المقدمة
1 - الأحلام وتجارب المحاكاة
2 - هل المادة واقع؟
3 - هل الأشخاص واقع؟
4 - هل الزمن واقع؟
5 - ملاحظات ختامية
مراجع وقراءات إضافية
مصادر الصور
المقدمة
1 - الأحلام وتجارب المحاكاة
2 - هل المادة واقع؟
3 - هل الأشخاص واقع؟
4 - هل الزمن واقع؟
5 - ملاحظات ختامية
مراجع وقراءات إضافية
مصادر الصور
الواقع
الواقع
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
يان فيسترهوف
ترجمة
هبة عبد العزيز غانم
مراجعة
محمد فتحي خضر
المقدمة
لعلك تظن في مكانك هذا (ربما في متجر الكتب أو في المكتبة أو في منزلك)، بينما تقرأ هذه الصفحة، أن هذا الكتاب والورق المطبوع عليه والأحرف المطبوعة على الصفحة كلها واقع، ولعلك تظن أنك لا تحلم بأنك تمسك بهذا الكتاب وتقرأ هذه الجملة، بل إنك تفعل ذلك بالفعل، والأرجح أنك تعتقد أنك أنت نفسك من الواقع، ولست من صنع مخيلة أحدهم (مثلما كانت أليس من صنع مخيلة الملك الأحمر) يحلم بشخص يقرأ كتابا عن الواقع، وهذا يعكس توجها نفسيا صحيا؛ فمعظم الناس لا يعتقدون أنهم يحلمون معظم الوقت (والقليلون للغاية يعتقدون أنهم يحلمون في الوقت الذي يحلمون فيه بالفعل)، ولا يفترضون أن الأشياء المادية المحيطة بهم ليست موجودة في الواقع، ولا يصدقون أنهم شخصيات في رواية شخص آخر. إلا أن عدم شكك ولو للحظة واحدة في أن الأشياء قد لا تكون على هذا النحو يعكس افتقارك للخيال الفلسفي.
في هذا الكتاب، سنتطرق إلى بعض البراهين الداعمة لمثل هذه الشكوك، وسنحاول أن نكتشف معا إذا ما كانت هذه البراهين وجيهة أم لا؛ في الفصل الأول، سنتساءل عن كيفية التفرقة بين تجاربنا الواعية وبين الأحلام وعمليات المحاكاة (هذا إن كنا سنستطيع ذلك في يوم من الأيام). بعد ذلك سنتناول مسألة إذا ما كانت الأشياء المادية المحيطة بنا، كالكتب والموائد والمقاعد، واقعية أم لا. أما في الفصل الثالث، فسنطرح قضية إذا ما كان الأشخاص واقع أم لا، وعلى وجه التحديد إذا ما كنت أنت، قارئ هذا الكتاب، واقع أم لا. ويناقش الفصل الأخير حقيقة الزمن، ذلك الوسط الذي توجد فيه ظاهريا أنت وكل الأشياء المحيطة بك.
الفصل الأول
الأحلام وتجارب المحاكاة
ذات ليلة، استيقظ عالم الحيوان الفرنسي إيف ديلاج على طرقات الباب، كان الطارق هو حارس البيت يخبره أن يستيقظ لأن صديقا له باغته المرض، قام ديلاج من فراشه وارتدى ملابسه وتوجه مسرعا إلى دورة المياه ليغسل وجهه بإسفنجة مبللة. أيقظه إحساس الماء البارد على وجهه؛ كان في الواقع لا يزال مستلقيا في الفراش بملابس النوم، ولم يكن ثمة أحد يطرق الباب، كانت التجربة كلها حلما.
بعد دقائق، سمع طرقات أخرى على الباب، قال الحارس: «سيدي، ألن تأتي؟» رد ديلاج: «يا إلهي! إذن فهذا واقع بالفعل! اعتقدت أني أحلم.» رد الحارس: «إطلاقا، أرجوك أن تسرع، فالجميع ينتظرك!» استيقظ ديلاج وارتدى ملابسه، وأسرع إلى دورة المياه ليغسل وجهه. وعندما لامست الإسفنجة وجهه، استيقظ، ووجد نفسه بملابس النوم في الفراش. بعد برهة قصيرة، سمع طرقات أخرى على الباب، ومرة أخرى كان الحارس يقول: «سيدي ...»
قيل لنا إن هذه الأحداث كررت نفسها أربع مرات قبل أن يستيقظ ديلاج في النهاية في العالم الواقعي. مر ديلاج بظاهرة «الاستيقاظ الزائف» غير المعتادة ولكن غير النادرة أيضا؛ إذ استيقظ فيما اعتقد أنه العالم الواقعي، ليكتشف أن هذا أيضا كان حلما. وعندما استيقظ ثانية، اكتشف أنه لا يزال في حلم لم يستيقظ منه بعد. إن عدد المستويات التي يمر بها النائم قبل أن يستيقظ في النهاية قد يكون كبيرا للغاية، وغالبا ما يجد الأشخاص الذين يمرون بتجربة الاستيقاظ الزائف العملية كلها شديدة الإحباط.
ثمة سببان رئيسيان لذلك؛ أولهما: هو رعب الاستمرار في حلقة تكرار أبدي للأحداث نفسها، أما السبب الثاني: فهو الشك الذي يراودنا من جراء الاستيقاظ الزائف حيال حقيقة الاستيقاظ الفعلي. كان الاستيقاظ من حلم إلى حلم، أو على الأحرى «الخروج من مستوى إلى مستوى أدنى»، واقعيا ومقنعا تماما؛ إذن كيف نعرف أن تجربة اليقظة التي مررنا بها هذا الصباح قبل أن ننهض من الفراش كانت يقظة حقيقية؟ كيف تعرف أنك لم تستيقظ في حلم آخر، حلم يضم كل التجارب التي تمر بها الآن، وأنك بعد برهة قصيرة ستستيقظ مرة أخرى في عالم اليقظة، أو ربما في حلم آخر؟
إن تأمل احتمالية أنك تحلم الآن أمر مربك بالتأكيد، ربما تظن أنه أمر بعيد الاحتمال، تماما مثل الفوز بالجائزة الكبرى في اليانصيب أو مثل السقوط ميتا فجأة. هناك الكثير من الأشياء الممكنة نظريا، رغم أن احتمالية حدوثها شديدة الانخفاض (مثل أن يكتب قرد بعشوائية على الآلة الكاتبة الأعمال الكاملة لشكسبير، أو الاختفاء المفاجئ للأشياء نتيجة لتأثير ما يطلق عليه «النفق الكمومي»). فإذا كنت لا تقلق من احتمال أن يختفي هذا الكتاب فجأة من بين يديك نتيجة لتأثير كمي عجيب ما، فلم تقلق إذن من احتمالية أن تكون الآن في حلم؟
السبب في أنك يجب أن تقلق هو أن احتمالات أنك تحلم في هذه اللحظة بالذات أكبر بكثير جدا مما تتصور. لنحسب حسبة سريعة؛ نحن نفترض متفائلين أنك تحصل على ثماني ساعات من النوم كل ليلة؛ مما يجعل ساعات استيقاظك ست عشرة ساعة في اليوم. اكتشف الباحثون في مجال النوم أن هناك علاقة قوية بين الحلم وبين الدخول في نوم حركة العين السريعة؛ يتميز نوم حركة العين السريعة بالحركة السريعة لمقلة العين، ويكون الدماغ فيه نشطا للغاية؛ حيث إن نشاطه الكهربي يشبه النشاط الكهربي للدماغ المستيقظ، ولكن يكون إيقاظ النائم في هذه المرحلة أصعب من إيقاظه أثناء النوم في أي مرحلة بخلاف نوم حركة العين السريعة. ونحن نعلم أن ما بين 20٪ إلى 25٪ من نومنا يكون في مرحلة نوم حركة العين السريعة، فإذا ما أخذنا القيمة الدنيا وافترضنا أنك لا تحلم إلا أثناء نوم حركة العين السريعة، فهذا يعطينا 1,6 ساعة من الحلم كل ليلة؛ ومن ثم، نظرا لأن لديك 1,6 ساعة من وعي الحلم لكل 16 ساعة من وعي الاستيقاظ، فإن هذا يعني أن احتمال أنك تحلم في أي لحظة يساوي 1 : 10، وهذا احتمال كبير للغاية، بالمقارنة: احتمال الفوز بالجائزة الكبرى في اليانصيب يساوي تقريبا 1 : 14 مليون (هذا يعني أنك إذا اشتريت تذكرة كل أسبوع، فستحصل على الجائزة الكبرى في المتوسط كل 250 ألف سنة)؛ واحتمال أن يسقط مؤلف هذا الكتاب صريعا نتيجة حادثة السنة القادمة أقل من 1 : 2500.
شكل 1-1: التوزيع الطبيعي لمراحل النوم في ثماني ساعات؛ كلما زاد عدد الساعات في مراحل حركة العين غير السريعة (الرمادي الفاتح)، زادت صعوبة إيقاظ النائم.
مما سبق نخلص إلى أن ثمة احتمالا لا بأس به أنك الآن تحلم، ولكن هل لهذا أهمية؟ بالتأكيد لا يمكننا أن نغض الطرف عن احتمال أن كل هذا حلم، ولكنه ما دام مستمرا، فلن يشكل هذا أي فارق يذكر في طريقة عيشنا للحياة. فحتى إن لم تكن ورقة خمسة الجنيهات الاسترلينية التي لدي في جيبي إلا نقودا في الحلم، ولم تكن كعكة الفراولة التي أشتريها بها إلا كعكة في الحلم؛ فما زلت في النهاية أستطيع الشعور بمذاق كعكة الفراولة، وماذا أريد أكثر من هذا؟ فحتى إن كنت أحلم الآن، فسيظل لدي قدرة على أن أخطط لحياتي، وسيظل السبب يتبع المسبب والأفعال سيظل لها نتائج. بالطبع، لن تكون هذه النتائج إلا نتائج داخل الحلم، ولكن بما أننا افترضنا من البداية أنني لن أستطيع أن أفرق «من الداخل» بين إذا ما كنت أحلم أم لا، فلم أقلق بهذا الشأن؟ عالم التجارب لا يزال كما هو، وهذا هو المهم في النهاية.
ما مدى سرعة مرور الوقت داخل الحلم؟
هل يمر الوقت في الحلم بالسرعة نفسها لمروره في اليقظة؟ يبدو أن أدلة غير موثقة تقترح أنه يمر بسرعة أكبر بكثير؛ قام النبي محمد بزيارته المشهورة للسموات السبع في حلم استغرق منه وقتا أقل من تدفق الماء من قنينة مقلوبة. يحلم الكثيرون منا بأحلام فيها قصص تستمر لعدة أيام؛ ومن ثم تبدو لنا أطول كثيرا من الوقت الفعلي الذي نقضيه في الحلم. فإذا كان هذا صحيحا فسيكون هناك لحظات أكثر من الوعي مقابل كل وحدة من وقت النوم نقضيها في الحلم؛ ومن ثم سيكون احتمال أنك تحلم الآن أكبر من 0,1. إلا أن الأبحاث التي أجريت في الأحلام الجلية (الأحلام التي يعرف فيها الحالم أنه يحلم) بينت أن الوقت في الحلم يمر بالسرعة نفسها التي يمر بها في حياة اليقظة؛ فعندما يحرك النائم الذي يحلم بحلم جلي مقلة عين جسده الحالم، يتسبب هذا في حركة مقلته الحقيقية. يمكن تتبع هذه الحركة في مختبر النوم، وبهذه الطريقة يستطيع الحالمون إرسال إشارات من نومهم إلى عالم اليقظة؛ على سبيل المثال، يمكن أن نطلب من المشاركين في التجربة تحريك عيونهم خمس مرات من اليسار إلى اليمين في الحلم الجلي، وتقييم فترة زمنية ثم تحريكهما مرة أخرى. عندئذ يمكن المقارنة بين الوقت الحقيقي ووقت الحلم. أظهرت التجارب أنه في المتوسط تستمر الفترة المقدرة بعشر ثوان حوالي 13 ثانية في اليقظة؛ وهذا هو مقدار الوقت نفسه الذي تستغرقه في الحلم الجلي. يبدو أن تجربتي اليقظة والأحلام تحتويان على العدد نفسه للحظات الوعي لكل وحدة من وقت اليقظة.
بيد أن هذا المنطق متسرع إلى حد ما؛ ففي الواقع، ثمة فارق ضخم إذا كنت تحلم الآن؛ أولا: سيكون الجزء الأكبر من معتقداتك خاطئا؛ فقد تعتقد بوجود قطعة من كعك الفراولة؛ أي شيء مادي، أنتجها خباز، ولها شكل ووزن ومحتوى سكر معين، شيء يسبب إدراكك لهذه القطعة من الكعك، لكن كل هذه المعتقدات ستكون خاطئة؛ فليس هناك قطعة كعك بهذه المواصفات، بل مجرد مجموعة من الصور في عقلك تتجمع معا بطريقة معينة لتشكل فكرتك عن قطعة الكعك، دون أي صلة بأي كعك في الواقع الخارجي على الإطلاق.
ثانيا: سيكون عليك أن تراجع معتقداتك بشأن الأخلاق والمبادئ الأخلاقية. ربما تعتقد أن ثمة أشخاصا حولك، كزوجك وأبويك وأصدقائك وزملائك. فإذا كنت في حلم، فكل هذا غير واقعي. هناك أفكار في عقلك تعتقد أنها تمثل أشخاصا، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك. نحن عادة ما نعتقد أننا مجبرون على أن نتصرف على نحو أخلاقي نظرا لتبعات أفعالنا على الآخرين. فإذا كان فعل معين يسبب معاناة للآخرين، فعلينا أن نحجم عن القيام به؛ أما إذا كان يسبب إسعادهم، فعلينا أن نكافح من أجل القيام به، ولكن إذا لم يكن كل الناس الذين تتعامل معهم إلا صورا في حلمك، فهذا الدافع يتلاشى تماما. مع ذلك، ما زال عليك أن تتجنب الأفعال غير الأخلاقية التي سيكون لها عواقب مؤسفة بالنسبة لك (فأن ينتهي بك الأمر في سجن بالحلم ليس أفضل حالا بكثير من أن ينتهي بك الأمر في السجن في الواقع)، ولكن ما دمت تستطيع الإفلات بفعلتك، فإن أماني الآخرين وهمومهم لن تردعك بالضرورة عن أي فعل؛ نظرا لأن تلك الأماني والهموم كلها غير واقعية بالمرة.
إذن هناك في الحقيقة تبعات جوهرية لما تعرفه وللطريقة التي يجب أن تتصرف بها إذا لم تكن تجربتك بأكملها إلا حلما، هذه النتائج تصبح متطرفة بشكل خاص إذا افترضنا أن الموجود هو أنت فقط والأفكار التي تدور بعقلك. هذه الحالة الفلسفية يطلق عليها «نظرية الإيمان بالذات» وتقلص العالم ليصبح في حجم عقلك. (لعلك تعرف المزحة التي يكتب فيها شخص مرتبك مؤيد لنظرية الإيمان بالذات لكاتبة عمود النصائح: «سيدتي العزيزة، أنا من المؤمنين بنظرية الإيمان بالذات، وهذا وضع محمود، وأتساءل لماذا لا يوجد أشخاص آخرون مثلي؟») بالمقارنة بنظرية الإيمان بالذات، يعتبر الاعتقاد بأنك تحلم الآن معتدلا؛ فإذا كنت تحلم الآن، فسيكون هناك وقت تستيقظ فيه، وهناك طرق محدودة نقول بها إنك قد تملك بعض المعتقدات الصحيحة (ربما معتقدات في الحقائق الرياضية، التي قد تكون سليمة أيضا في عالم اليقظة)، يمكننا أيضا أن ندافع عن التصرفات الأخلاقية في عالم الحلم (إذا قلنا إن التصرفات غير الأخلاقية تشوه شخصيتك، وإذا كانت شخصيتك شيئا موجودا على الأقل جزئيا في حالة اليقظة الخاصة بك). ولكن بالنسبة للمؤمنين بنظرية الإيمان بالذات، فليس هناك عالم خارجي، وليس هناك أشياء، وليس هناك أشخاص؛ هناك شخص واحد فقط، هو أنا، وكل شيء يحدث داخل عقلي.
عادة ما يرتبط القلق مما إذا كنا نحلم الآن بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) الذي ناقش هذه القضية في مستهل كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى». أما في النقاش المعاصر، فغالبا ما يتم بحث هذه القضية بتناول بديلها الأكثر حداثة وتكنولوجية: القلق من أن نكون دماغا في وعاء.
تتيح لنا التكنولوجيا الطبية الحديثة الحفاظ على حياة بشر يفتقدون أعضاء حيوية متنوعة كالقلب أو الكليتين. وسرعان ما ستكون هناك رئات وأكباد صناعية، وليس ثمة مبالغة في الخيال حين نقول إنه في وقت من الأوقات في المستقبل سنتمكن من الإبقاء على حياة دماغ بشري على الرغم من تدمير جسده. سيتم إمداد هذا الدماغ بالمواد الغذائية عبر بديل للدم - في العادة محلول مؤكسج من أملاح متعددة - ولن يعود معتمدا على جسمه السابق من أجل وظائف الحفاظ على الحياة. تم تحقيق نجاح في هذا الاتجاه مع أدمغة الخنازير الغينية، ويبدو أنها مسألة وقت قبل أن يستطيع الطب فعل الشيء نفسه بأدمغة البشر.
مع ذلك، لا تكمن الصعوبة الأساسية في كيفية الحفاظ على حياة مثل هذا الدماغ، وإنما في الحفاظ عليه نشطا ومحفزا؛ حيث إن الحفاظ عليه معزولا سيكون مثل كونه مشلولا وأعمى وأصم وأبكم وغير قادر على الشم أو التذوق أو اللمس في الوقت نفسه، وهذه حالة أسوأ من حالة المرضى المصابين بمتلازمة المنحبس، والذين يعانون من شلل رباعي وعدم قدرة على الحركة أو التواصل نتيجة تلف الدماغ الأسفل وجذع الدماغ.
شكل 1-2: تعديل سينمائي مبكر لسيناريو الدماغ في وعاء.
على الأقل يتلقى هؤلاء المرضى بعض المدخلات الإدراكية، أما الدماغ المعزول فلا يحصل على أي معلومات عن العالم من حوله. ولكي تحافظ على سعادة دماغ في وعاء، عليك إذن أن تحفز أعصابه على نحو يحفز المدخلات من أعضاء الإحساس السابقة الخاصة به. والقيام بذلك على أي نحو شامل هو بالتأكيد أمر يخرج عن نطاق قدرات العلم في الوقت الحالي، ولكن أساسيات التكنولوجيا اللازمة لذلك موجودة؛ فقد استخدمت واجهات الدماغ-الكمبيوتر لاستعادة القدرة المحدودة على الإبصار للأشخاص الذين لم يولدوا مكفوفين عن طريق زراعة مجموعة من الأقطاب الكهربائية المتصلة بكاميرا في القشرة البصرية مباشرة، وقد تم الحصول على نتائج مشجعة مشابهة مع الأذرع الآلية. وقد يتيح لنا تطوير هذه التقنيات في المستقبل توفير عوالم محاكاة كاملة للترفيه عن الأدمغة المعزولة المتصلة بأجهزة حفظ الحياة. بالطبع لن تكون هذه العوالم المحاكاة قريبة من شكل العالم الواقعي. فسيكون من القسوة المحضة أن نرسل نبضات كهربية للدماغ تجعله يرى ما سيراه إذا كان له عينان؛ إذ سيرى حينها الجزء الداخلي من برطمان مملوء بمادة مغذية سائلة، ثم يتخطى ذلك إلى المنظر المحبط لوحدة حفظ الأدمغة المعزولة في المستشفى المحلي، المليئة بأرفف تحمل صفوفا فوق صفوف من الأدمغة المماثلة. وبما أن الواقع المحاكى جزء من العلاج الطبي بغرض تقليل معاناة المريضة، أفلن يكون من الأفضل إعطاؤها (أو على الأحرى إعطاء مخها) عالما محاكى تتمتع فيه بجسد وتعيش حياة بشرية سعيدة كاملة بكل ما تحمل الكلمة من معنى؟
ولكن هذا يثير خاطرا مقلقا: إذا كان هذا ما قد يفعله الأطباء، وإذا كانت الأدوات التكنولوجية اللازمة ستكون متاحة عند نقطة زمنية ما، فكيف يتأتى لنا أن نعرف أن هذا ليس ما يحدث لنا بالفعل؟ ليس من المجدي أن يكون الرد «نحن نعيش في بداية القرن الحادي والعشرين والأطباء غير قادرين على فعل ذلك حتى الآن.» فإذا كنا أدمغة معزولة يتم إمدادها بعوالم محاكاة، فقد تكون الحالة هي أنه يبدو أننا نعيش في عام 2011 في العالم المحاكى، ولكن التاريخ الحقيقي هو 2199. وقد يكون خداعك بشأن الزمن جزءا من الخطة العلاجية؛ فربما يكون عالم 2199 عالما محبطا قبيحا لا تستحب الحياة فيه؛ ومن ثم فالأفضل لنا أن نعيش في عالم 2011 المحاكى.
