم رغم تحفيز دماغه، فإن المريض يشعر بوخز خفيف على بشرة يده، وليس على سطح دماغه.
ومن النتائج المهمة التي اكتشفها ليبت أنه ينبغي تسليط الحافز الكهربي لفترة طويلة نسبيا (حوالي نصف ثانية) حتى يشعر به المريض. عند تدقيق النظر في العمليات الإدراكية، نجد أن 500 ملي ثانية فترة طويلة للغاية. (لأغراض المقارنة، تبلغ «مدة الإرسال» اللازمة لنقل نبضة كهربية من اليد إلى الدماغ حوالي 20 ملي ثانية فقط.) لم تترك عمليات التحفيز الكهربي الأقصر أي تأثير على الإطلاق، حتى في حالة جعل النبضات أكثر قوة. وجدير بالذكر أن هذه المهلة الإدراكية التي يبلغ طولها نصف ثانية لا تعني ضمنا أن كل تفاعلاتنا مع العالم تتأخر بمقدار نصف ثانية؛ فنحن قادرون على الإتيان برد فعل بصورة أسرع من ذلك. (على سبيل المثال، نحن نستطيع تمييز الأصوات في وقت قصير للغاية يصل إلى ثلاث ملي ثوان.) إلا أن معظم ردود أفعالنا السريعة لا تنطوي على وعي بالشيء الذي نصدر رد فعلنا تجاهه. أما فيما يتعلق بالإدراك الواعي للعالم، فإن مدة 500 ملي ثانية تبدو ضرورية ليصبح الشعور واعيا. إذن فالاكتشاف غير الواعي الذي يقوم به الدماغ ربما يكون أسرع، ولكن الوعي يحتاج إلى مزيد من الوقت.
يمكن مقارنة هذا التأخير البالغ نصف ثانية بالفاصل الزمني المعتاد عند إذاعة البرامج التليفزيونية «المباشرة» (والذي يمكن أن يتراوح بين عدة ثوان وعدة دقائق). يتيح هذا الفاصل الفرصة لإجراء عمليات المونتاج أو الرقابة في اللحظة الأخيرة بعد تصوير حدث ما، ولكن قبل إذاعته. (كان هذا الفاصل غائبا بسبب خطأ تقني في الحفل الذي يقام في مباراة سوبر باول عام 2004.) يمكن أن يحدث شيء مشابه لذلك في الدماغ ؛ ففي الخمسمائة ملي ثانية التي يستغرقها إحساس البشرة ليصبح واعيا، من الممكن «إجراء عملية حذف» له، بحيث لا يدخل حيز خبرتك على الإطلاق. عرض ليبت مرضاه لإحساسين؛ أحدهما تسبب فيه تحفيز البشرة، والآخر تسبب فيه تحفيز الدماغ. ويمكن تمييز الإحساسين بسهولة عند الشعور بهما على نحو منفصل. الغريب في الأمر أن تحفيز الدماغ إذا حدث بعد تحفيز البشرة بحوالي 200 ملي ثانية، فإن الشخص لن يشعر بتحفيز البشرة على الإطلاق.
شكل 4-4: إعداد تجربة ليبت.
تمكن تحفيز الدماغ من حجب إحساس البشرة؛ مما منع الإحساس من الدخول إلى حيز الوعي. والشيء الوحيد الذي جعل هذا ممكنا هو أن إدراكنا الحسي لا يتصل بشكل مباشر مع الحاضر؛ ففي الوقت الذي نصبح فيه واعين بإحساس ما، يكون عمر هذا الإحساس نصف ثانية، ونظرا لتأخير عملية الإدراك الحسي، يصبح من الممكن التدخل في أي إشارة وصلت بالفعل إلى دماغنا، وجعلها تختفي قبل أن تدخل إلى حيز الوعي. في حالة البرامج التليفزيونية المعروضة على الهواء مباشرة، فإن وجود الفاصل الزمني الذي يخرج خبرتنا من حيز الحاضر يجعلنا نشك في دقة العرض؛ ففكرة أن إدراكنا الحسي لا يتصل بشكل مباشر بالحاضر، وإنما يتيح وقتا وفيرا يمكن أن تحدث فيه عمليات تحرير داخلية، ربما تجعلنا نشك بالمثل في حقيقة تمثيل الواقع كما يتراءى لنا الآن.
ومما قد يعزز هذا الشك إحدى الحيل المدهشة التي يستطيع الدماغ أن يقوم بها. مرة أخرى، عرض ليبت المريض لحافزين مختلفين؛ أحدهما سلط بشكل مباشر على الدماغ، والآخر سلط على البشرة. وتم تسليط الحافز على الدماغ أولا، ثم بعد حوالي 200 ملي ثانية تم تسليط الحافز الآخر على البشرة. كما هو متوقع، شعر المريض بالحافز على الدماغ بعد حوالي 500 ملي ثانية. وقد نفترض أن المريض سيشعر بالحافز على البشرة بعد 200 + 500 = 700 ملي ثانية. ولكن المدهش أن المريض ذكر أنه شعر بالحافز على البشرة قبل الحافز على المخ، بعد حوالي 200 ملي ثانية؛ أي بعد تسليط الحافز على البشرة مباشرة تقريبا.
Page inconnue