قد تظن أن هذه العوالم المحاكاة ليست قابلة للتطبيق، فرغم كل شيء، إن أردنا الحق، فلن تضطر نظم المحاكاة إلى توفير عالم لا يستطيع الدماغ تغييره (شيء أشبه بجعل الدماغ يشاهد فيلما يجري داخل الخلايا العصبية)، وإنما عالم يستطيع الدماغ التفاعل معه ويستطيع التأثير فيه من خلال القرارات التي يتخذها (شيء أشبه بجعل الدماغ يلعب لعبة كمبيوتر داخل الخلايا العصبية)؛ لذا إذا سرت في شارع محاكى وقررت فجأة أن تفتح باب أحد المنازل، فسيكون على نظم المحاكاة أن توفر على الفور كل ما قد تراه وتسمعه وتلمسه وتشمه وتتذوقه في هذا المنزل؛ وبناء هذا القدر الضخم من الواقع المحاكى وتوفيره للدماغ في الوقت الفعلي مهمة هائلة ليست فقط خارج نطاق قدراتنا التكنولوجية الحالية، ولكن أيضا قد تكون خارج نطاق أي حضارة مستقبلية.
للأسف ليست هذه حجة مقنعة تدحض احتمالية أن تكون أنت دماغا في وعاء. بادئ ذي بدء، يمكن أن تكون نظم المحاكاة في المستقبل البعيد جدا، في زمن يناهز في بعده عن زمننا الحاضر بعد زمننا عن العصر الحجري؛ فأجهزة الكمبيوتر في ذلك الوقت قد تتمكن من معالجة «الانفجار التوافقي» الذي يتسبب فيه الاضطرار للمحاكاة استجابة لاختيار العميل. أو ربما، وهذه هي النقطة الثانية، لا تكون مثل هذه الموارد الحسابية الضخمة ضرورية. إن دماغنا معقد للغاية، ولكن قدرته الحسابية ليست بهذه الضخامة. وتتراوح التقديرات ما بين مائة تيرافلوب (واحد تيرافلوب يساوي 10
12
عملية في الثانية) وألف ضعف؛ أي مائة بيتافلوب. تم تركيب أول كمبيوتر فائق، إيه إس سي آي بيربل، يتمتع بذروة أداء نظرية تبلغ مائة تيرافلوب عام 2005. أما الكمبيوتر الفائق رقم واحد في الوقت الحالي، كراي جاجوار، فيتمتع بقدرة قصوى تبلغ 1,75 بيتافلوب. فإذا كان قانون مور الذي يتنبأ بمضاعفة القدرة الحسابية كل سنتين لا يزال ساريا، فسوف نحصل على قدرة حسابية تبلغ مائة بيتافلوب في غضون عقد واحد أو أكثر قليلا. مثل هذا الكمبيوتر سيمتلك المصادر اللازمة لإنتاج عالم محاكى مقنع؛ لسبب بسيط هو أن عقولنا التي تتمتع بالقدرة الحسابية نفسها تفعل ذلك كل ليلة عندما نحلم. وبما أن محاكاة «الوقت المناسب» يبدو أنها لا تمثل مشكلة كبيرة لأدمغتنا، فمن المفترض أن نستطيع التغلب على الصعوبات التي سينطوي عليها الأمر.
هل هناك أي طريقة للتخلص من الشك المؤرق في أننا أدمغة منشطة اصطناعيا ومضللة من قبل عوالم محاكاة مولدة بالكمبيوتر؟ إذا ثبتت صحة هذا الشك، فإنه يجب أن يثير أعصابنا حقا. فماذا نعرف عن المعايير الأخلاقية الخاصة بالعلماء المتحكمين في أدمغتنا؟ هل يضعون مصلحتنا نصب أعينهم؟ وإذا لم يكن الوضع كذلك، فكيف نعرف أن العالم المحاكى لن يصبح فجأة غير مترابط (ربما بسبب خطأ في برنامج المحاكاة) أو، الأسوأ من ذلك، يصبح مرعبا (لأن عالما شريرا وضع دماغنا في فيلم الرعب المفضل لديه)؟ بل، هل نحن على يقين أساسا أن هناك عالما في الجانب الآخر من أدمغتنا؟ ربما يدير عملية المحاكاة كمبيوتر عملاق، وهذا الكمبيوتر إلى جانب الأدمغة ربما يكونون كل ما هو موجود في الكون.
لكن يبدو أن هناك خطأ ما في هذه الفكرة برمتها. لتعرف هذا الخطأ، تأمل أولا فكرة أن المعتقدات تشير إلى ما سببها. فإذا كنت أعتقد أن هناك موزة أمامي، فهناك سلسلة من الأسباب يمكن تعقبها من الفكرة التي تراود عقلي، عبر بعض النشاط العصبي في دماغي، وتنبيه الخلايا المستقبلة للضوء والموجودة في شبكية العين، والموجات الضوئية المنعكسة، إلى أن نصل إلى الموزة. وإذا لم يكن هناك سلسلة ملائمة من الأسباب مثل هذه، فليس هناك مرجع، حتى إن كان «يبدو» أن له وجودا. إذا كتبت في مذكرتي «جو» لأذكر نفسي بإرسال بطاقة معايدة لعيد ميلاده، فإن «جو» ترجع إلى صديقي جو؛ لأن هناك سلسلة سببية ترجع في النهاية إلى جو، كما هو الحال في مثال الموزة، ولكنني إذا أوقعت لوحة الحروف العشوائية، وصادف أن كون حرفان من الحروف التي وقعت على الأرض كلمة «جو»، فهذه الكلمة لا تشير إلى صديقي جو.
في عام 1923، ظهر وجه هنري ليدل، عميد كلية كنيسة المسيح بجامعة أكسفورد ووالد أليس (النموذج الواقعي للشخصية التي ابتكرها لويس كارول «أليس في بلاد العجائب»)، في الملاط الجاف للجدار الموجود تحت النافذة التذكارية المبنية من أجله في كاتدرائية كلية كنيسة المسيح. ورغم عدم وجود صور فوتوغرافية، تؤكد الروايات المعاصرة لنا أن «ذقن العميد وأنفه ورأسه، وكذلك الصلعة الموجودة في منتصف رأسه والشعر الأبيض المعقوص تحتها، ظاهرة بوضوح على الجدار.» إذا ما وضعنا في اعتبارنا عدم وجود سلسلة سببية تربط الرسوم الموجودة على الجدار بالعميد الراحل أكثر مما كان يربط حروف كلمة «جو» بالشخص الحقيقي، فإن هذه الرسوم لا تمثل هنري ليدل، على الرغم من أنها قد تبدو ممثلة له.
شكل 1-3: «داوسون ديلي نيوز» تجري تحقيقا عن الظهور الغامض لصورة العميد ليدل على جدار كاتدرائية كلية كنيسة المسيح.
والآن افترض أن العالم المحاكى المجهز لدماغ معين أعطاه الاعتقاد بأنه ماثل أمام تاج محل، فإلام تشير فكرته عن تاج محل؟ بالتأكيد هي لا تشير للمبنى؛ لأن هذا المبنى غير موجود في الكون كله. (تذكر أن لدينا كونا يقتصر على الأدمغة المعبأة في برطمانات، والكمبيوتر الذي يدير العرض كله، ولا شيء خلاف ذلك.) بما أن المعتقدات تشير إلى ما سببها، وبما أن هذا المعتقد تسبب فيه جزء من الكود مضمن في العالم المحاكى الذي وفره الكمبيوتر العملاق، إذن ففكرة تاج محل تشير إلى جزء من كود حاسوبي! ولهذا تبعات مفاجئة إلى حد ما تتلخص في أن معظم معتقدات هذا الدماغ في واقعية في حقيقة الأمر. فإذا اعتقد الدماغ أن تاج محل بناه شاه جهان، فإنه يعتقد أن تاج محل (جزء من الكود) مرتبط بشاه جهان (جزء آخر من الكود) على نحو معين، وهذا هو ما عليه الأمر في الواقع؛ لأنهما مرتبطان بهذه الطريقة في الكود المؤسس للعالم المحاكى. بالمثل، إذا اعتقد الدماغ، بناء على العالم المحاكى المتوفر، «أنني ماثل أمام تاج محل»، فإنه ليس مضللا، رغم عدم وجود أي شخص وعدم وجود تاج محل في الأساس. ويرجع هذا إلى أنه، على الرغم من أن فكرتنا عن «الجسم» وفكرتنا عن «تاج محل» لا تشير إلى شيء موجود في الكون، فإن هناك شيئا ترجع إليه أفكار الدماغ. إن ما يسبب فكرتنا بخصوص تاج محل لا يوجد في هذا الكون، ولكن ما يسبب فكرة الأدمغة؛ ومن ثم ما ترجع إليه الفكرة، موجود بالفعل.
دعونا نفرق بين ما تشير إليه أفكار الدماغ (أي أجزاء الكود الحاسوبي) بكتابته بين علامتي تنصيص، بحيث إننا عندما نقول تاج محل فإننا نشير إلى فكرتنا عن تاج محل، أما عندما نقول «تاج محل» فإننا نعني فكرة الأدمغة عن تاج محل.
والآن افترض أنك مجرد دماغ في الكون الموصوف توا. إذا كنت دماغا في عالم محاكى، فإن فكرتك عن «الدماغ» لا تشير إلى دماغ (وإنما تشير إلى «دماغ»)، وفكرتك عن «العالم المحاكى» لا تشير إلى عالم محاكى (وإنما إلى «عالم محاكى»). ولكن إذا كان اعتقادك أنك دماغ في عالم محاكى لا يشير إلى دماغ، إذن فهذا الاعتقاد خطأ، بقدر ما يعتبر اعتقادك أن اليتي (الإنسان الجليدي المقيت) نباتي اعتقادا خاطئا إذا لم يكن يشير إلى اليتي (على سبيل المثال، إذا لم يكن هناك وجود ليتي). وهكذا إذا كنت دماغا في عالم محاكى، إذن فاعتقادك أنك دماغ في عالم محاكى هو اعتقاد خطأ.
ثمة أمر خطأ هنا. بالتأكيد إذا كنت دماغا في عالم محاكى، فإن اعتقادك أنك كذلك ينبغي أن يكون صحيحا (بقدر ما يكون اعتقادك أنك بدين صحيحا إذا كنت ضعف وزنك الحقيقي). ومع ذلك فالعكس هو الصحيح.
يبدو أن المشكلة هي أن الكلمات والأفكار والمعتقدات الخاصة بالدماغ، والتي يمدنا بها العالم المحاكى، منفصلة تماما عن كلماتنا وأفكارنا ومعتقداتنا؛ فكلامنا يشير إلى سبب أفكارنا، وكلامهم (كلام الأدمغة) يشير إلى سبب أفكارهم، وهذه الأسباب مختلفة تماما عن تلك. ولكي نطرح سؤالا إذا ما كان من الممكن أننا في عالمهم، يجب أن يكون لدينا لغة تشتمل على الاثنين؛ أي لغة تستند إلى الأفكار التي تتسبب فيها أشياء مثل الأحذية والسفن وشمع الختم الأحمر، وأفكار تتسبب فيها «الأحذية» و«السفن» و«شمع الختم الأحمر» .
ولكن إذا أمكننا أن نستخدم هذه اللغة؛ فنحن إذن لا يمكن أن نكون أدمغة في عالم يقتصر على الأدمغة والكمبيوتر العملاق؛ نظرا لأن الأحذية والسفن وشمع الختم الأحمر لن يكون لها أي تأثيرات سببية في ذلك العالم، فهي ببساطة أشياء غير موجودة في مثل هذا العالم. في هذه الحالة، قد نتساءل: «إذا كنا غير قادرين على أن نصف - على نحو متماسك - حتى إمكانية أن نكون مجرد أدمغة منشطة كهربيا، فلم نقلق بهذا الشأن؟»
للأسف الشديد، هذا لا يساعدنا كثيرا في استبعاد إمكانية أن نكون أدمغة في عالم محاكى. فبادئ ذي بدء، ثمة صعوبات عديدة في الحجة المعروضة توا؛ بالطبع، أنا لا أستطيع أن أتحدث بكلمات ليس لها مرجعية، ولكنني أستطيع التحدث عن أشياء غير موجودة باستخدام كلمات لها مرجعية. فأنا أستطيع أن أتحدث عن اليتي، حتى إن كان غير موجود، بإقرار أن «اليتي» يعني «كائنا ضخما يشبه القرد ويعيش في جبال الهيمالايا»، فكل هذه الكلمات لها مرجعية، ولكننا نفترض أنها مجتمعة لا تشير إلى شيء موجود. بالمثل، ألا أستطيع أنا والدماغ أن نستخدم أفكارا لها مرجعية بلغتينا على التوالي، للتفكير في أشياء غير موجودة في عالمينا، مثل الأشجار الحقيقية، أو أجزاء الكود الحاسوبي التي تتسبب في إحداث تأثيرات شديدة الواقعية والتفصيل للأشجار؟ على الأقل لا يوجد في الحجة السابقة ما يبين أن هذا لا يمكن أن يحدث.
ومع ذلك، ثمة صعوبة كبرى تتمثل في أن الحجة السابقة استطاعت أن تستبعد حالة معينة واحدة، حتى وإن تمكنت من أن تفعل هذا بنجاح، وحتى إذا سلمنا أننا لا نستطيع وصف عالم يقتصر على الأدمغة المنشطة اصطناعيا، فماذا عن السيناريوهات الأخرى المرتبطة بهذا السيناريو؟ فلنفترض أن علماء أشرارا أزالوا دماغك من جسمك، وأبقوه حيا في وحدة حفظ أدمغة عالية التقنية، وقاموا بمحاكاة التجارب التي تمر بها في الوقت الحالي كما هي بالضبط (أي تجربة قراءة هذه الجملة). لاحظ أنه في هذه الحالة، لن تشير أفكارك فجأة لشيء مختلف، كما في المثال الموضح للتو. بالطبع، تجربة رؤية تاج محل سيتسبب فيها الآن جزء من كود حاسوبي تشغله وحدة حفظ الأدمغة، ولكنك ما زلت في عالم يوجد به تاج محل، ويمكن تعقب سلسلة الأسباب التي تسببت في تجربتك إلى ما وراء الكود الحاسوبي؛ إلى المبرمج الذي كتب الكود وإلى صور تاج محل التي استخدمها لإنشاء محاكاة له، وإلى المصور الذي التقط الصور، وأخيرا إلى تاج محل نفسه؛ إذن ففكرتك عن تاج محل ما زالت تشير إلى المبنى الحقيقي، وليس إلى «تاج محل». إن أفكار ومعتقدات وكلمات البشر العاديين ليست معزولة عن تلك الخاصة بالأدمغة المنشطة كهربيا؛ ومن ثم فإننا لا نستطيع أن نقول إن وصف هذا السيناريو غير متماسك. في ذلك الحين يحق لنا أن نسأل عن ميزة وجود حجة تستبعد سيناريو «اقتصار الكون على الأدمغة والكمبيوتر العملاق»، إذا كان هناك سيناريوهات أخرى كثيرة (مثل سيناريو «إزالة كل أدمغة الذكور على يد عالمة شريرة»، وسيناريو «إزالة كل أدمغة البشر على يد كائنات فضائية»، وغيرها من السيناريوهات) لم يتم المساس بها وما زالت تعتبر احتمالات قائمة.
وأخيرا، يجب أن نلاحظ أن النتيجة التي توصلت إليها حجتنا هي فقط أن سيناريو «اقتصار الكون على الأدمغة والكمبيوتر العملاق» لا يمكن وصفه على نحو متماسك. ولكن هذا لا يثبت أن مثل هذا السيناريو غير موجود. عوضا عن ذلك، يمكننا أن نفهم هذه الحجة باعتبارها تثبت أن هناك بعض المواقف المحتملة التي يمكن أن أمر بها، ولكنني لا أملك الموارد التصورية لوصف هذه المواقف؛ فعلى غرار بعض الأشياء التي نجهل أننا نجهلها، على حسب قول وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، هذه السيناريوهات المحتملة موجودة، وقد أكون في أحدها، ولكنني حتى لا أستطيع أن آخذ بمجامعها لتحديد مدى رجحانها من عدمه. وبدلا من تخفيف قلقنا من أن نكون مجرد أدمغة منشطة اصطناعيا، زادت هذه الحجة الطين بلة؛ لأننا الآن ليس علينا أن نقلق فقط حيال كل الاحتمالات السيئة التي تخطر ببالنا، ولكن أيضا حيال تلك التي لا تخطر ببالنا.
لعلك تظن أن احتمالية أنك تحلم الآن، وأنك دماغ بلا جسد في بيئة منشطة اصطناعيا - أو أي احتمالية أخرى غريبة يمكنك أن تفكر فيها - تترك لنا حقيقة واحدة لا مساس بها؛ أنك أنت من تمر بهذه التجربة، وأنك شخص حقيقي. قد تكون مخطئا بطرق شتى حيال هويتك (مخطئا حيال إذا ما كنت كبيرا أم صغيرا، إذا ما كنت ذكرا أم أنثى، إذا ما كان لك جسد أساسا أم لا)، ولكن لا يمكن أن تكون مخطئا حيال وجودك. فرغم كل شيء ، لا يمكن أن يوجد وهم دون وجود شخص يتوهم به. قد لا يكون هذا اليقين شيئا كثيرا، ولكنه شيء على الأقل. بل إن رينيه ديكارت اعتقد أنه يكفيه أن يبني منظومته الفلسفية بأكملها على يقين الوجود بينما يشك في وجوده؛ لأنه لا يمكن أن يوجد شك دون وجود شخص يشك. للأسف، هناك آراء مثيرة للاهتمام ترى أن اليقين في وجودك، مثل اليقين في وجود العالم الخارجي، يمكن أن يكون وهما.
إنها حقيقة معروفة أن الذات التي نشعر بها في الأحلام لها سمات مختلفة تمام الاختلاف عن ذاتنا في اليقظة؛ فهي لا تستطيع الوصول إلى الكثير من ذكريات ذات اليقظة، وعادة ما تتمتع بمجموعة مختلفة من الانفعالات المسيطرة (غالبا ما تكون أكثر سلبية)، وقد يكون لها جسد مختلف أو حتى جنس مختلف. فإذا ما وضعنا في الاعتبار هذه الاختلافات الجوهرية، هل من الممكن وجود حلم لا تكون أنت فيه الشخصية الرئيسية، رغم أن تجاربها جزء من حلمك؟ هذا قد يكون حلما لست أنت بطله، وإنما بطله شخصية من شخصيات الحلم، قد تكون واقعية أو خيالية مثلها مثل باقي الشخصيات في الحلم، ولكن مع الفارق أن الحلم قد روي من وجهة نظرها؛ ومن ثم فإن حياتها الداخلية كلها ستكون واضحة تماما أمامك. في هذه الحالة فأنت في موقف تكون فيه «أنت» في رأس شخصية تحلم بها، مثلما حدث في فيلم «أن تكون جون مالكوفيتش»، ولكن دون أن تملك القدرة على الوصول للذكريات والمعتقدات والرغبات «الخاصة بك أنت» (في مقابل الذكريات والمعتقدات والرغبات الخاصة بشخصية الحلم). فإذا سألت هذه الشخصية نفسها إذا ما كانت مستيقظة أم نائمة، فبالتأكيد الإجابة الصحيحة هي أنها ليست كذلك ولا كذلك؛ فهي فقط شخصية في حلم أحدهم وسوف تختفي فور استيقاظ الحالم من نومه.
الأطلال الدائرية
يصف خورخي لويس بورخيس في قصته القصيرة «الأطلال الدائرية» ساحرا، على الأرجح من مدينة باختر القديمة، يخلق شابا صغيرا من أحلامه. ويساعده إله النار على بث الحياة في هذا الشاب، كما يجعل هذا الطيف معصوما من الحرق. وفيما يلي نهاية القصة:
بعد فترة معينة، تفضل بعض السجلات حسابها بالسنين وبعضها بالعقود، أيقظه مجذفان في منتصف الليل؛ لم يستطع رؤية وجهيهما، ولكنهما تحدثا معه عن رجل مسحور في معبد الشمال يستطيع السير فوق النار دون أن تمسه النار. فتذكر الساحر فجأة كلمات الإله، وتذكر أنه من بين كل المخلوقات على سطح الأرض، كان إله النار هو الوحيد الذي يعرف أن ابنه ما هو إلا طيف. وهذه الذكرى، التي هدأت من روعه في البداية، عذبته في النهاية؛ فقد خاف أن ابنه إذا ما تأمل هذه الميزة غير العادية أن يكتشف بوسيلة أو بأخرى أنه مجرد محاكاة تافهة، أنه ليس رجلا، بل مجرد إسقاط لأحلام رجل آخر، يا له من ذل لا يضاهى! ويا له من جنون! كل أب يهتم بالأبناء الذين أنجبهم من لحظات خالصة من السعادة؛ ولذا كان من الطبيعي أن يخشى الساحر على مستقبل هذا الابن الذي خلق جسده جزءا تلو الآخر، وشكل ملامحه ملمحا فملمح، في ألف ليلة وليلة خفية. لكن مخاوفه انتهت فجأة، ولكن ليس دون تحذيرات سابقة تنبئ بانتهائها. أولا (بعد قحط دام لفترة طويلة) ظهرت غيمة بعيدة - في خفة الطير - فوق تل؛ ثم تخضبت السماء، نحو الجنوب، باللون الوردي؛ ثم أتت سحب الدخان التي سببت صدأ المعادن في الليل؛ وبعد ذلك جاء سرب من الطيور البرية المذعورة؛ لأن ما حدث منذ قرون عديدة يعيد نفسه. تحطمت أطلال معبد إله النار بفعل النار. وفي فجر دون طيور، رأى الساحر النيران وهي تتصاعد من جدران المعبد. وللحظات، فكر في أن يحتمي منها بالماء، ولكنه أدرك عندئذ أن الموت قد جاء ليتوج شيخوخته ويريحه من أعبائه، فمشى نحو ألسنة اللهب، ولكنها لم تنل من جسده، بل ربتت على جسده بلطف وغمرته دون أن تحرقه أو تؤذيه. وهنا أدرك بمزيج من الراحة والذل والرعب أنه هو أيضا لم يكن سوى طيف، يحلم به شخص آخر.
هل يمكن أن نكون شخصيات من خلق أحلام أحدهم؟ هذا الاحتمال هو انعكاس نظرية الإيمان بالذات؛ فالفرض الآن ليس أننا واقع وكل ما حولنا غير واقعي (لأنه في عقولنا فقط)، ولكن أن كل الأشياء الأخرى واقع، أما نحن فلسنا كذلك. قد ترى أن هذا الفرض خيالي. أليس وجودنا هو اليقين الأكثر جوهرية لدينا؟ وإذا كنا مجرد شخصيات في حلم، فمن الذي يحلم بنا؟ أهو إله؟ أهو شيطان مريد؟ أم شيء لا يمكن وصفه؟
لحسن الحظ، ثمة طريقة لتوضيح «معارضة نظرية الإيمان بالذات» بطريقة لا تتطلب الإيمان بإله، أو الأرواح القوية، أو غيرها من الكينونات الغامضة. يكمن الحل في فكرة المحاكاة. تتيح لنا العوالم المحاكاة عوالم نموذجية بسيطة للغاية من أجل اختبار نظرياتنا، مثل نظريات الطقس، وانتشار الأمراض، والديناميكا السكانية، وسلوك الجسيمات الأولية، وازدحام المرور، وغيرها.
شكل 1-4: نموذج انتشار مرض معد ممثل بواسطة خلايا ذاتية السلوك؛ الخلايا السوداء ميتة، والرمادية القاتمة مصابة، والبيضاء تتمتع بمناعة. تتيح القائمة على اليمين تعديل المعاملات، مثل مدى وبائية المرض.
عادة ما تمثل العوالم المحاكاة ملامح قليلة للكائنات التي تحاكيها دون أن تمثل معظمها؛ فمحاكاة المرور في جزء معين من المدينة من أجل دراسة أسباب الاختناقات المرورية قد تمثل السيارات المفردة كنقاط ملونة على الشاشة، على سبيل المثال، ولكنها لن تحاكي طريقة عمل محرك كل سيارة على حدة. وهذه ليست مشكلة؛ إذ إن المحاكاة لا بد أن تمثل أجزاء العالم التي نهتم بشأنها. علاوة على ذلك، كلما زادت التفاصيل التي نحاكيها، وفيها الجزيئات والذرات والجسيمات دون الذرية، صغرت مساحة العالم التي نستطيع تمثيلها في المحاكاة باستخدام القدرة الحسابية الحالية. وإذا زادت مواردنا الحسابية بالطريقة التي نتوقعها، أو أكثر، فقد تختفي هذه القيود في المستقبل غير البعيد. وقد يتمكن أحفادنا المتمتعين بتكنولوجيا متقدمة للغاية من تشغيل عمليات محاكاة لنظم مادية في كبر حجم كوكب الأرض، ممثلين كافة التفاصيل حتى المستوى الذري.
محاكاة الأمراض المعدية بالخلايا الذاتية السلوك
لكي تفهم ماهية الخلايا ذاتية السلوك، تخيل شبكة من الخلايا المربعة، مثل ورقة الرسم البياني. كل خلية إما أن تكون ممتلئة (حية) أو فارغة (ميتة). فلنفترض أن الخلايا الحية والميتة موزعة عشوائيا عبر الشبكة المربعة. والآن تخيل مجموعة من القواعد التي تحدد ما يحدث في الشبكة في المستقبل. كل خلية (فيما عدا الخلايا الموجودة في الأركان) سيكون لها ثماني خلايا مجاورة: اثنتان أفقيتان، واثنتان رأسيتان، وأربع خلايا قطرية. إحدى القواعد قد تنص على أن أي خلية لها أكثر من ثلاث خلايا مجاورة حية تموت من الزيادة السكانية. وقد تنص قاعدة أخرى على أن الخلايا التي لها أقل من جارتين حيتين ليست سعيدة بدورها؛ ولذا فإنها تموت من الوحدة. والآن يمكننا أخذ التوزيع العشوائي للخلايا الحية والميتة على الشبكة وتطبيق القاعدتين الأوليين عليه: كل الخلايا التي لها أكثر من ثلاث خلايا مجاورة أو أقل من خليتين مجاورتين يجب أن تصبح فارغة، بينما تظل باقي الخلايا حية. يمكننا أن نفعل كل ذلك بورقة رسم بياني وقلم رصاص وممحاة، ولكننا سنكون أسرع كثيرا لو جعلنا الكمبيوتر يقوم بهذه المهمة. وكل تطبيق للقواعد ينظر إليه بوصفه حركة في ساعة نموذج العالم الخاص بنا. ومع تطبيق الكمبيوتر للقواعد على الشبكة مرة بعد مرة، يمكننا أن نرى كيف يتغير نموذج العالم، متسببا في ظهور أنماط مختلفة.
تعتمد الأنماط التي ستظهر في الأساس على أنواع القواعد التي تحكم الانتقال من حالة للشبكة إلى أخرى؛ ومن ثم من «حركة» للساعة إلى الحركة التالية. إذا أردنا دراسة انتشار الأمراض المعدية، يمكننا أن نفترض جدلا أن بعض الخلايا الحية مريضة؛ أي حاملة للمرض، فإذا كان لخلية سليمة جارة مريضة، يمكن أن نضع قاعدة تحدد احتمال أن تصاب بالمرض هي أيضا. فإذا كان الاحتمال 0,5، فإن نصف الخلايا السليمة التي تجاور خلايا مريضة ستصبح مريضة هي أيضا بعد الحركة التالية. يتفق هذا الاحتمال مع مدى وبائية المرض؛ بمعنى مدى سهولة الإصابة به. ويمكن وضع قاعدة أخرى لتحديد المدة التي يمكن أن تعيشها الخلايا المصابة بالمرض؛ بمعنى: بعد كم حركة ستتحول الخلية من خلية حية إلى خلية ميتة؟ ويتفق هذا مع مدى شدة المرض؛ أي مدى سرعته في قتل الخلية التي يصيبها. وعن طريق تنويع القواعد، يمكننا أن نلاحظ في نموذج العالم الذي وضعناه كيف تتطور الأمراض المختلفة من حيث احتمال الإصابة بها والسرعة التي تقتل بها حاملها؛ على سبيل المثال، سوف نلاحظ أن الأمراض الشديدة الوبائية التي تقتل بسرعة كبيرة لا تنتشر بسرعة كبيرة؛ إذ إن العائل سيقتله المرض قبل أن يصيب غيره بالعدوى.
من الطريف أن نطرح سؤالا عما سنحاكيه إذا أتيحت لنا مثل هذه التكنولوجيا. ما يخطر على بالنا على الفور هو تاريخنا. كثيرا ما نتساءل عما كان سيحدث إذا تغيرت بعض التفاصيل الصغيرة ولكن المهمة في الماضي. ماذا كان سيحدث إذا لم يأخذ قائد سيارة الأرشيدوق فرانز فرديناند المنعطف الخطأ داخلا إلى شارع جانبي في سراييفو في الثامن والعشرين من يونيو عام 1914؟ ماذا كان سيحدث إذا كان ألكسندر فلمنج قد ألقى طبق بتري الملوث في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1928؟ ماذا كان سيحدث إذا توفي ماو تسي تونج إثر أزمة قلبية أثناء سباحته الشهيرة في نهر يانجتسي في السادس عشر من يوليو عام 1966؟ ماذا كان سيحدث إذا لم يغير ألويس شيكلجروبر اسم عائلته إلى هتلر؟ رغم أننا غير قادرين على الإجابة عن هذه الأسئلة، سوف يتمكن أحفادنا من الإجابة عنها؛ فبإمكانهم أن يشغلوا عملية محاكاة حاسوبية لكل ما حدث على كوكب الأرض بين عامي 1875 و1945، ويغيروا تفصيلة واحدة صغيرة في المسار الحقيقي للأحداث؛ ومن ثم يراقبون إذا ما كان ملايين الألمان سيهتفون بالتحية «هايل شيكلجروبر» أم لا. وقد تتيح محاكاة مشابهة لأحفادنا اكتشاف شكل العالم لو لم تشتعل الحرب العالمية الأولى، أو لو لم يكتشف البنسيلين، أو لو لم تقع الثورة الثقافية الصينية.
ولكن يوجد الآن الاحتمال المقلق أننا «نحن أنفسنا» نعيش في إحدى عمليات المحاكاة المتنوعة. ربما لم تقع الأحداث بين عامي 1950 و2050 حقا بالطريقة التي نذكرها. ربما تغيرت تفصيلة واحدة مهمة مما حدث في 1950 (ولا نعرف أي تفصيلة) في عملية المحاكاة، وتغير مسار الأحداث تغيرا شديدا منذ ذلك الحين. ربما لم يولد أشخاص بأسمائنا في المسار الأصلي للأحداث من عام 1950 إلى عام 2050، وفي هذه الحالة فنحن جميعا نتاج عملية محاكاة، وعلى غرار الساحر في قصة بورخيس، نحن موجودون في حلم أحدهم فحسب.
قد نفكر قائلين: «لكن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا، فنحن نعلم أن الشخصيات في لعبة الكمبيوتر، مثلا، ليست واعية، أما نحن فواعون؛ ولهذا السبب، لا يمكن أن نكون شخصيات في لعبة كمبيوتر، أو بالأحرى في هذه الحالة، شخصيات في عملية محاكاة تاريخية، لا تتعدى كونها لعبة كمبيوتر معقدة على نحو خاص. فما من سبيل يمكن أن تدرك به شخصية لارا كروفت العالم الذي توجد فيه، وعلى النقيض نحن ندرك العالم الذي نوجد فيه؛ ومن ثم لا يمكن أن نكون شخصيات مثلها.» عند هذه النقطة، يجدر بنا أن نسأل أنفسنا عن السبب الذي يجعلنا نظن أن لارا كروفت ليست واعية. والإجابة هي أنه ليس هناك برنامج كمبيوتر متاح حاليا يستطيع حتى أن يحاكي لاعب «جو» هاويا ماهرا، فما بالنا بعقل واع كامل في بيئة افتراضية. ومع ذلك، إذا كانت القضية هي مجرد نقص التعقيد، فهذه مشكلة يمكن حلها بسهولة؛ فالافتراض الأساسي لدينا هو أن أحفادنا سيتمكنون من الوصول إلى موارد حسابية أكثر تقدما مما نمتلكه حاليا، وسيتمكنون من محاكاة دماغ كامل، بكل ما يحوي من جزيئات. فإذا كنا نعتقد أن العقل البشري هو ما يفعله الدماغ البشري، إذن فالمحاكاة بهذا المستوى من التفاصيل سوف تحاكي أيضا العقل البشري. وجزء مما يعنيه ذلك هو أن هذا العقل سيتمتع برؤية الشخص الأول؛ أي يرى العالم من منظوره الخاص.
بعبارة أخرى، قد تصنع المحاكاة طرقا مختصرة. ليس هناك حاجة إلى محاكاة الأشياء الشديدة الصغر أو الشديدة البعد، مثل الكائنات الدقيقة الموجودة في قطرة ماء أو الصخور الموجودة على عمق متر من سطح القمر، بل يكفي أن نحاكي هذه الأشياء في حينها، إذا صادف أن وضعنا قطرة الماء تحت الميكروسكوب، أو حفرنا ثقوبا في سطح القمر . بالمثل، يمكن توفير الموارد الحسابية بعدم محاكاة أدمغة بعض الشخصيات الموجودة في العالم المحاكى. قد يبدو لنا أن لها الهيكل الداخلي نفسه الذي يتمتع به باقي الأشخاص الذين نقابلهم، ولكنها ليست أعقد بكثير من الشخصيات الموجودة في ألعاب الكمبيوتر المتوفرة حاليا، والروبوتات الافتراضية التي لا تتعدى كونها وهما، التي تبدو واعية، ولكنها في الحقيقة تفتقر إلى العقل. ويثير مثل هذا الترشيد في الموارد الحسابية السيناريو المروع الذي نكون فيه نحن أنفسنا غير حقيقيين (لأننا مجرد محاكاة) وكل من نقابلهم من الزومبي (لأن مظهرهم الخارجي فقط هو ما تمت محاكاته).
إذا سلمنا بعدم الاضطرار إلى محاكاة كل جزيء في العالم، وإنما فقط أسطح معظم الأشياء، بالإضافة إلى عدد معين مطلوب من الأدمغة، فإن إدارة عملية محاكاة تاريخية بالشكل الموصوف أعلاه من المرجح أن تكون ممكنة بالموارد الحسابية المتاحة في المستقبل غير البعيد. بالطبع، من الممكن أن تدمر الحضارة الإنسانية (يرتطم بها كويكب أو يدمرها فيروس قاتل محور وراثيا أو تغرق من جراء ارتفاع مستوى سطح البحر) قبل أن تستطيع بناء أجهزة كمبيوتر قوية بما يكفي لإدارة عمليات المحاكاة التاريخية. وفي هذه الحالة، من الواضح أننا لا يمكن أن نكون جزءا من عملية محاكاة يديرها أحفادنا. وبالمثل، حتى إذا كانوا قادرين على إدارة مثل عمليات المحاكاة هذه، فإنهم قد لا يرغبون في ذلك فحسب؛ حيث إن الأفكار المتبصرة التي قد يحصلون عليها من هذه العمليات قد تكون تافهة بالنسبة لهم، ولعل لديهم مساعي أخرى - غير معلومة لنا - أكثر جاذبية من الناحية الثقافية بالنسبة لهم، ولكن لو كان حقيقيا أن الموارد الحسابية المطلوبة لإدارة عمليات محاكاة تاريخية لن تكون متاحة بسهولة في المستقبل البعيد فلكيا، ولكنها في متناول أيدينا تكنولوجيا، إذن فيجدر بنا ألا نفترض افتراضات مبالغا فيها فيما يتعلق بالوقت المتبقي لنا على هذا الكوكب، أو الأنماط المتغيرة للاهتمامات الثقافية للبشر؛ من ثم فإن فرصة وجود عملية محاكاة تاريخية في مرحلة ما من المستقبل تبدو معقولة.
بمجرد بدء أسلافنا في إدارة عمليات المحاكاة التاريخية ، فإن عدد الأشخاص الموجودين في هذه العمليات قد يتجاوز سريعا المائة مليار شخص الذين عاشوا على كوكب الأرض منذ تكونه. وفي هذه الحالة، سيكون من المنطقي بالنسبة لنا أن نعتقد أنه من المرجح أننا نعيش نحن أنفسنا في عملية محاكاة تاريخية. فلنفترض أن صديقك يعرض عليك لوحة جديدة اشتراها من لوحات سلفادور دالي. فإذا وضعنا في اعتبارنا أن 90 في المائة، وفقا لآراء الخبراء، من اللوحات المعروضة للبيع حاليا في السوق مزيفة، وإذا افترضنا أنك وصديقك تفتقران إلى التدريب الكافي لتمييز لوحات دالي الأصلية من المزيفة، فإنه من المنطقي بالنسبة لك أن تفترض أن احتمال كون هذه اللوحة مزيفة يبلغ 0,9. بالمثل، إذا تمت محاكاة عدد ن٪ من كل الكائنات الواعية، ومع افتراض أنك تعجز عن التمييز بين المحاكاة والواقع، فإن احتمال أن تكون أنت مجرد محاكاة هو ن٪. (قدر الفيلسوف الأسترالي ديفيد تشالمرز هذا الاحتمال ذات مرة ب 20٪، في ضوء الاعتبارات السابقة الذكر، يبدو هذا الرقم منخفضا إلى حد ما.)
بالطبع، يمكن استخدام الحجة نفسها لكن في هذه الحالة يقوم أحفادنا بمحاكاتنا، وهم أنفسهم قد يكونون مجرد عمليات محاكاة خاصة بأحفادهم. وفي الواقع، إذا كنا نحن نحاكي أشخاصا آخرين، فعلينا أن نؤمن بيقين أكبر أننا نحن أنفسنا تتم محاكاتنا، بما أننا أصبحنا نعرف أن مثل هذه المهام يمكن القيام بها بنجاح؛ من ثم فإن أحفادنا القائمين بالمحاكاة ينبغي أن يتبينوا أكثر منا أنه من المرجح أنه يتم محاكاتهم. ويمكننا أن نتخيل هيكلا هرميا كاملا نكون فيه مجرد شخصيات في محاكاة تاريخية يديرها أحفادنا، الذين تتم محاكاتهم هم أنفسهم بواسطة آخرين، يعيشون في عالم محاكى يديره غيرهم، وهكذا، إلى ما لا نهاية. في مثل هذا السيناريو، تصبح عمليات المحاكاة أعقد فأعقد كلما نزلنا من مستوى إلى مستوى أدنى؛ فالأشخاص الذين يديرون عملية المحاكاة في المستوى الثاني من أعلى الهيكل الهرمي ليسوا فقط مضطرين إلى محاكاة عالم بأسره بكل من فيه من بشر (تحديدا أحفادنا)، وإنما أيضا كل عمليات المحاكاة التاريخية التي يقومون بها (ونحن فيها). وعلى المحاكي أن يكون شديد الحرص ويراقب خلقه عن كثب: فإذا قامت الكائنات التي تم عمل محاكاة لها بمحاكاة غيرها من الكائنات، وقامت تلك بإنشاء كائنات أخرى، فسوف تنفد جميع مواردنا الحسابية في المحاكاة دون أن ندري. وفي هذه الحالة سيكون الخيار الوحيد المتاح أمامنا هو إلغاء عملية المحاكاة التي نديرها، بالإضافة إلى الهيكل الهرمي المستند إليها بالكامل. ولكن هذا قد يمنحنا فسحة من الوقت للتفكير. فإذا بدأنا ندير عمليات محاكاة أسلافنا، فسوف نزيد احتمال أن يلغي من يقومون بمحاكاتنا عملية المحاكاة الخاصة بنا (هذا إذا كنا حقا نخضع للمحاكاة)؛ نظرا لأن الموارد الإضافية التي نستهلكها بهذه الطريقة قد تكون كثيرة جدا. وإذا كنا في أعلى الهيكل الهرمي للمحاكاة، فإن محاكاتنا قد تكون القشة التي تقصم ظهر البعير؛ ومن ثم يجب أن نعيد النظر في مسألة إدارة عملية محاكاة أسلافنا.
يشترك سيناريو المحاكاة في بعض عواقب الاحتمالات الأخرى المذكورة أعلاه، والتي يتم فيها خداعنا على نحو منظم: أن نكون في حلم، أو أن نكون عبارة عن أدمغة يتم تنشيطها اصطناعيا وتغذيتها بمعلومات مصطنعة. قد نكون مخطئين في أغلبية معتقداتنا، وقد يتبدى لنا أن دوافعنا نحو السلوك الفاضل ليس لها أساس (إذا كنا جزءا من عملية محاكاة منخفضة التكاليف تقوم بمحاكاة الآخرين كواجهات خالية فحسب). ولكن في حين أنه في الحالتين الأوليين، لا تزال أنفسنا لها وجود - الأنا الحقيقية التي تعتبر النقطة الثابتة في دوامة الوهم - ففي سيناريو المحاكاة نحن غير واقعيين بالمرة، كما أن العالم المحاكى الذي نتعامل معه غير واقعي. جزء من عدم الراحة الذي نشعر به فيما يتعلق بسيناريو الدماغ المنشط هو أن المحاكاة قد تتوقف فجأة، وعندئذ سندرك ماهية العالم الواقعي؛ إننا ما زلنا موجودين، ولكن في بيئة مختلفة اختلافا جذريا، وفي زمن بعيد في المستقبل، دون جسم، في برطمان، وهكذا. أما في حالة المحاكاة، فليس هناك «استيقاظ» في العالم الواقعي؛ نظرا لأن العالم الواقعي - عالم أحفادنا - لا يشملنا. وإذا توقفت عملية المحاكاة، فإننا لن نجد أنفسنا فجأة في مواجهة واقع أن كل الأشياء المحيطة بنا مزيفة؛ لأننا ببساطة لن نكون موجودين أساسا. من ناحية، قد يريحنا هذا السيناريو؛ فنحن لن نجد أنفسنا مجرد أدمغة وحيدة في مختبر عالم شرير. ولكن من ناحية أخرى، يخلف هذا لدينا شعورا غريبا بأننا مجرد وهم. ولن يعود من المنطقي أن نظن أن العالم الواقعي يدور في فلكنا، لأننا لسنا حتى جزءا من العالم الواقعي؛ فاليقين الذي يبدو أنه الأكثر جوهرية - أن لنا وجودا وسط عالم من الأوهام المعقدة - سيذهب في طي النسيان؛ فليس من الممكن أن يختفي الوهم دون أن نختفي نحن معه؛ لأننا نحن أنفسنا جزء من هذا الوهم.
شكل 1-5: تصوير صيني تقليدي لحلم الفراشة.
في حين أن افتراض أننا غير موجودين في المستوى الأساسي للواقع افتراض مربك للعقل، فإنه من الممكن أن نمنحه فرصة أخرى. من المعروف أن الفكرة الأساسية تم شرحها في القرن الرابع قبل الميلاد في حجة ساقها الفيلسوف الصيني جوانج زي. وهو يروي التجربة التالية:
في الليلة الماضية، راودني أنا، جوانج زي، حلم بأنني فراشة ... فراشة تطير في الهواء وتستمتع بوقتها. لم أكن أدري أنها جوانج زي، وفجأة استيقظت، ورجعت إلى نفسي ثانية، إلى جوانج زي الواقعي. لم أكن أعرف إذا ما كان جوانج زي يحلم بأنه فراشة، أم أن الفراشة الآن تحلم بأنها جوانج زي. ولكن لا بد من وجود فرق بين جوانج زي والفراشة.
في هذا السيناريو، ليس لدينا شخص واحد يخلق آخر في الحلم، ولكن شخصيتان، جوانج زي والفراشة، يخلق أحدهما الآخر في الحلم. هذه الحالة من الأحلام المتناسقة لا تدل فقط على أننا، بوصفنا شخصيات في حلم، غير واقعيين، في حين أن شخصا آخر، الذي يحلم بنا، واقعي، وإنما تقوض أيضا احتمال القدرة على التمييز بين ما هو واقعي وما هو غير واقعي في الأساس. جوانج زي يحلم بالفراشة، إذن فالحالم جوانج زي واقعي، والفراشة التي يحلم بها ليست واقعية. ولكن الفراشة أيضا تحلم بجوانج زي ، الذي لا ينبغي أن يكون واقعا، بوصفه شخصية في حلم أحدهم. ولكن لا شيء يمكن أن يكون واقعيا وغير واقعي في الوقت نفسه.
حتى في سيناريو المحاكاة، يمكن أن نكون على يقين أن هناك من هو واقعي، على الرغم من أننا غير واقعيين. ونحن، ككائنات تمت محاكاتها، قد لا نكون جزءا من المستوى الأساسي من الواقع، ولكن من يحاكوننا جزء منه. وإذا لم يكونوا جزءا من الواقع، فإن من يحاكونهم جزء منها. في النهاية هناك شخص يجب أن يكون واقعا. ولكن إذا طبقنا فكرة جوانج زي على سيناريو المحاكاة، فسيكون لدينا حالة نقوم فيها بإدارة عملية محاكاة لكائنات تمت محاكاتها، وهذه الكائنات تدير عملية محاكاة لكائنات أخرى تمت محاكاتها بدورها، وهذه الكائنات الأخيرة مماثلة لنا تماما. لقد تحول الهيكل الهرمي للمحاكاة إلى دائرة مفرغة.
شكل 1-6: لوحة «معرض اللوحات» لإم سي إيشر.
يمكننا رؤية تمثيل مرئي طريف لهذه الدائرة المغلقة في لوحة إم سي إيشر «معرض اللوحات». تصور هذه اللوحة شابا في معرض صور ينظر إلى لوحة بها ميناء ومدينة من الخلف. بدخولنا إلى الصورة وفحصنا للمدينة، نرى امرأة تجلس في نافذة فوق معرض صور، وفيه ينظر الشاب نفسه إلى الصورة التي نحن بداخلها! وكما هو الحال في سيناريو جوانج زي؛ حيث من المستحيل أن تميز إذا ما كنت داخل الحلم أو خارجه، أو داخل عملية محاكاة أو خارجها؛ ففي هذه الحالة من المستحيل أن نحدد إذا ما كان الشاب خارج الصورة؛ ومن ثم فهو واقعي؛ أم إنه جزء من الصورة؛ ومن ثم فهو غير واقعي. هناك أسباب وجيهة لكلا الرأيين: إذا بدأنا بالشاب، فسنرى أنه يقف أمام الصورة، وإذا بدأنا بالصورة، فسنرى أن الشاب موجود فيها بوضوح. لا تكمن المشكلة فقط في عدم معرفتنا أي الرأيين هو الرأي السليم؛ فنحن لا نستطيع أن نتيقن بشكل نهائي أن أحد الرأيين هو الصائب؛ نظرا لعدم وجود أي معلومات إضافية جديدة، وعدم وجود أي حقائق أخرى يمكننا الاستناد إليها للتأكد من حقيقة الأمر . بعد الشك فيما إذا كان العالم من حولنا واقعيا أو ما إذا كنا نحن أنفسنا واقعيين، يبدو أن ثمة يقينا آخر قد ضرب به عرض الحائط؛ أيا كان شكل العالم، فهناك شيء أو شخص واقعي، حتى إذا لم نكن نحن كذلك.
الفصل الثاني
هل المادة واقع؟
عندما التقى نيو ومورفيوس لأول مرة في واقع محاكى يطلق عليه «البناء»، اقترح مورفيوس طريقة لتعريف الواقع:
ما «الواقع»؟ كيف تعرف «الواقع»؟ إذا كنت تعني ما نستطيع تذوقه وشمه وسماعه والإحساس به؛ إذن الواقع ليس سوى إشارات كهربية يترجمها دماغك.
بعبارة أخرى، الواقع هو ما يظهر لحواسك. هذا التعريف، والذي سنطلق عليه «تعريف فيلم ماتريكس»، هو تعريف عجيب في عدة مناح؛ فالإلكترونات، ورقم 5، والركود الاقتصادي الأخير؛ كلها أشياء لا نستطيع تذوقها أو شمها أو سماعها أو الإحساس بها، ولكن معظم الناس متفقون على أنها واقع. من ناحية أخرى، الحشرات الوهمية التي تظهر أمام مدمني الكحول أثناء الهذيان الارتعاشي، والأصدقاء الوهميون الذين يتحدث معهم الأطفال، والروائح الوهمية التي يشمها المرضى المصابون بألزهايمر؛ كلها أشياء مرئية ومسموعة ومشمومة، ولكنها ليست واقع؛ من ثم فنحن في حاجة لتعريف أفضل للواقع.
إن مجرد ظهور الشيء لحواسنا ليس دليلا كافيا على واقع وجود هذا الشيء؛ فالهلاوس والظواهر المرتبطة بها كلها ليست من الواقع، وفقا لما نقوله، لأنها غير مرئية أو ملموسة أو مشمومة من قبل أي شخص آخر؛ فهي ليست ظاهرة لحواس أي شخص آخر بخلاف الشخص الذي تراوده الهلاوس. على هذا يمكننا تعريف «الواقع» ليعني أي شيء ظاهر لحواس عدد كبير كاف من المشاهدين. وسيتيح لنا ذلك التفرقة بين خيالاتنا الخاصة وهلاوسنا وبين شكل العالم الذي يشترك الجميع في رؤيته. إن علامة الواقع ليس أنه يظهر لبعض الناس بعض الوقت، وإنما أنه يظهر لمعظم الناس معظم الوقت. وهذه الفكرة، التي ترى أن الواقع لا يصل إليه إلا أغلبية من العقول تعمل معا في انسجام، حدث لها بعض التشويه والتحريف في رواية جورج أورويل «1984» عندما قال عضو الحزب الداخلي أوبرين:
أقول لك يا وينستون، الواقع ليس خارجيا، الواقع موجود في العقل البشري وليس في أي مكان آخر. ليس في عقل الفرد، الذي يمكن أن يرتكب أخطاء، وفي كل الحالات سرعان ما يذهب في طي النسيان؛ وإنما في عقل الحزب، وهو عقل جمعي وخالد.
فلنطلق على هذا «تعريف رواية «1984»». وعلى الرغم من أنه أكثر إرضاء من «تعريف فيلم ماتريكس»، فإنه تعريف شديد الضعف أيضا؛ فهو سينظر إلى الواجهات الواهية لسيناريوهات الديستوبيا مثل سيناريو رواية «1984» أو سيناريو فيلم ذا ماتريكس بوصفها الحقيقة، وسوف ينتج نتائج غريبة في السيناريوهات الأقل خيالا. فلتنظر مثلا إلى مرض كورو، وهو مرض عجيب موجود أساسا في جنوب شرق آسيا. تشمل أعراض المرض القلق الشديد المفاجئ من نكوص الأعضاء التناسلية إلى داخل الجسم؛ ومن ثم التسبب في الموت. وكثيرا ما ينتشر المرض على هيئة وباء في منطقة معينة؛ على سبيل المثال ظهر المرض في سنغافورة عام 1967، فأدى إلى دخول 97 مريضا إلى مستشفى واحد في يوم واحد. وما يؤدي لتعقيد المرض أن المصابين به قد يلجئون من فرط القلق إلى اللجوء للكلابات والملازم وغيرها من الأدوات الميكانيكية لإيقاف نكوص أعضائهم التناسلية المحسوس إلى داخل أجسامهم، وغالبا ما تتسبب هذه الأفعال في أضرار جسيمة. وغني عن القول، أنه ليس ثمة نكوص فعلي ملحوظ يحدث للأعضاء التناسلية؛ فالكورو ليس مرضا جسديا وإنما مرض عقلي. ولكن وفقا لتعريف رواية «1984»، إذا اعتقد عدد كاف من الأشخاص في تقلص القضيب، فتقلص القضيب أمر واقعي. إن الصعوبة التي يواجهها المهلوسون، والأطفال ذوو الأصدقاء الخياليين، وغيرهم، ليست في أنهم مخطئون في الطريقة التي يرون بها العالم، وإنما في أنهم أقلية. وبمجرد أن يؤمن عدد كاف من الأشخاص بشيء غير واقعي، فإن هذا الشيء، أيا كان، لا بد من اعتباره واقعا.
سيكون من الطيب أن نستخلص تعريفا أكثر موضوعية لكلمة «الواقع» من ذلك التعريف المرتبط بالاتفاق الجمعي. وتمنحنا الحكاية التالية حول المعجمي صامويل جونسون فكرة عما ينبغي أن نبحث عنه:
بعد أن خرجنا من الكنيسة، وقفنا نتحدث لبعض الوقت معا حول سفسطائية الأسقف بيركلي المبتكرة لإثبات عدم وجود المادة، وأن كل ما في الكون لا يعدو أن يكون محض أفكار موجودة في العقل. ولاحظت أننا رغم تيقننا من أن مذهبه غير صحيح، فإنه من المستحيل دحضه. ولن أنسى ما حييت الحماسة التي رد بها جونسون وهو يضرب بقدمه بمنتهى القوة حجرا كبيرا قائلا: «مع ذلك، أنا أدحضه.»
بالنسبة لجونسون، علامة الواقع هي المقاومة التي تبذلها أجسام معينة؛ فأنا أستطيع تخيل مقعد موضوع أمامي بكل تفاصيله وشكله ولونه وملمسه، إلى أن يصبح لدي صورة شديدة الوضوح له في عقلي. مع ذلك، إذا حاولت الجلوس على هذا المقعد، فإن جسمي سيقع على الأرض، في حين أن المقعد الواقعي الحقيقي سوف يدعم جسمي. «المقاومة» في هذا السياق، لا تعني اللانفاذية، وإنما إحجام الأشياء الواقعية عن التأثر برغباتنا وأمانينا. وكما يصوغها فيليب كيه ديك، فإن الشيء الواقعي هو الشيء الذي لا يختفي عندما تكف عن الإيمان بوجوده.
بمجرد أن يتوقف طفلك عن الإيمان بوجود صديقه الخيالي، فإن هذا الصديق يختفي، وإذا توقفت أنت عن تصور المقعد، فسوف يختفي هذا المقعد الوهمي من الوجود؛ ولهذا فإن هذا الصديق وهذا المقعد (على عكس الأصدقاء والمقاعد العادية) غير واقعيين. وسوف نطلق على تعريف الواقع بأنه الشيء الذي لا نختلقه «تعريف جونسون». ورغم الطابع المنطقي العقلاني الذي يتسم به هذا التعريف، فإن له بعض النتائج الغريبة. بشكل عام، نحن نعتقد أن البورصة واقع، وأن الأحلام ليست واقعا، ولكن وفقا لتعريف جونسون، العكس هو الصحيح. فنحن لا نختلق أحلامنا؛ لأننا لا نستطيع اتخاذ قرار بما نريد أن نحلم به (اسأل أي شخص يعاني من كوابيس متكررة). والأحلام تبذل بعض المقاومة لرغباتنا وأمانينا، فإذا راودك حلم بأن القطار يفوتك، فإن القطار لن يتأخر عن موعده خمس دقائق لتلحق به، بل سيرحل في وقته بالضبط في الحلم، وسوف يفوتك. أما البورصة، فهي شيء نختلقه جميعا. إذا توقف الجميع عن الإيمان بها، بمعنى أن يتوقف الجميع عن الشراء والبيع فيها ، فإن الأسهم وأسعارها وتقلباتها سوف تختفي من الوجود، تماما كما يختفي الصديق الوهمي الذي توقف الطفل عن الإيمان به.
لكن ربما نستطيع حل مشكلة تعريف جونسون؛ فالأحلام والبورصة هما في النهاية أشياء يختلقها العقل البشري. ولكن تخيل عالما ليس به بشر، أو ربما ليس به عقول؛ ألا يمكننا اعتبار كل ما في هذا العالم واقعيا؟ كيف سيصبح عالمنا دون عقول واعية؟ سيظل القمر يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس؛ والإلكترونات تدور حول نواة الذرة. لن يكون هناك ألوان، ولكن سيظل هناك ضوء بأطوال موجية مختلفة؛ لن يكون هناك روائح، ولكن ستظل هناك جزيئات عالقة في الهواء؛ لن يكون هناك قصص، ولكن ستظل هناك علامات على الورق. وهذا التعريف للواقع بأنه ما يتبقى في عالم نحن غير موجودين فيه، عالم انتزع منه كل البشر، سوف نطلق عليه «تعريف نهاية العالم». وفي حين أن هذا التعريف يتسبب في جعل مجموعة الأشياء الواقعية صغيرة نسبيا (فاقتصاد العالم واللغات والحروب وغيرها لن تعد أشياء واقعية)، فإنه التعريف الأكثر تماسكا الذي قابلناه حتى الآن؛ فهو يعادل ما هو واقعي بما هو موجود بغض النظر عن أي شيء، بالعالم الذي لم تمسه العقول البشرية، العالم الذي نزعت منه كل أماني البشر ورغباتهم واهتماماتهم.
مع ذلك، قد يكون من الممكن أن نجعل هذا التعريف أكثر تماسكا. ذكر جون لوك في كتابه «مقالة حول الفهم البشري» هنديا:
قال إن العالم يرتكز على فيل ضخم، وعندما سئل عما يرتكز عليه الفيل نفسه، كانت إجابته: سلحفاة ضخمة. ولكن عندما ضغط عليه لمعرفة ما ترتكز عليه السلحفاة ذات الظهر العريض، أجاب بأنه شيء لا يدري كنهه.
عندما نحلل كل ما يحيط بنا من أشياء مادية، سنجد أن الأحذية والسفن وشمع الختم، وكل الأشياء التي نستخدمها يوميا مكونة من جزيئات، وهذه الجزيئات تتكون بدورها من ذرات، وتتكون كل ذرة من نواة صغيرة تحيط بها إلكترونات. أما النواة فهي تتكون من بروتونات ونيوترونات، التي يمكن تحليلها إلى مجموعة متنوعة من الجسيمات دون الذرية. وكل هذه الجسيمات يمكن تفسيرها في ضوء أوتار، والتي يمكن تحليلها إلى كيانات أساسية أكثر «لا ندري كنهها». في هذا التسلسل الهرمي، كل مستوى يعتمد على المستوى الأدنى منه مباشرة، وفي هذه الحالة يكون الشيء الواقعي هو الموجود في المستوى الذي يعتمد عليه الآخرون، ولكن دون أن يعتمد هو نفسه على شيء؛ أي السلحفاة الأساسية - أيا كانت - التي يعتمد عليها الكون كله. ويختلف «تعريف السلحفاة» عن تعريف نهاية العالم للواقع لأنه لا ينظر إلى كل ملامح العالم التي تفتقد إلى العقل على أنها واقعية: جبل إفرست، على سبيل المثال، رغم أنه مستقل عن العقل، فلا يزال يعتمد في وجوده على وجود أجسام أخرى مادية أصغر وأكثر جوهرية. الواقع هو فقط الشيء أو الأشياء التي تنتهي عندها أدنى حدود الميتافيزيقا؛ أي الأجسام التي تشكل المستوى السفلي من سلسلة الاعتماد التي تمتد من البضائع المتوسطة الحجم إلى الجزيئات والذرات والجسيمات دون الذرية إلى وجهة ما زلنا لا نعرفها.
التعريفات الخمسة للواقع
تعريف فيلم ماتريكس:
الواقع هو ما يظهر لحواسنا.
تعريف رواية «1984»:
الواقع هو ما يظهر لمعظم الناس.
تعريف جونسون:
الواقع هو ما لا نختلقه.
تعريف نهاية العالم:
الواقع هو ما هو موجود بغض النظر عن أي شيء.
تعريف السلحفاة:
الواقع هو المستوى الأدنى في سلسلة الاعتماد.
شكل 2-1: تظهر في الصورة لافتة على مكتب هاري ترومان ومكتوب عليها:
THE BUCK STOPS HERE
بمعنى «هنا نهاية المطاف.»
من بين تعريفات الواقع الخمسة التي ذكرت حتى الآن، يبدو التعريفان الأخيران للواقع (أنه ما هو موجود بغض النظر عن أي شيء، أو هو المستوى الأساسي لكل ما عداه من أشياء) هما التعريفين الأكثر تماسكا وموضوعية؛ لذلك عندما نبحث فيما إذا كان شيء ما واقعيا أم لا، يجب أن نضع في ذهننا هاتين الفكرتين. سوف نبدأ بالنظر إلى حقيقة ما يبدو أنه أحد الأشياء الشديدة الجوهرية: المادة. والسؤال الحاسم الذي يجب أن نطرحه هو إذا ما كان أدنى مستوى للمادة يشبه برطمانا من الجيلي أو علبة مليئة بقطع الحلوى. بعبارة أخرى، إذا أخذنا جسما ماديا وقسمناه إلى نصفين، ثم قطعنا النصف إلى نصفين، وتابعنا بهذه الطريقة، فهل سينتهي بنا الأمر بأجسام بسيطة ممتدة مستمرة مثل الجيلي يمكن تقسيمها ولكن ليس لها أجزاء واقعية؟ أم إن كل شيء يتكون من ذرات دقيقة غير ممتدة، مثل قطع الحلوى الشديدة الصغر غير القابلة للتقسيم؟
يبدو أن تشبيه الجيلي يواجه صعوبات إذا ما فكرنا في جسمين، فلنقل، برتقالتين بحجمين مختلفين. من البديهي أننا سنرغب في قول إن إحداهما أكبر من الأخرى لأنها تحتوي على أجزاء أكثر. ولكن إذا كانت المادة مثل الجيلي، فلدينا فقط جزيئات محتملة؛ إذ يمكننا تقسيم ما لدينا إلى جزأين مرة أخرى، ولكن العالم لا يأتي في أجزاء ذرية منفصلة متمايزة معبأة سابقا. في هذه الحالة، كل برتقالة تحتوي على عدد لا نهائي من الأجزاء المحتملة. وإذا افترضنا أيضا أن الترتيب الداخلي لثمرتي الفاكهة متشابه إلى حد ما، فمن الصعب إذن أن نفهم السبب وراء كون برتقالة أكبر من الأخرى.
إذا كان العالم لا يشبه برطمان الجيلي، فهل هناك قطع صغيرة لا نهائية من المادة؟ ظاهريا، تعد هذه النظرية أكثر معقولية. عندما نستمر في تقسيم الأشياء، سنصل إلى مرحلة لا نستطيع فيها الاستمرار في التقسيم. والأشياء غير القابلة للتقسيم التي نصل إليها في النهاية هي المكونات الذرية الأساسية من المادة، والتي يتكون منها كل شيء. ولكن كيفية تكون كل شيء من ذرات غير قابلة للتقسيم أمر أكثر تعقيدا مما يبدو، ولنضرب مثلا بشيء معقد يتكون من ثلاث ذرات، إحداها في المنتصف وواحدة على اليمين وأخرى على اليسار.
شكل 2-2: الفيلسوف الهندي فاسوباندو (القرن الرابع الميلادي).
ولنطلق على الجزء الذي تلمس فيه الذرة اليسرى الذرة الوسطى (أ)، والجزء الذي تلمس فيه الوسطى اليمنى (ب). لا يمكن أن يكون (أ) و(ب) هما الجزء عينه، وإلا فإن الذرة اليسرى والذرة اليمنى ستتلامسان بشكل مباشر، وسيكون هناك ذرتان فقط، وليس ثلاث ذرات. لكن إذا لم يكونا الجزء عينه، فإن الذرة الوسطى تتكون على الأقل من جزأين، (أ) و(ب). ولكن كيف يمكن هذا، إذا لم تكن مجزأة أساسا؟ يبدو أنه إما أن الذرات (على عكس افتراضاتنا) يجب أن تحتوي على أجزاء؛ ومن ثم فهي ليست ذرات حقيقية؛ أو أن عدة ذرات لا يمكن أن تملأ حيزا أكبر من الذرة الواحدة، وفي هذه الحالة فإن الأجسام الممتدة لا يمكن أن تتكون من ذرات.
تسببت صعوبات شرح ماهية المادة بالضبط في أن يستنتج الفيلسوف الهندي فاسوباندو، الذي عاش في القرن الرابع، أن المادة غير موجودة على الإطلاق؛ فبالنسبة لفاسوباندو، كل ما هو موجود عقلي بطبيعته، وما ننظر إليه باعتباره مادة هو في الحقيقة مجرد أجسام عقلية مدركة على نحو خاطئ؛ فالمادة واقع فقط في تعريفي الواقع الضعيفين «فيلم ماتريكس» و«رواية «1984»»، ولكن ليس في أي من التعريفات الأكثر موضوعية.
لكن ما مدى شدة هذه الصعوبات؟ تبنى العلم الغربي الحديث نظرية «قطع الحلوى» للمادة؛ إذن كيف نستطيع أن نفهم الذرات التي يفترضها؟ قد نرغب في الرد على نقد فاسوباندو بقول إنه على الرغم من وجود ذرات ممتدة تملأ مساحة من الفراغ، فإن هذه الذرات لا تتجزأ. يمكننا تخيل كل ذرة من هذه الذرات باعتبارها محاطة بمجال من القوة الطاردة يمنع أي شيء من الدخول إليها؛ لذا فإن تجمع هذه المجالات من القوى، التي يرتكز كل منها حول ذرة غير ممتدة، قد يؤدي إلى ملء حيز من الفراغ، مانعا أي أجسام أخرى من شغل الحيز في الوقت نفسه. بعبارة أخرى (وبغض النظر عن التصور الكلاسيكي)، يمكننا أن نقول إن الجسيم النقطي يمكن أن يملأ حيزا نظرا لوجود احتمال غير صفري لملء كل نقطة داخل هذا الحيز.
مع ذلك، ليس من الواضح إذا ما كان أي من هذا يمكن أن يمدنا بتفسير مرض لملء المادة الفراغ. إذا بحثنا أي جزء من هذا الفراغ، فسنلاحظ أنه غير مملوء؛ سنجد ذرة غير ممتدة (والتي وفقا لتعريفها لا تملأ فراغا) أو مجال قوة (وهو الخاصية السلبية المحضة التي تمنع أي شيء من الاقتراب منه) أو «احتمالية» وجود شيء في هذه النقطة؛ لذلك كل ما ننتهي إليه هو «مظهر» المادة وهي تملأ حيزا من الفراغ، دون وجود شيء فعلي يملؤه. ولا يمكن الجزم بأن منتقدي فاسوباندو سيكونون أكثر تقبلا لهذا الخيار.
بعد فترة طويلة، نجد جورج بيركلي (1685-1753) ينكر واقعية المادة، وإن كان لأسباب مختلفة عن تلك التي ساقها فاسوباندو. يشير بيركلي إلى أننا لا نتواصل على نحو مباشر مع المادة، فعندما نلتقط برتقالة ونقشرها ونتذوقها ونشمها، فنحن نستكشف مجموعة من المدركات: الشكل الدائري واللون البرتقالي والمذاق الحلو الحامض. ونحن نفترض وجود هذا الجسم المادي، البرتقالة، بسبب هذه المدركات. ولكننا لا نستطيع الخروج من حيز عقلنا لنتأكد من وجود هذا الجسم في الحقيقة، بغض النظر عن كل المدركات؛ لذلك يبدو أن فكرة المادة لا تلعب دورا مهما في تفاعلاتنا المباشرة مع العالم. في النهاية تعتمد كل نظرياتنا على مدركاتنا، وهذه المدركات ليست مادية؛ من ثم فإن كل ما نستكشفه هو في طبيعته عقلي، في حين أن العالم المادي (إذا كان ثمة شيء يحمل هذا الاسم) لا يمكن الوصول إليه إطلاقا. وكل العلم الذي نتوصل إليه الآن يمكن أن نتوصل إليه، ربما بطريقة أصعب قليلا، عن طريق التوقف تماما عن الحديث عن المادة، والاستعاضة عنه بالحديث عن المدركات. كذلك يرى بيركلي أن المادة ليست شيئا خارج حدود إدراكنا، سواء في الحياة اليومية أو في ممارستنا للعلوم الطبيعية، كما أن افتراض أن المادة موجودة أيضا لا يفسر أي شيء على الإطلاق. نحن نستطيع أن نحكي قصة طويلة معقدة عن كيفية ارتداد الضوء على البرتقالة ليصطدم بأعيننا ويثير الخلايا الحساسة للضوء في الشبكية؛ مما يتسبب في حدوث نبضات تنتقل عبر العصب البصري لتصل إلى المخ؛ حيث تتم معالجتها في القشرة البصرية. ولكن هذه القصة لن تفسر لنا أبدا كيف يتأتى «إدراك البرتقالة»، وهي عملية عقلية. ويبدو أن كل هذا الحديث عن المادة لا يثير إلا مزيدا من الحديث عن المادة دون الوصول إلى تفسير ولو تقريبيا للأشياء الوحيدة التي نعرفها بشكل مباشر، وهي تحديدا المدركات. إن واقعية المادة افتراض نستطيع الاستغناء عنه.
جدير بالذكر أن فاسوباندو وبيركلي حين ينكران واقعية المادة لا ينكران ظهورها لنا أو لمعظم الناس، ولكنهما ينكران واقعيتها بالرجوع إلى تعريف نهاية العالم وتعريف السلحفاة للواقع؛ ففي عالم دون عقول، لن يكون ثمة مادة؛ بالإضافة إلى ذلك، الأشياء المادية ليست هي الأكثر جوهرية في العالم. (أيضا فاسوباندو وبيركلي لن يعتبرا المادة واقع وفقا لتعريف جونسون؛ فبالنسبة لهما، إذا تخلصنا جميعا من اعتقادنا الخاطئ بوجود أجسام مادية، فلن يكون هناك مادة؛ ومن ثم فإن المادة شيء نختلقه جميعا.)
تشغل البراهين التي ساقها فاسوباندو وبيركلي مكانة مهمة في تاريخ الفلسفة، إلا أن بعض الأفكار المعاصرة الأكثر روعة حول واقعية المادة لا تنبثق عن التأمل الفلسفي المحض، وإنما عن مجموعة من التجارب الفيزيائية البسيطة نسبيا. وقد أدت محاولات تفسير ما يحدث في هذه التجارب إلى بعض النظريات الشديدة الغرابة وغير المتوقعة في العالم من حولنا.
ويمكن تجهيز إحدى هذه التجارب بسهولة في المنزل؛ كل ما تحتاجه هو مصباح ومجموعة من قطع الورق المقوى بها ثقوب ذات أحجام متناقصة، وشاشة عرض من نوع ما، مثل حائط أبيض اللون. إذا وضعت قطعة من الورق المقوى بين المصباح والحائط، سوف ترى بقعة مضيئة في مكان اختراق الضوء للورق المقوى. وكلما استبدلت بقطعة الورق المقوى قطعا أخرى ذات ثقوب أصغر فأصغر، فسوف يقل حجم بقعة الضوء. وبمجرد أن نتجاوز حجما معينا، سوف يتغير النمط على الحائط من نقطة صغيرة إلى سلسلة من الحلقات المتحدة المركز من الضوء والظلام، تماما مثل هدف الرماية. يمكننا ملاحظة نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز بسهولة عن طريق عمل ثقب شديد الصغر (نحو واحد على عشرة مليمتر) في قطعة من ورق الألومنيوم والنظر عبر هذا الثقب نحو مصدر ضوء يشبه النقطة، مثل مصباح شارع بعيد. نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز سمة مميزة للموجات، سواء أكانت صوتية أو مائية أو أي نوع آخر من الموجات، عند تمريرها عبر ثقب . وهذا ليس مدهشا بطبيعته؛ فنحن نعرف رغم كل شيء أن الضوء موجة؛ ومن ثم فإنه سيسلك سلوك الموجات.
شكل 2-3: نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز.
والآن فكر فيما يمكن أن يحدث عند تغيير إعدادات التجربة تغييرا بسيطا. بدلا من المصباح، سنستخدم جهازا يطلق إلكترونات (مثل ذلك الموجود في أجهزة التليفزيون القديمة)، وبدلا من الحائط، سنستخدم طبقا من الزجاج مطليا بالفسفور. عندما يصطدم إلكترون بقطعة من الفسفور، فإنه يومض؛ ومن ثم فإننا نستطيع استخدام هذه الشاشة لتتبع أماكن اصطدام الإلكترونات غير المرئية. تتفق النتائج مع نتائج التجربة السابقة؛ مع الثقوب الكبيرة بما فيه الكفاية، سنحصل على بقعة واضحة إلى حد ما في مكان اصطدام الإلكترونات بالشاشة؛ ومع الثقوب الأصغر، سنحصل على نمط حلقي. وهذا يبدو شيئا غريبا؛ فالإلكترونات عبارة عن جسيمات تقع في نقاط محددة لا يمكن تقسيمها. ومع ذلك، فهي تسلك سلوك الموجات المنتشرة عبر الفضاء، ويمكن تقسيمها، وتندمج في موجة واحدة عندما تقابل موجة أخرى. ولكن ربما لم يكن الأمر بهذه الغرابة رغم كل شيء؛ فالماء يتكون من جزيئات صغيرة أيضا يطلق عليها ذرات وتتجمع في جزيئات
H
2
O ، ومع ذلك يسلك سلوك الموجات. من الممكن أن نرى ظهور النمط الحلقي كشيء يحدث عندما يتجمع عدد كاف من الجزيئات فحسب، سواء أكانت جزيئات ماء أو إلكترونات. إلا أن إحداث تغيير بسيط في التجارب السابقة يبين لنا أن هذا الرأي لا يمكن أن يكون صحيحا. في هذا التغيير، سنقلل عدد الإلكترونات التي نطلقها من مدفع الإلكترونات بالتدريج حتى نصل في النهاية إلى إطلاق إلكترون واحد كل دقيقة. سيختفي النمط، وكل ما نراه الآن هو وميض بسيط كل دقيقة. والآن نترك هذا الإعداد يعمل كما هو لبعض الوقت، ولكن مع الاستمرار في تسجيل المكان الذي يحدث فيه الوميض البسيط على الشاشة. بعد ذلك، نقوم بتخطيط مواقع ألوف الومضات التي حدثت على الشاشة. الغريب أننا لن نحصل على ترتيب عشوائي من النقاط، وإنما على نمط حلقي مرة أخرى! هذه النتيجة شديدة الغرابة، فكل إلكترون مفرد لا يعرف أماكن اصطدام الإلكترونات السابقة واللاحقة له؛ ومن ثم فالإلكترونات لا تستطيع التواصل بعضها مع بعض لإنتاج نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز، وإنما لا بد أن كل إلكترون قد انتقل مثل موجة عبر الثقب لإنتاج النمط الحلقي المميز، ثم تحول مرة أخرى إلى جزيء لإنتاج النمط النقطي على الشاشة. ويشترك في هذا السلوك الغريب أي جزء صغير من المادة مثل الإلكترونات والنيوترونات والفوتونات والكواركات وغيرها من الجسيمات الأساسية، ولكن لا يشترك فيه هذه الأشياء فحسب؛ فقد لوحظت تأثيرات مشابهة للأجسام الأكبر حجما بما فيه الكفاية بحيث ترى تحت الميكروسكوب، مثل شبكة من ستين ذرة كربون تكون شكل كرة القدم.
من أجل تفسير سلوك هذه الأجسام، يربط الفيزيائيون «دالة موجية» بكل جسم منها. على الرغم من حقيقة أن مثل هذه الموجة تتمتع بالخصائص المعتادة للموجات العادية (مثل موجات الصوت والماء)، وفي ذلك السعة (مدى انحرافها لأعلى أو لأسفل عن حالة الراحة) والطور (في أي نقطة في الحلقة توجد الموجة في الوقت الحالي)، والتداخل (بحيث يلغي الطوران «العلوي» و«السفلي» للموجتين المتلاقيتين أحدهما الآخر)، فإن الوسط الذي توجد فيه هذه الموجات ليس واضحا بالمرة. تحدث أينشتاين عن «الحقل الطيفي» باعتباره وسطها. بالنسبة لموجة في وسط عادي مثل الماء، يمكننا أن نحسب طاقتها عند أي نقطة عن طريق أخذ مربع سعتها عند هذه النقطة. إلا أن الدوال الموجية لا تحمل أي طاقة؛ ولذا يعطينا مربع سعتها في نقطة معينة «احتمالية» رصد الجسيم في حالة وضع مكشاف هناك (مثل الشاشة المطلية بالفسفور). من الواضح أن النقطة التي يتحول فيها الجسم من الوجود باعتباره محض موجة احتمالية، ينتشر وجوده المحتمل عبر الفضاء، إلى الوجود باعتباره جسما فعليا محدد الموقع في الفضاء، مثل إلكترون يصطدم بشاشة فسفورية، ذات أهمية حاسمة في هذا السياق. ماذا يحدث بالضبط عندما تنهار الدالة الموجية، أو بعبارة أخرى، عندما يتم اختيار موضع واحد فقط من بين الاحتمالات اللانهائية لمواضع وجود الجسيم في أي لحظة، في حين ترفض كل المواضع الأخرى ؟
أولا: علينا أن نسأل أنفسنا: «متى» يتم هذا الاختيار؟ في المثال الموضح أعلاه، يبدو أن هذا يحدث قبل حدوث الوميض على الشاشة الفسفورية، في هذه اللحظة، تم قياس موضع الإلكترون عن طريق بدء قطعة من الفسفور في الوميض بسبب اصطدام هذا الإلكترون بها، لذلك لا بد أن الإلكترون نفسه كان موجودا هناك، وليس مجرد موجة احتمالية. ولكن لنفترض أننا لا نستطيع فعليا الوجود في المختبر لملاحظة التجربة، عندئذ يجب أن نوجه كاميرا إلى الشاشة الفسفورية ونرسل النتيجة عبر وصلة قمر صناعي للكمبيوتر الخاص بنا. في هذه الحالة، يجب أن ينتقل الضوء المنبعث من الشاشة إلى الكاميرا لتسجيله، وتحدث الدورة نفسها مرة أخرى: على غرار الإلكترونات، ينتقل الضوء أيضا كموجة ويصل كجسيم (فوتون في هذه الحالة). إذن ما السبب الذي يدعونا لأن نعتقد أن انهيار الدالة الموجية والتحول من الموجة الاحتمالية إلى جسيم قد حدثا فعليا على الشاشة الفسفورية، وليس في الكاميرا؟ في البداية، يبدو أن الشاشة الفسفورية كانت هي جهاز القياس، والإلكترون هو ما يقاس. ولكن الآن، أصبح ما يقاس هو الشاشة وجهاز القياس هو الكاميرا. وباعتبار أن أي جسم مادي ينقل القياس ويمكننا إضافته إلى هذه السلسلة (الكاميرا، القمر الصناعي، الكمبيوتر، أعيننا، دماغنا) يتكون من جسيمات لها الخصائص نفسها للإلكترون الذي نحن بصدده، فكيف نستطيع تحديد أي خطوة نستطيع عندها التمييز بين ما يقاس وما يقوم بالقياس؟
هذه السلسلة دائمة الاتساع للظواهر المقيسة وأجهزة القياس يطلق عليها «سلسلة فون نيومان» تيمنا بالرياضي والفيزيائي جون فون نيومان.
اقترح يوجين ويجنر، زميل فون نيومان في جامعة برينستون، المجري المولد أيضا، الخطوة التي يمكن التمييز عندها، بتتبعنا لسلسلة فون نيومان صعودا، فإن أول كيان نقابله لا يتألف بأي حال من الأحوال من أجزاء من المادة هو وعي الراصد الذي يقوم بالقياس. قد نرغب إذن في قول إن الوعي عندما يدخل للصورة، تنهار الدالة الموجية وتتحول الموجة الاحتمالية إلى جسيم. هذا الاحتمال يعني ضمنا أننا إذا وضعنا معدات التجربة بالكامل - من مدفع إلكترونات وورقة مثقوبة وشاشة فسفورية - في صندوق مغلق بإحكام، فإن الدالة الموجية لن تنهار، نظرا لعدم وجود راصد واع يراقب وميض الضوء الصادر عن الشاشة الفسفورية؛ فالأنظمة التي تنطوي على راصدين واعين يمكن أن تحدث انهيارا في الدالة الموجية؛ أما مجرد وجود أجهزة قياس غير واعية فلا يحدث هذا الانهيار.
إذا لم يتسبب وعي الراصد في انهيار الدالة الموجية؛ فسوف يستتبع ذلك نتائج طريفة. كما ذكرنا أعلاه، مع زيادة الأجسام التي يمكن أن تسقط في دوامة سلسلة فون نيومان بالتغيير من كونها أداة قياس إلى كونها جزءا مما يقاس، يصبح الهيكل «المنتشر» للموجة الاحتمالية خاصية من خواص هذه الأجسام أيضا. وتؤثر طبيعة التطابق الخاصة بالإلكترون - الذي يبدو أنه يظهر في أماكن متعددة في الوقت نفسه - على أدوات القياس سالفة الذكر. وقد تم التحقق بالتجربة من أن الأجسام الكبيرة بما يكفي لترى تحت الميكروسكوب (مثل شريط معدني يبلغ طوله 60 ميكرومترا) - وليس فقط الأجسام التي لا ترى من فرط صغرها - يمكن أن تظهر سلوك التطابق نفسه. بالطبع، لا يمكننا أن ننظر بالميكروسكوب ونشاهد القطعة المعدنية في مكانين في الوقت نفسه؛ لأنه من شأن عملية الرصد أن تتسبب فورا في انهيار الدالة الموجية. ومع ذلك، من الواضح أن عدم التحديد الذي نجده في المستوى الدقيق يمكن أن ينتشر إلى المستوى الكبير.
إذا سلبنا الآن وعي الراصد، فإنه يتحول إلى مجرد أداة قياس معقدة إلى حد ما، مثل الشاشة الفسفورية، والكاميرا، وغيرها. فلنفترض أننا وضعنا فيزيائيا في حاوية محكمة الغلق، كبيرة بما يكفي ليجعلها مختبرا ولكن معزولة تماما عن كل التأثيرات الخارجية. مهمة الفيزيائي هي رصد إذا ما كان الإلكترون الذي يطلق في اتجاه الشاشة الفسفورية في وقت الظهيرة تماما يوم الإثنين سيصطدم بالشاشة في مركز نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز الناتج أم في أطرافه، يرصد الفيزيائي النتيجة ويستأنف تجارب أخرى، يوم الإثنين التالي، نفتح باب الحاوية ويخبرنا الفيزيائي أن الإلكترون قد اصطدم بالشاشة عند المركز. إذا افترضنا أن وعي الفيزيائي لم يتسبب في انهيار الدالة الموجية، فإنه سيندمج في سلسلة فون نيومان كجزء آخر من أجزاء النظام المقيس (الذي تعدى الآن كونه الإلكترون فحسب وأصبح كل شيء يحدث داخل الصندوق). ولكن هذا النظام لم يتم قياسه إلا وقت فتح الباب والتساؤل عن المكان الذي اصطدم فيه الإلكترون بالشاشة. ولكن هذا يعني أن نفترض أن الفيزيائي كان في حالة تطابق طوال الأسبوع، في حالة «حركة معلقة» بحيث يعتقد أن الإلكترون قد اصطدم في المركز، وفي الوقت نفسه أنه لم يصطدم. ولا تنهار الدالة الاحتمالية إلا بتدخلنا، وتصبح إحدى الحالتين هي الحالة الحقيقية. هذه نتيجة منافية للحدس تماما؛ لأننا يجب أن نفترض أن الفيزيائي لم يوجد مثل باقي الناس خلال الأسبوع الماضي، وأنه بلا شك لم يتمكن من الاعتقاد مثلما يفعل الناس. ومن الصعوبة بمكان أن نتخيل ما سيحدث في مثل هذه الحالة؛ لأنه من الظاهر أننا ليس لدينا فكرة عما يكون عليه الحال إذا وجدنا في حالتين اعتقاديتين متناقضتين في الوقت نفسه.
ولكن الأمور تزداد سوءا. إذا لم يكن الفيزيائي قادرا على التسبب في انهيار الدالة الموجية، فكيف لنا، نحن البشر الذين نشبهه في كل شيء، أن نحقق ذلك؟ ألا يعني فتح باب المختبر أننا الآن جزء من أداة القياس أيضا؟ هل يمكننا أن نكون في حالتين في الوقت نفسه ولا نعرف، تماما مثل الفيزيائي وهو في حاويته؟ أو إذا كنا في حالة محددة، فمن المسئول عن هذه الملاحظة؟
من المفترض أن تدعم الملامح المتناقضة ظاهريا لهذا السيناريو (الذي يوصف عادة ب «حالة صديق ويجنر») فكرة انهيار الدالة الموجية بمجرد أن يدخل الوعي الأول موقف القياس. ومع ذلك، إذا قررنا كسر السلسلة في هذه النقطة، فبناء عليه لا يمكننا اعتبار المادة واقع وفقا لتعريف نهاية العالم. ومن المعقول أن نفترض أن التأثيرات الواردة أعلاه لا تنطبق فقط على الأجسام الشديدة الصغر (مثل الإلكترونات والفوتونات والكيانات المشابهة)، وإنما على كل الأجسام، كل ما هنالك أنه في حالة الأجسام الكبيرة، تكون النتائج شديدة الصغر بحيث لا يمكن ملاحظتها. ولكن إذا كان مطلوبا من الوعي أن يحول الموجات الاحتمالية الطيفية إلى أشياء تشبه من قريب أو بعيد الأجسام التي نقابلها في حياتنا اليومية، فإننا لن نتمكن من قول إن المادة هي كل ما هو موجود بغض النظر عن أي شيء، سواء أكانت عقول البشر موجودة أم لا (على الأقل إذا افترضنا أن العقول البشرية هي كل العقول الموجودة).
ولكن ربما كان هذا المنطق متسرعا بعض الشيء؛ فبادئ ذي بدء، ألا يمكننا أن نتجنب الاضطرار إلى التسليم بالعقول غير المادية عن طريق قول إنها ملمح من ملامح العملية «الفيزيائية» التي تقوم عليها العقول البشرية، والتي تكسر سلسلة فون نيومان؟ في الواقع، اقترح روجر بنروز، أستاذ الرياضيات بجامعة أكسفورد، طريقة يمكن من خلالها أن تنهار الدالة الموجية لجسم بنفسها دون التفاعل مع أداة قياس. الفكرة الأساسية هي أن الأنظمة التي يزيد حجمها عن كتلة حرجة معينة تنهار تحت وطأة وزنها (إذا جاز لنا قول ذلك) محولة أحد الاحتمالات المطابقة إلى واقع. يخمن بنروز أن هذا «الاختزال الموضوعي» يحدث في أجزاء معينة من الخلايا العصبية التي تشكل الدماغ (والتي يطلق عليها الأنيبيبات). إذا كانت تلك هي الحالة، فإننا لن نحتاج إلى مادة غامضة غير مادية لتحويل الموجة الاحتمالية إلى جسيم؛ فمن شأن عملية فيزيائية عادية داخل أدمغتنا أن تكون كافية.
شكل 2-4: رسم توضيحي لكون جون ويلر التشاركي؛ ملاحظة الراصد تنتج الكون الذي هو جزء منه.
عندئذ سيكون العقل الواعي هو النتيجة، وليس السبب، لهذه العمليات على المستوى الكمي. يزعم بنروز أن هذه العمليات تهب العقل قوة تفوق قوة الكمبيوتر العادي، وهذا يستتبع أنه لن يكون من الممكن أبدا أن نبني آلة تعمل مثل أجهزة الكمبيوتر التي نعرفها وتستطيع تشغيل عقل كعقل الإنسان مثل برنامج. وبقدر ما قد نرى هذه الأفكار رائعة، فهي أيضا أفكار تستند إلى التخمين. فلا مفهوم «الاختزال الموضوعي»، ولا فكرة حدوث هذا في أنيبيبات حظيا بقبول واسع حتى الآن.
ثانيا: حتى إذا اتفقنا مع الفكرة السابقة التي ترى أن بعض الوعي غير المادي مطلوب لكسر السلسلة، فكل ما يتبع ذلك هو أن الخصائص الديناميكية للمادة (مثل الموقع والزخم واتجاه الدوران) كلها تعتمد على العقل. ولكن لا يتبع ذلك أن خصائصها الاستاتيكية (مثل الكتلة والشحنة وقوة الدوران) تعتمد على الشيء نفسه؛ فالخصائص الاستاتيكية موجودة سواء بحثنا عنها أم لم نبحث؛ ومن ثم فإننا نستطيع القول إنها واقعية وفقا لتعريف نهاية العالم للواقع.
مع ذلك، علينا أن نسأل أنفسنا إن كانت إعادة تعريف «المادة» بوصفها «مجموعة من الخصائص الاستاتيكية» تحافظ على ما يكفي من محتواها بحيث تسمح لنا أن نرى المادة واقعية. في عالم خال من العقول، ستظل هناك خصائص كالكتلة والشحنة، ولكن الأشياء لن تقع في موقع محدد ولن تنتقل في اتجاه محدد. مثل هذا العالم لا يشبه فعليا العالم كما يبدو لنا. يقول فيرنر هايزنبرج:
يستند وجود المادة إلى وهم أن نوع الوجود، والوجود «الفعلي» للعالم من حولنا، يمكن استنباطهما في النطاق الذري، إلا أن هذا الاستنباط مستحيل. [...] فالذرات ليست أشياء.
يبدو أن أفضل ما يمكننا الوصول إليه في هذه المرحلة هو الزعم بأن بعض الأشياء واقعية وفقا لتعريف نهاية العالم، رغم أنها لا تمت بصلة لفهمنا العادي للمادة.
فما مدى واقعية المادة إذا ما فهمنا «الواقع»، ليس وفق تعريف نهاية العالم، وإنما وفق تعريف السلحفاة الأخيرة، مفترضين أن الواقع هو أساس كل شيء آخر؟ للجواب عن هذا السؤال، علينا أن نلقي نظرة على فكرة علمية أساسية؛ وهي فكرة التفسير الاختزالي. ينبثق كثير من قوة النظريات العلمية من فكرة أننا نستطيع استخدام نظرية واحدة، تنطبق على مجموعة معينة من الكائنات، لتفسير حقائق تتعلق بمجموعة مختلفة تماما من الكائنات؛ ومن ثم فإننا لا نحتاج لمجموعة منفصلة من القوانين والمبادئ لتفسير المجموعة الثانية من الكائنات، ولكننا نستطيع افتراض أن سلوكها يمكن اختزاله في عبارات حول النوع الأول من الكائنات، التي يمكن تفسيرها بعد ذلك بنظرية تتناول هذه الكائنات. وثمة مثال طيب على ذلك يتمثل في الطريقة التي يمكن بها استخدام نظريات من الفيزياء والكيمياء تتعامل مع المادة غير الحية، لتفسير عمليات تقوم بها الكائنات الحية (الكائنات البيولوجية).
ليس ثمة حاجة لافتراض فيزياء خاصة أو كيمياء خاصة لتفسير أيض كائن حي، وطريقة توالده، وطريقة تمرير معلوماته الوراثية، وطريقة تقدمه في العمر وموته. يمكن تفسير سلوك الخلايا الحية التي يتشكل منها الكائن من منظور النواة والميتوكوندريا وغيرها من الكيانات دون الخلوية، التي يمكن تفسيرها بدورها من منظور الاستجابات الكيميائية بناء على سلوك الجزيئات والذرات التي تكونها؛ لهذا السبب، يمكن القول إن تفسيرات العمليات البيولوجية يمكن اختزالها إلى عمليات كيميائية فيزيائية في نهاية المطاف.
إذا سعينا خلف هدف إيجاد تفسير اختزالي للظواهر المحيطة بنا، فالخطوة الأولى هي اختزال العبارات حول الأجسام المتوسطة الحجم التي تحيط بنا - حول الطوب والأدمغة والنحل والفواتير والبكتيريا - إلى عبارات حول الكائنات المادية الأساسية، مثل الجزيئات. سنكتشف حينها أن كل ما يتعلق بهذه الكائنات يمكن تفسيره في ضوء مكوناتها الأساسية، تحديدا الذرات. وتنطوي الذرات، بالطبع، على أجزاء هي الأخرى، وقد قطعنا الآن شوطا في سبيل معرفة العالم الرائع للجسيمات دون الذرية الأصغر فالأصغر. ولم نصل حتى الآن للكائنات الأكثر جوهرية؛ بل لا يوجد اتفاق على وجود مثل هذه الكائنات. إلا أن هذا ليس سببا وجيها لإيقاف تفسيراتنا هنا؛ لأننا نستطيع دوما فهم الكائنات الفيزيائية الأكثر جوهرية في ظل الأجزاء التي تشغلها هذه الكائنات من المكان والزمان؛ لذا بدلا من جعل تفسيرنا يتحدث عن جسيم معين يوجد في مكان ما لمدة ما، يمكننا ببساطة اختزال هذا إلى حديث عن منطقة مكانية معينة بإحداثيات محددة يتم شغلها بين زمنين مختلفين.
إلا إننا نستطيع أن ندخل في تفاصيل أكثر جوهرية، فإذا أخذنا نقطة عشوائية معينة في المكان، ووحدة ثابتة من المسافة المكانية، يمكننا تحديد أي نقطة أخرى في المكان بثلاثة إحداثيات. وهذه الإحداثيات تخبرنا بالتوجه لعدد معين من الوحدات لأعلى أو لأسفل، وعدد من الوحدات لليسار أو اليمين، وعدد من الوحدات للأمام أو للخلف. ويمكننا أن نفعل الشيء نفسه في النقاط الزمنية ، محددين كل نقطة زمنية بعدد الوحدات الزمنية قبل أو بعد نقطة زمنية معينة. لدينا الآن طريقة للتعبير عن النقاط المكانية-الزمانية (الزمكانية) كمجموعات من أربعة أرقام موجبة أو سالبة هي:
x
و
y
و
z
و
t ؛ حيث
x
و
y
و
z
تمثل الأبعاد المكانية الثلاثة، و
t
يمثل البعد الزمني، وقد عثر الرياضيون على طريقة لاختزال الأرقام إلى شيء أكثر جوهرية؛ المجموعات. وللقيام بذلك، يستعيضون عن الرقم صفر بالمجموعة الخالية (مجموعة خالية من العناصر)، وعن الرقم 1 بالمجموعة التي تحتوي على المجموعة الخالية فقط، ورقم 2 بالمجموعة التي تحتوي على المجموعة التي تحتوي على المجموعة الخالية، وهكذا. وعندئذ نستطيع أن نبين أن كل خصائص الأرقام تنطبق على هذه الأرقام البديلة المصنوعة من مجموعات.
يبدو الأمر كأننا قد اختزلنا العالم المادي المحيط بنا كله في مصفوفة معقدة من المجموعات؛ لهذا السبب، من الأهمية بمكان أن نعرف الماهية الواقعية لهذه الكائنات الرياضية التي يطلق عليها «المجموعات». هناك رؤيتان للكائنات الرياضية المهمة في هذا السياق؛ أولا: هناك الرؤية التي تعتبرها كائنات أفلاطونية؛ وهذا يعني أن الكائنات الرياضية ليست كغيرها من الكائنات الأخرى التي نقابلها؛ فهي ليست مصنوعة من المادة، ولا توجد في المكان أو الزمان، ولا تتغير، ولا يمكن إنشاؤها أو تدميرها، ولا يمكن إلا أن تكون موجودة. ووفقا للفهم الأفلاطوني، توجد الكائنات الرياضية في «عالم ثالث»؛ عالم منفصل عن عالم المادة، من ناحية، ومنفصل عن عالم الكيانات العقلية، كالمدركات والأفكار والمشاعر، من ناحية أخرى.
ثانيا: لدينا رؤية للكائنات الرياضية ككائنات عقلية بطبيعتها في الأساس، فهي من النوع نفسه للأشياء الأخرى التي تمر عبر عقولنا؛ الأفكار والخطط والمفاهيم والآراء. إلا أنها ليست ذاتية بالكامل؛ إذ إنها موجودة في عقول الأشخاص الآخرين تماما كما هي موجودة في عقولنا؛ ولذا إذا ما تحدثنا عن نظرية فيثاغورس، فنحن جميعا نتحدث عن الشيء نفسه. ولكن الكائنات الرياضية ليس لها وجود خارج العقول التي تنشأ فيها.
ونخلص في كلتا الرؤيتين إلى نتيجة طريفة، فإذا كان العالم يتكون في الأساس من مجموعات، وإذا كانت المجموعات ليست مادية ، وإنما كيانات أفلاطونية غريبة، فإن الكائنات المادية قد اختفت تماما من المشهد ولا يمكن أن تكون واقعية وفقا لتعريف السلحفاة. وإذا ما تتبعنا الاختزال العلمي إلى النهاية، فسوف ينتهي بنا الأمر بأشياء لا تشبه الحصوات الصغيرة أو كرات البلياردو بالتأكيد، ولا حتى تشبه الأوتار المهتزة في المكان المتعدد الأبعاد، وإنما تشبه ما تتعامل معه الرياضيات البحتة.
هذه الفكرة مشروحة بتفصيل معقول في النظرية التي تقضي بأن العالم المادي نفسه هو نتاج أحد أجهزة الكمبيوتر العملاقة. وتستند بعض الآراء في هذا الصدد إلى فكرة أنه على الرغم من أن سلوك الجسيمات على المستوى الكمي من الصعب جدا فهمه في ظل الأجسام المتوسطة الحجم مثل البلي وكرات البلياردو، فإن فهمها بوصفها نتاج برنامج ما أسهل بكثير من نواح عديدة.
والكائنات المتعددة التي تدرسها ميكانيكا الكم لا يمكن تمييز بعضها عن بعض؛ فكل إلكترون يشبه تماما كل الإلكترونات الأخرى سواء كان أحد إلكتروني ذرة الهيليوم، أو واحدا من تسعة وسبعين إلكترونا في ذرة الذهب. ومثل هذا التشابه لا يحدث عادة في عالمنا اليومي. وقد تحدى لايبنيتس جمهوره في حدائق الأميرة صوفي تشارلوت أن يجدوا أي ورقتي شجر متشابهتين تمام التشابه، ولم يستطع أحد من الجمهور الفوز في هذا التحدي. ومع ذلك، إذا كتبت اسم «لايبنيتس» على الكمبيوتر الخاص بك، فستجد حرفي «ياء» متشابهين تمام التشابه سواء وقعا بين الألف والباء أو بين النون والتاء. يرجع هذا إلى أن كل حروف «الياء» يتم إنتاجها بواسطة الإجراء نفسه في برنامج الكمبيوتر؛ ومن ثم يمكن للمرء أن يقول إن الإلكترونات وما يشابهها من أشياء يمكن صنعها بالطريقة نفسها بالكمبيوتر، الذي تقوم عملياته الحسابية بإنتاج العالم.
ثمة حقيقة أخرى مربكة؛ وهي أنه على الرغم من أن شكلية ميكانيكا الكم تربط دالة موجية بكل كائن، فإن هذه الموجات مختلفة عن الموجات العادية؛ إذ إنها لا تسري في وسط معين. يمكن فهم الموجات التي تسري في الماء أو الهواء في ظل الإزاحة المؤقتة لأجزاء وسطها (أي جزيئات الماء والهواء ). لكن بالنسبة للموجات من منظور ميكانيكا الكم، هذا التفسير غير ممكن؛ نظرا لعدم وجود كائنات جوهرية أساسية لإظهار السلوك الموجي. ولكننا إذا فهمنا الموجة كشيء مشفر في ذاكرة الكمبيوتر، أو بعبارة أخرى كسلسلة من أرقام الصفر والواحد، فليس هناك داع أن نفترض أنها لن تنتقل إلا بواسطة شيء يتموج.
على سبيل المثال، الموجات الصوتية التي ينتجها الكمبيوتر لا تتطلب وسطا موجيا؛ لأنها لا توجد إلا في ذاكرة الكمبيوتر. ولكن هذا لا يمنعها من أن تؤدي وظيفتها تماما كما تؤدي أي موجات صوتية أخرى نعرفها وظيفتها.
إن وجهة النظر القائلة بأن العالم المادي هو نتاج عملية حسابية عملاقة تعيدنا مرة أخرى لفكرة الكون باعتباره محاكاة حاسوبية، هذه المرة ليس عن طريق المحاكاة التاريخية، ولكن كمحاولة لفهم سلوك العالم في مناطق صغيرة جدا وخلال فترات زمنية قصيرة جدا. والفكرة الأساسية هي أننا على الرغم من أننا لا نستطيع مطلقا رؤية طريقة برمجة الكمبيوتر (لأن الكود، كقطعة من المعلومات المجردة، ليس شيئا ماديا)، فإننا ما زلنا نستطيع استنتاج طريقة برمجته، بالفحص الدقيق لتفاصيل البرنامج الذي يشغله. وعالم الكائنات المادية الذي نراه حولنا، بالإضافة إلى المكان والزمان الذي يبدو أن هذه الكائنات موجودة فيهما، كل هذا ما هو إلا نتاج هذا البرنامج؛ فهذه الأشياء غير موجودة على مستوى الكود الحاسوبي، تماما كما أنه لا يوجد شيء على شكل سهم في مكان ما في مركز الكمبيوتر يستجيب لمؤشر فأرتك.
على الرغم من أن برنامج الكمبيوتر يمكن أن يتجلى لنا في عدة تمثيلات مادية، مثل نص يظهر على الشاشة أو في مطبوعة أو يخزن في القرص الصلب للكمبيوتر، فإنه ليس في حد ذاته شيئا ماديا، وإنما كائن مجرد، شيء موجود بالضرورة، وهو غير مصنوع ولا يمكن تغييره ويقع خارج المكان والزمان. إذا كان عالم المادة الذي ندركه هو نتيجة تشغيل مثل هذا البرنامج، إذن فالكائنات المادية لا تشكل جزءا من الطبيعة الأساسية للواقع وفقا لتعريف السلحفاة. وإذا ما توغلنا في التفاصيل، فسندرك أن العالم المادي لا يتكون من أشياء مادية دقيقة، وإنما من نوع خاص من الكائنات الرياضية.
بطبيعة الحال، الرؤية الأفلاطونية للكائنات الرياضية من الصعب ألا تثير الجدل، والكثيرون يجدون من الصعب الوصول إلى فكرة واضحة إزاء كيفية وجود الكائنات خارج الزمان والمكان، وكيفية معرفتنا بها، وكيفية إنتاجها لأشياء لها بالفعل مواقع مكانية وزمانية (زمكانية). ولكننا إذا ما أخذنا الكائنات الرياضية بوصفها عقلية في طبيعتها، فسينتهي بنا الأمر بسيناريو ربما يكون أغرب من ذلك الذي يتخيله الأفلاطونيون؛ وذلك نظرا لأن مؤيدي الاختزال العلمي يقومون باختزال العقل البشري إلى نشاط الدماغ البشري، ثم يختزلون الدماغ إلى مجموعة من الخلايا المتشابكة، والخلايا إلى جزيئات، والجزيئات إلى ذرات، والذرات إلى جسيمات دون ذرية، والجسيمات دون الذرية إلى مجموعات من النقاط الزمكانية، ومجموعات النقاط الزمكانية إلى مجموعات الأرقام، ومجموعات الأرقام إلى مجموعات خالصة. ولكن في نهاية هذا الاختزال، يبدو أننا الآن نرجع مرة أخرى إلى نقطة البداية؛ الكيانات العقلية.
تنتج دائرة مماثلة عند أي محاولة لتوحيد علم النفس والأحياء والفيزياء إذا ما افترضنا أن الوعي يلعب دورا في اختزال الدالة الموجية؛ فلعمل ذلك، سنحاول اختزال العقل البشري إلى نشاط الجهاز العصبي المركزي، الذي يعد بنية بيولوجية. ويمكن تفسير البنى البيولوجية من منظور العمليات الكيميائية، المتمثلة في تفاعل الكربون والنيتروجين والأكسجين، وما إلى ذلك، والتي يمكن تحليلها إلى مكونات أصغر، إلى أن نصل إلى المستوى الذي تصبح فيه الظواهر الكمية ملائمة تجريبيا، ولكي نفسر هذه الظواهر، يبدو أننا يجب أن نستعين بظاهرة من أعلى السلسلة؛ ألا وهي العقل البشري.
في كلتا الحالتين، ما ظننا أننا يجب أن نعتبره الأكثر جوهرية اتضح أنه ينطوي في الأساس على ما كنا نعتبره الأقل جوهرية، وفي بحثنا عن الأساسيات، سرنا في دائرة؛ ابتداء من العقل، عبر مكونات عديدة من المادة، وانتهاء بالعقل مرة أخرى؛ ولكن هذا يعني أنه «لا شيء» جوهري تماما، كما أنه ليس هناك محطة أولى أو أخيرة على خط مترو أنفاق لندن الدائري. والدرس الذي نتعلمه من سيناريو الاختزال الموضح أعلاه هو أنه إما أن الأشياء الجوهرية ليست مادية، وإما أنه لا شيء جوهري على الإطلاق.
كما أننا نواجه دائرة أخرى مماثلة في طريقة فهم ميكانيكا الكم الأكثر تأثيرا، والمختلفة عما وضحنا أعلاه، والتي يطلق عليها «تفسير كوبنهاجن» (سميت بهذا الاسم تيمنا بالمدينة التي يقع فيها معهد مفسرها الأساسي نيلز بور). فعلى عكس تفسير ويجنر المستند إلى الوعي، هذا التفسير لا يفترض انهيار الدالة الموجية بسبب رصد العقل الواعي لنتيجة تجربة ما، وإنما يحدث عندما يتفاعل النظام المراد قياسه (الإلكترون في مثالنا) مع جهاز القياس (الشاشة الفسفورية)؛ لهذا السبب، ينبغي أن نفترض أن الشاشة الفسفورية ستتصرف بطريقة تقليدية، ولن يصدر عنها السلوك الكمي الخاص الذي صدر عن الإلكترون.
بالنسبة لتفسير كوبنهاجن، الأشياء والعمليات التي يمكن وصفها في ضوء المفاهيم التقليدية المألوفة هي أساس أي تفسير مادي. ومن هنا تأتي الدائرة المفرغة؛ فنحن نحلل العالم اليومي للأحذية والسفن وشمع الختم (الذي يتضمن الشاشات الفسفورية والكاميرات وأجهزة الكمبيوتر وأعيننا وكل الأشياء المادية متوسطة الحجم) في ضوء مكونات أصغر فأصغر؛ جزيئات وذرات وجسيمات دون ذرية، إلى أن نتعامل مع أجزاء شديدة الصغر بحيث يصبح من الممكن أن تصفها التأثيرات الكمية. ولكن عندما يصل الأمر إلى التعبير عما تعنيه حقا نظرياتنا عن التأثيرات الكمية، فإننا لا نؤسسها على بعض البنى الأكثر دقة على المستوى المجهري، وكما أشار بور نفسه: «ليس هناك عالم كمي، هناك فقط وصف فيزيائي كمي.» وما يعنيه هذا هو أنه بدلا من الانخراط في التفاصيل، فإننا نقفز مرة أخرى إلى مستوى نظريات الإدراك الحسي الملموسة، أو أجهزة القياس الماكروفيزيائية - مثل الشاشات الفسفورية والكاميرات - زاعمين أن نظريتنا تدور حول القراءات التي تصل إليها هذه الأجهزة. مرة أخرى، لسنا في موضع يسمح لنا بقول إن العالم الميكروفيزيائي للكائنات الكمية جوهري (نظرا لأن الحديث عنها ليس سوى جسر تصوري يتيح لنا الربط بين عبارات معينة تصف ما يحدث وبين أجهزة القياس العادية الحجم)، ولا بقول إن العالم الماكروفيزيائي لأجهزة القياس جوهري (نظرا لأن هذه الأجهزة ليست هي أنفسها سوى تكتلات كبيرة من الكائنات الكمية)؛ ومن ثم فإن لدينا دائرة من الأشياء التي يعتمد بعضها على بعض، رغم أنه - على عكس الحالة السابقة - لم تعد الكائنات العقلية جزءا من هذه الدائرة؛ نتيجة لذلك، لا يمكن اعتبار الشاشة الفسفورية المتوسطة الحجم ولا الإلكترون الدقيق واقعيين وفقا لتعريف السلحفاة؛ لأن كليهما لا يشكلان طبقة من الكائنات بحيث يعتمد عليهما كل شيء، رغم أنهما لا يعتمدان على شيء.
الفصل الثالث
هل الأشخاص واقع؟
في ربيع عام 1982، كانت سيدة أمريكية تقف في انتظار الحافلة في شارع «باريجيان أفينيو دي لا جراند أرمي». وشعرت وهي تركب الحافلة أن عقلها يكاد ينفجر:
شعرت أن ما كنت أطلق عليه في السابق «أنا» يجبر على الخروج من موقعه المعتاد داخلي إلى موقع جديد خلفي بمسافة قدم تقريبا إلى يسار رأسي. كنت «أنا» الآن خلف جسدي أنظر للعالم دون استعمال عيني جسدي.
هذه التجربة المربكة لنفسها المنقولة من مكانها أصبحت أكثر إرباكا عندما اختفت تماما بعد عدة أيام؛ ونتيجة لذلك:
اختفت الأنا الشخصية، ومع ذلك هناك جسم وعقل موجودان دون أي شخص يحتلهما. [...] لم يعد العقل والجسد والمشاعر تشير إلى أي شخص؛ لم يكن هناك من يفكر ولا من يشعر، ولا من يدرك، ومع ذلك استمر العقل والجسد والعواطف في أداء وظائفها دون تقصير؛ فمن الواضح أنها لم تكن في حاجة ل «أنا» لتستمر في فعل ما كانت تفعله دائما. [...] كانت أغرب اللحظات تحدث عند أي إشارة لاسمي، إذا اضطررت لكتابة شيك أو التوقيع على خطاب، كنت أحدق في الحروف على الورقة ويغرق العقل في خضم الحيرة؛ إذ لم يكن الاسم يشير إلى أي شخص.
وقضت الأربعة عشر عاما التالية من حياتها (قبل أن تموت بورم في المخ عن عمر يناهز الثانية والأربعين) دون أن تستعيد إحساسها بذاتها الشخصية.
وهذه الحالة ليست فريدة من نوعها؛ ففي عام 1880، وصف طبيب الأمراض العصبية الفرنسي جول كوتار اضطرابا عصبيا نفسيا - يعرف الآن باسم متلازمة كوتار - يؤدي بالمريض في أخف صوره إلى اعتقاد أنه ميت بالفعل أو لإنكار وجود جسده. وفي الحالات الأكثر خطورة، قد ينكر المريض وجوده تماما، وغالبا ما يتوقف تماما عن استخدام كلمة «أنا».
مثل هذه الحالات النفسية من الصعب جدا علينا أن نفهمها؛ إذ يندر أن نجد أشياء أقرب للفهم واليقين من وجودنا كأشخاص؛ فنحن قد نشكك في وجود العالم من حولنا، متسائلين: هل الشجرة الموجودة في الحديقة والبستاني الذي يجز العشب موجودان بالفعل؟ ولكن كيف نشكك في وجودنا نحن؟ أليس الشك دليلا على وجود من يشك؛ كيف لنا أن نشك إذن إن لم نكن موجودين؟ وإن لم نكن نحن من نشك، إذن من الذي يشك؟
الأشخاص واقع بالتأكيد وفقا لتعريف فيلم ماتريكس؛ فنحن بالتأكيد ندرك وجود الشخص أو، على الأحرى، النفس، بل إننا ندركها بإصرار أكبر من أي شيء آخر؛ فكوب الشاي الذي نستخدمه يوميا لمدة عشر دقائق على مدار خمس سنوات لن ندرك وجوده إلا حوالي 300 ساعة إجمالا، ولكننا ندرك وجود أنفسنا طوال ساعات حياة يقظتنا، بل إن إدراكنا لأنفسنا يستمر إلى أحلامنا. وعلى الرغم من أننا قد نكون مخطئين حيال معظم الأشياء التي نعتقدها عندما نحلم، فإننا لا يمكن أن نكون مخطئين في أننا نحن (وليس أشخاص آخرون) من نحلم بهذا الحلم.
لسنا فقط ندرك أنفسنا كأشخاص، ولكن معظم الأشخاص الآخرين (بعيدا عن بعض من يعانون من حالات نفسية خاصة مثل المرضى المذكورين أعلاه) يدركون أنفسهم بالطريقة عينها أيضا؛ ومن ثم فإن الأشخاص واقع وفقا لتعريف رواية «1984». علاوة على ذلك، يبدو أننا لا نستطيع أن نقرر الشخص الذي نريد أن نكونه؛ فعلى الرغم من أن لنا تأثيرا محدودا على تشكيل أنفسنا، يبدو في النهاية أن كثيرا من الجسد والجينات والمعتقدات والذكريات والميول النفسية، التي نعتبر أنها تشكلنا، ليس لنا قدرة على التحكم فيها. وبما أنه من الواضح أننا لا نملك القدرة على تشكيل أنفسنا، إذن فنحن واقع وفقا لتعريف جونسون أيضا.
رأينا سابقا أن التعريف الأكثر تماسكا لكلمة «الواقع» هو تعريف نهاية العالم وتعريف السلحفاة. من الواضح أن الأشخاص لا يمكن أن يكونوا من الواقع وفقا لتعريف نهاية العالم؛ نظرا لأنهم لن يكونوا جزءا من العالم من دوننا؛ فمن الصعب أن نفهم عالما يوجد فيه الأشخاص أو الأنفس، حتى وإن لم نكن نحن موجودين، ولكن من الأكثر معقولية ومنطقية أن نعتبر الأشخاص واقع وفقا لتعريف السلحفاة؛ إذ يبدو أن الأشخاص يشكلون جزءا لا يمكن اختزاله من العالم كما نعرفه. على المستوى الأساسي، ليست هناك أجزاء من المادة وحسب، ولكن أيضا نظم توفر رؤية لأجزاء المادة؛ أي نظم لها وجهة نظر. وحتى الآن لم ننجح في اختزالها لشيء أكثر جوهرية، وبما أنها غير قابلة للاختزال على هذا النحو، إذن فهي يقينا تشكل قطعة من أثاث العالم على المستوى الجوهري؛ ومن ثم فإن الأشخاص قد يكونون واقع بأحد أهم معاني الكلمة.
على أي حال، تزداد الأمور تعقيدا وإثارة للحيرة بمجرد أن نحاول فهم معنى أن تكون شخصا وتملك نفسا؛ إذ يبدو أن هناك أربعة عوامل أساسية في هذا السياق؛ أولا: تقع النفس داخل الجسد، ومع ذلك فهي مستقلة عنه، فهي تملك الجسد الذي يدعم وجودها. ثانيا: نحن نعتبر أنفسنا ثابتين ومستمرين، هذا لا يعني أننا نظل للأبد كما نحن، ولا نغير رغباتنا أو ميولنا أو نظرتنا الأساسية للعالم. ومع ذلك ففي خضم كل هذا التغيير، يظل هناك شيء ثابت فينا يجعلنا الآن مثل ما كنا عليه من خمس سنوات مضت، ومثل ما سنكون عليه بعد خمس سنوات مستقبلة. ثالثا: النفس هي الكيان الموحد الذي يجمع كل شيء معا. يتجلى العالم أمامنا كمجموعة متنوعة متنافرة من المشاهد والأصوات والروائح والصور الذهنية وغيرها، ويتم تجميع كل هذه الأشياء داخل النفس لتنبثق منها صورة لعالم واحد موحد. وأخيرا: النفس هي «الفاعل»؛ بمعنى أنها المنتجة للأفكار والقائمة بالأفعال. إنها المكان الذي تستخدم فيه صورة العالم الكلية المتماسكة الموحدة من أجل التعامل مع هذا العالم نفسه.
كل هذه الملاحظات تبدو للوهلة الأولى يقينية وواضحة وضوح الشمس؛ فكل ما علينا هو أن ننظر لأنفسنا لنرى أننا لسنا جسدا وإنما شيء له جسد، وأننا نظل كما نحن عبر الزمن، وأننا وحدة التحكم المركزية التي تدخل إليها بيانات العالم وتصدر منها القرارات. ولكننا كلما نظرنا لهذه العوامل الأربعة بالتفصيل، تصبح أقل وأقل وضوحا.
كما أن أنفسنا تختلف عن أجسادنا طوال الوقت؛ فخلايا الجسم تستبدل بواسطة عملية التغيير الأيضي الطبيعية، وعلى الرغم من أن عملية الاستبدال تتم بسرعات متباينة بناء على نوع الخلية المعنية، فإنه بعد مدة زمنية كبيرة بما يكفي ستكون كل خلايا الجسم قد استبدلت. مع ذلك، فنحن ما زلنا نعتقد أننا نملك النفس عينها طوال حياتنا. ولكن إذا كانت النفس مستقلة عن الجسد، فأين محلها في الجسد؟ تصف الثقافات المختلفة محل النفس في أماكن مختلفة: فالمصريون وأرسطو فضلوا القلب؛ بينما قرر هوميروس أن محل الروح، أو مصدر العواطف، في الرئتين؛ واعتقد الصينيون القدماء أن ثمة مكانا أساسيا في البطن يطلق عليه الدانتيان (أو حقل الإكسير)؛ أما أفلاطون وجالينوس وغيرهم الكثيرون فقد اعتقدوا أن الرأس، أو على الأحرى الدماغ، هي محل النفس. وبالطبع، يستحيل أن يكون كل هؤلاء مصيبين، إلا إذا افترضنا أن النفس منتشرة عبر الجسد كله، وأنها موجودة في كل هذه الأماكن في الوقت نفسه. قد نفاجأ بأن هذه الرؤية هي الأكثر منطقية وعقلانية، إذا ما وضعنا في اعتبارنا أنني عندما أحرق أصابعي، فإنني أشعر بالألم في نفسي وفي الوقت نفسه أشعر بالألم في يدي. إلا أن هذه الرؤية تفترض ضمنا أنني حين أفقد يدا أو ذراعا، فإن نفسي (وليس فقط جسدي) تفقد جزءا منها وأنها الآن أصغر حجما من ذي قبل، وهذه بالتأكيد نتيجة غريبة بعض الشيء.
شكل 3-1: مشهد من فيلم «أين أنا؟» ويظهر في الصورة دانيال دينيت (على اليمين) ودماغ دينيت.
في الوقت الحالي، يرتاح أغلب الناس لتحديد موضع النفس في محل ما داخل الرأس، خلف العينين مباشرة، يطل على العالم. وقد ناقش الفيلسوف دانيال دينيت بعض النتائج الغريبة لهذه الرؤية في قصة قصيرة بعنوان «أين أنا ؟» في هذه القصة، استؤصل دماغ دينيت ووضع على نظام لحفظ الحياة، واستبدل بكل وصلة عصبية زوج من أجهزة الإرسال والاستقبال المصغرة؛ أحدها متصل بالدماغ، والآخر بطرف العصب في جمجمة دينيت الفارغة. بهذه الطريقة، أصبحت الوصلة بين جسد دينيت ودماغه مرنة للغاية؛ فبدلا من امتلاك مساحة محدودة للاهتزاز في القحف، مقيدا بمرونة الأعصاب، يمكن أن يصبح الدماغ الآن على مسافة معقولة من الجسد، مع الاحتفاظ بكل وظائفه وقدرته على الاتصال. تبدأ المشاكل عندما يذهب دينيت فارغ الرأس لرؤية دماغه؛ لأنه ليس مقتنعا أنه هو نفسه موجودا في مكان ما داخل الدماغ. فهو ما زال يعتقد أنه ينظر إلى دماغه الموضوع في برطمان، رغم أن ما يحدث في الحقيقة هو أن دينيت موجود في البرطمان، بينما ينظر إليه جسده.
مقتطفات من قصة دينيت «أين أنا؟»
قلت: «أعتقد أن العملية قد نجحت، أريد الذهاب لرؤية دماغي.» أرشدوني عبر ممر طويل (إذ كنت أشعر بالدوخة والدوار إلى حد ما) إلى داخل مختبر حفظ الحياة. تعالت أصوات التهليل من أعضاء فريق حفظ الحياة المجتمعين، ورددت عليهم بتحية رجوت أن تكون مرحة. استعنت بأحدهم كي يوصلني لوعاء حفظ الحياة، فقد كنت لا أزال أشعر بالدوار. حملقت عبر الزجاج. كان ثمة شيء طاف في محلول يشبه جعة الزنجبيل، إنه بلا شك دماغ بشري، رغم أنه كان مغطى بالكامل تقريبا بشرائح دوائر مطبوعة وأنابيب بلاستيكية، وأقطاب كهربية وغيرها من المعدات. سألت: «أهذا دماغي؟» فرد علي مدير المشروع قائلا: «اضغط مفتاح إرسال المخرجات بجانب الوعاء لترى بنفسك.» نقلت المفتاح إلى وضع «إغلاق»، فسقطت على الفور مترنحا بين أذرع الفنيين، الذين قام أحدهم بإعادة المفتاح إلى وضع التشغيل. وأثناء استعادتي لتوازني وانتصاب قامتي، قلت في نفسي: «حسنا، ها أنا ذا جالس على مقعد قابل للطي، محدقا عبر وعاء زجاجي لدماغي ... لكن تمهل، ألم يكن من الضروري أن أفكر «ها أنا ذا، محبوس في سائل غازي، بينما تحدق في عيناي»؟» حاولت أن أفكر في هذه الفكرة الأخيرة. حاولت أن أنقلها إلى الوعاء، آملا أن يتلقاها دماغي، ولكنني فشلت في أن أحقق هذا. حاولت ثانية؛ «ها أنا ذا، دانيال دينيت، محبوس في سائل غازي، بينما تحدق في عيناي.» ولكن هيهات، لم تنجح المحاولة، إنه شيء محير ومربك إلى أقصى حد. فكوني فيلسوفا مؤمنا بالمادية إيمانا راسخا، كنت أعتقد دائما أن تمثيل أفكاري يتم في مكان ما في الدماغ؛ إلا أنني، عندما أفكر: «ها أنا ذا»، راودتني الفكرة هنا، خارج الوعاء، حيث أقف أنا، دينيت، محدقا في دماغي.
ولكننا لسنا في حاجة لاستخدام سيناريوهات الخيال العلمي على غرار هذا السيناريو كي ندرك أن ثمة ما يقلق حيال اعتقادنا الطبيعي بأن أنفسنا قابعة في أجسادنا. يبدو أننا نسكن أجسادنا، ونمتلكها بشكل من الأشكال. ولكننا نمتلكها على نحو أكثر جوهرية من امتلاكنا للمنزل الذي نعيش فيه؛ فنحن نستطيع العيش دون منزل، أما استطاعتنا العيش دون أجسادنا، فهو على الأقل أمر مشكوك فيه؛ إذ إن الجسد يدعم ويحفظ العقل الذي يعتبر نفسه ساكنا فيه؛ وعلى هذا، يبدو أن النفس هي ذلك الشيء الذي يسكن الجسد الذي يدعم وظائف العقل.
إلا أن شعور الملكية الذي نشعر به تجاه أجسادنا يمكن أن يتولد تجاه أشياء ليس لها علاقة بأجسادنا، أشياء غير حية، وربما حتى أشياء غير موجودة على الإطلاق.
حالة وهم اليد المطاطية مثال بسيط بشكل خاص على ذلك؛ حيث ينظر المريض لشيء غير حي، قطعة من المطاط، كجزء من جسده، ويبدأ في الشعور بهذا الجزء، رغم عدم حدوث أي عمليات بيولوجية في هذه اليد الصناعية. ويمكننا إحداث تأثيرات أشد غرابة باستخدام تكنولوجيا أكثر تقدما. في تجربة طريفة من نوعها، يرتدي المشارك (أ) شاشة مثبتة بالرأس، مكونة من نظارات خاصة تعرض صورة منفصلة في كل عين؛ ومن ثم تعطي المشارك انطباعا بأنه موجود في بيئة ثلاثية الأبعاد. تؤخذ البيانات البصرية المعروضة أمام عيني المشارك من كاميرا مثبتة خلف ظهره. وبالنظر عبر النظارة المثبتة بالرأس، ينتاب المشارك شعور غريب بأنه ينظر إلى ظهره، واقفا على بعد مسافة أمامه (ب ) - تماما كما في لوحة ماجريت الشهيرة.
وهم اليد المطاطية
لعمل تجربة وهم اليد المطاطية بالمنزل، سوف تحتاج ليد مطاطية، وقطعة من الورق المقوى، وفرشاتي رسم، إذا وجدت من الصعب الحصول على يد مطاطية (ثمة نوع رخيص مصنوع خصيصى لتمرين مقلمات الأظافر) يمكنك الاستعانة بقفاز مطاطي منفوخ. ضع اليد على مائدة أمامك و(بافتراض أنك تستخدم يدا مطاطية يسرى) ضع يدك اليسرى على يسارها. ضع قطعة الورق المقوى بحيث تصنع حاجزا، فلا ترى سوى اليد المطاطية دون رؤية يدك الحقيقية اليسرى. والآن استعن بمساعد كي تربتا على اليد الحقيقية واليد المطاطية بالفرشاتين في الوقت نفسه وفي الموضع نفسه. بعد حوالي دقيقتين، من المرجح أن تشعر بالإحساس الغريب؛ أن ثمة ضربات على اليد المطاطية، بل إنك قد تشعر بوجود «ذراع افتراضية»، أو على الأحرى شيء يوصل بين اليد المطاطية وجسمك.
شكل 3-2: وهم الجسم الافتراضي.
فإذا جعلنا شخصا يربت على ظهره الآن، بمعنى إذا شعر المشارك بأن هناك من يربت على ظهره وفي الوقت نفسه رأى أن هناك من يربت على ظهر الشخصية الاعتبارية الماثلة أمامه، فسوف يخبرنا أنه يشعر بأن الشخصية الاعتبارية الماثلة أمامه هي جسده هو شخصيا؛ وسوف يتوحد معها ويحاول «القفز بداخلها».
يحدث الوهم نفسه إذا وجهنا الكاميرا نحو التمثال (ج) بدلا من جسمك. يبدو أن لدينا هنا جسدا كاملا مكافئا لوهم اليد المطاطية وحالة صادمة للغاية لتعيين موقع النفس خارج أجسادنا. ومن الغرابة بمكان أننا لا نعين موقع أنفسنا في مركز منظورك البصري (أي في مكان الكاميرا) وإنما في مكان صورة الجسد المدركة الماثلة أمامنا.
في حين أنه من الغريب أن نشعر بأحاسيس في يد مطاطية لا تحتوي على أي أعصاب، فمن الأغرب أن نشعر بها في يد غير موجودة أساسا؛ وهذا يحدث لمبتوري اليد الذين يعانون من مرض الطرف الشبحي؛ فهم لا يشعرون بوجود الطرف المبتور فحسب، بل إنهم في الغالب ينتابهم إحساس أن هذا الطرف غير الموجود أساسا ملوي في وضع مؤلم ولا يمكن تحريكه على الإطلاق ؛ مما يسبب ألما شديدا للمريض. وجود الأطراف الشبحية يسبب إشكالية أمام الرأي القائل بأن النفس موزعة في الجسد كله، وتقع في كل مكان تستطيع الشعور به؛ لأن الأمر يبدو الآن وكأن النفس تتسرب على نحو ما من أجسادنا وتشعر بأشياء في مواضع لا تشغلها أجسادنا.
إذا كنا نشعر بأجساد مصنوعة من مواد غير حية، أو نشعر بأحاسيس في أجزاء من الجسد لم تعد موجودة، فمن الواضح إذن أن وجهة النظر القائلة بأن النفس تقع في مكان ما داخل الجسد بعيدة كل البعد عن أن تكون وجهة نظر مؤكدة. وليس ثمة ضرورة منطقية ولا نفسية (وإذا أمكن في وقت من الأوقات تحقيق السيناريو المطروح في قصة دينيت، فليس ثمة ضرورة عملية) تجبرنا على أن نحدد موضع أنفسنا في المكان نفسه لأجسادنا التي تدعم وجود حياتنا العقلية. بل في الحقيقة، يبدو أننا نخلق نموذجا معرفيا، أو محاكاة، لجسد نضع فيه أنفسنا. وهذا النموذج يمكن أن يتضمن أجزاء مصنوعة من مواد غير حية، مثل اليد المطاطية، وكذلك ظاهرة غير الموجود، مثل الأطراف التي لم تعد جزءا من الجسد. إن موقع النفس ليس شيئا نجده في العالم من حولنا، بل هو شيء نصنعه بأنفسنا إلى حد بعيد.
إن السؤال: «أين أنا؟» يسبب العديد من المشاكل المحيرة، وللأسف ليس السؤال «متى أنا؟» بأفضل منه حالا؛ فالإجابة المباشرة الواضحة عليه هي أن نقول إننا نوجد على نحو مستمر من لحظاتنا الواعية الأولى في أرحام أمهاتنا إلى وفاتنا (وربما بعد ذلك، إذا كنت مؤمنا بالحياة الآخرة). ومع ذلك، ففي أثناء الثمانين عاما أو نحوها التي توجد خلالها نفوسنا المستمرة، تمر أنفسنا ببعض التغييرات الجوهرية؛ تغييرات جسدية، وأيضا تغييرات في المعتقدات والإمكانيات والرغبات والأمزجة. النفس السعيدة اليوم لا يمكن أن تكون هي نفسها النفس التعيسة للأمس؛ نظرا لاستحالة أن تكون سعيدة وتعيسة في الوقت نفسه. ولكننا بالتأكيد نملك النفس عينها اليوم وأمس.
يمكننا حل هذه المشكلة بافتراض أن النفس شيء أكثر جوهرية، شيء مستمر وثابت له كل هذه الخصائص المتغيرة، ولكنه يبقى على حاله دائما. وكالخيط الذي يمر عبر كل حبة لؤلؤ في عقد من اللؤلؤ، تمر النفس عبر كل لحظة من حياتنا، لتجعلها متماسكة وجوهرية. والعقبة الوحيدة التي تواجه هذه الرؤية للنفس هي أنها لا تستطيع امتلاك معظم الخصائص التي نظن عادة أنها تجعلنا ما نحن عليه؛ فكونك سعيدا أو تعيسا، وكونك تتحدث الصينية، أو تفضل الكرز على الفراولة، بل حتى كونك واعيا، كل هذه الحالات قابلة للتغير ولا يؤثر غياب إحداها على النفس، تماما كما لا يؤثر غياب حبة لؤلؤ مفردة على العقد، ولكن ذلك يجعلنا غير مستوعبين للسبب الذي يجعلنا نولي هذه المكانة الرئيسية لمثل هذه النفس الصغرى في حياتنا. فإذا كان كل شيء يحدث في حياتنا العقلية لا يؤثر إطلاقا على النفس، فما فائدة هذه النفس؟
لنعرض الفكرة بطريقة مختلفة؛ افترض أن أحدهم عرض عليك عقارا يدمر النفس تماما ولكنه لا يؤثر إطلاقا على معتقداتك ورغباتك وتفضيلاتك وما إلى ذلك، فهل ثمة مشكلة في أن تتعاطى هذا العقار؟ سيكون هذا العقار أفضل حتما من عقار يدمر كل معتقداتك ورغباتك وتفضيلاتك، إلخ ... دون أن يمس نفسك إطلاقا. ولكن هذا قد يثير شبهة أن النفس عند فهمها بهذه الطريقة ليست هي الشيء الذي نهتم بشأنه، وإنما ما نهتم بشأنه حقا هو محتوى حياتنا العقلية. علاوة على ذلك، إذا افترضنا أنك لا تستطيع أن تميز من داخلك الفرق بين إن كنت قد أخذت العقار أم لم تأخذه، فهل يمكن أن تكون قد تعاطيت العقار دون أن تعرف؛ ومن ثم لم تعد لديك نفس الآن؟ هل يجب أن تقلق بهذا الشأن؟ إن افتقارك لأي خبرة سابقة بسبب كونك مخلوقا مجردا من النفس بفعل تعاطي عقار ما لا يمكن أن يحدث ما لم تكن ثمة خبرة محددة «عن النفس»، منفصلة تماما عما يحدث في عقولنا، وهذه الخبرة مستمرة دون تغيير أثناء حياتنا اليقظة وحتى نومنا وفي الغيبوبة العميقة. ولكن مثل هذه الخبرة غير موجودة، وقد أوضح الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم هذه الفكرة على نحو جلي حين قال:
من جانبي، حين أدخل في عمق ما أسميه نفسي، دائما ما أتعثر في إدراك حسي ما، من حر أو برد، نور أو ظل، حب أو كره، ألم أو متعة. ولم أتمكن قط من أن أجد نفسي في أي لحظة دون إدراك حسي، ولم أتمكن قط من ملاحظة أي شيء سوى المدركات الحسية.
مع ذلك، ربما كان الحديث عن النفس لا ينطوي ضمنا على وجوب وجود شيء ثابت يمر عبر الحياة كلها مثلما يمر الخيط عبر عقد اللؤلؤ؛ فالحبل متماسك رغم عدم وجود خيط واحد طويل يمر عبر الحبل كله، بل إن كل ما هنالك مجموعة متتابعة من الخيوط المتداخلة الأقصر. بالمثل، ربما تكون النفس عبارة عن سلسلة متصلة من الأحداث العقلية المتداخلة. ورغم أن هذه الرؤية قد تكون معقولة بشكل أو بآخر، فهي تعني أيضا أننا لا نكون موجودين بالكامل مطلقا. نحن عادة ما نفترض أننا عندما نفكر في شيء أو نتخذ قرارا، فإننا نفعل ذلك بالنفس كلها وليس بجزء معين منها. إلا أن النفس، وفقا لفكرة الحبل، لا تكون حاضرة بالكامل مطلقا في أي لحظة من لحظات حياتنا، تماما مثلما لا يكون الحبل المفرود على مسطرة موجودا بالكامل عند أي علامة من العلامات المرسومة على المسطرة. وفي حين أن هذا صحيح في نموذج عقد اللؤلؤ (نظرا لأن الخيط لا يكون موجودا بالكامل في أي حبة لؤلؤ)، فعلى الأقل حين تجمع كل أحداث حياتك معا فإن هناك جزءا من هذا الكل يشكل نفسك. ولكن في حالة نموذج الحبل، ليس هذا مطروحا.
يبدو أننا لا نملك إلا الاختيار البغيض بين نفس مستمرة بعيدة كل البعد عما يشكلنا بحيث نلحظ غيابها بالكاد حين تختفي، ونفس تتكون فعلا من مكونات حياتنا العقلية، ولكنها لا تشتمل على جزء ثابت يمكننا أن نتوحد معه.
هناك سمة من سمات النفس أهم بكثير من السمتين اللتين تحدثنا عنهما حتى الآن؛ وهي حقيقة أن النفس هي مركز عالمنا . وهنا بالتحديد تتجمع كل الخيوط. من السهل التغاضي عن أهمية هذه الحقيقة، ولكننا إذا ما فكرنا في المهمة التي يضطلع الدماغ بتحقيقها لتجميع صورة العالم الموحد، سيتضح لنا أنها مهمة شديدة الصعوبة والتعقيد؛ فالمعلومات المختلفة التي تتوارد إلينا من حواس البصر والسمع واللمس والشم والتذوق تتم معالجتها في مناطق مختلفة من الدماغ وتنتقل لمسافات مختلفة (فدغدغة القدم تنتقل لمسافة أطول من دغدغة الصدر للوصول إلى الدماغ) وتصل إلى الدماغ في أوقات مختلفة. وتتنوع سرعة معالجة الأنواع المختلفة من المعلومات الحسية؛ فالمحفزات البصرية تستغرق وقتا أطول في المعالجة من غيرها. (يبلغ الفرق حوالي 40 ملي ثانية. على سبيل المقارنة: قول مقطع واحد يستغرق حوالي 200 ملي ثانية.) من ناحية أخرى، ينتقل الضوء بسرعة أكبر بكثير من الصوت، فإذا ما جمعنا هذه السرعات المختلفة معا نجد أن المشاهد والأصوات الآتية من بعد حوالي عشرة أمتار تصل إلى الوعي في الوقت نفسه تقريبا؛ أما بالنسبة لأي شيء أقرب أو أبعد فإن المعلومات الخاصة بالمشاهدة والصوت تصل في أوقات مختلفة. وفي هذه الحالات، فإن التزامن الظاهري لسماع الصوت ورؤية حركة شفاه المتحدث، مثلا، يجب أن يقوم الدماغ بتنظيمه.
بالإضافة إلى ذلك، لا بد من تنقيح المعلومات الحسية الواردة إلينا من حيث أهميتها بسرعة شديدة (إذ يجب التعامل مع زئير الأسد من خلفنا بسرعة أكبر من التعامل مع زقزقة العصفور الواقف أمامنا). وفي الوقت نفسه، لا بد من معالجة الأفكار والذكريات. ومع ذلك، ينبثق من هذه الفوضى من البيانات الواردة إلينا طوال الوقت عالم متماسك وموحد. (ويبدو أن هذا العالم لا ينهار إلا في حالة اضطرابات نفسية معينة أو عند استخدام عقاقير الهلوسة.)
وقد أكد رينيه ديكارت أن مثل هذا التوحيد ضروري من أجل اكتساب النفس (أو الروح) معرفة العالم، وقال في معرض حديثه عن الغدة الصنوبرية؛ جسم صغير يشبه قمع الصنوبر ويقع بالقرب من مركز الدماغ:
في رأيي أن هذه الغدة هي المقر الرئيسي للروح، والمكان الذي تتشكل فيه كل أفكارنا؛ ويرجع السبب في إيماني بذلك إلى أنني لا أجد أي جزء من الدماغ، فيما عدا هذا الجزء، غير مزدوج. وبما أننا نرى شيئا واحدا بعينين اثنتين، ونسمع صوتا واحدا بأذنين اثنتين، وباختصار لم يكن لدينا قط أكثر من فكرة واحدة في كل مرة، فلا بد أن يكون الوضع هو أن الانطباعات التي ترد إلينا عن طريق العينين أو الأذنين، وغيرهما، تتوحد بعضها مع بعض في جزء معين من الجسم قبل أن تتأملها الروح. ومن المستحيل أن نجد مثل هذا المكان في الرأس إلا في مكان واحد هو هذه الغدة.
في بعض الأحيان توصف هذه الصورة للعقل بمصطلح «المسرح الديكارتي»؛ فمثلما يجلس المشاهد أمام المسرح، ترى النفس منظر العالم مجمعا من نطاق واسع من البيانات الحسية. ولو لم يتم توحيد هذه البيانات قبل رؤية النفس لها، لكانت النفس سترتبك، تماما كما سيرتبك مشاهد المسرح إذا ما ظهر على المسرح ممثلان يدعيان القيام بدور هاملت. وفي حين أن هذه الصورة طبيعية ومقنعة إلى أقصى حد، فإنها تواجه الكثير من الصعوبات؛ ومن ثم ينبغي أن نحترس من الاقتناع بها. فلتفكر في الحالة التالية الشديدة البساطة.
إذا سلطنا بقعة ضوء على الركن الأيسر السفلي من شاشة، ثم أتبعنا ذلك بتسليط بقعة ضوء على الركن الأيمن العلوي من الشاشة نفسها، فسيبدو لنا كأن هناك نقطة واحدة تتحرك عبر القطر الممتد من يسار الشاشة إلى يمينها. (تم اكتشاف هذه الظاهرة التي يطلق عليها ظاهرة بيتا من قبل علماء النفس في بداية القرن العشرين.) فإذا جعلنا بقعتي الضوء بلونين مختلفين، على سبيل المثال، نجعل بقعة الضوء المسلطة على الركن الأيسر السفلي تأخذ لونا أحمر وتلك المسلطة على الركن الأيمن العلوي تأخذ لونا أخضر، فسوف نلاحظ بقعة واحدة تتحرك وتغير لونها عندما تصل إلى منتصف القطر. وهذه نتيجة شديدة الغرابة. فإذا كان دماغنا يملأ الفراغات على طول القطر لصالح النفس الجالسة في المسرح الديكارتي، فكيف يعرف أن لون البقعة لا بد أن يتغير من الأحمر إلى الأخضر في منتصف القطر؛ أي «قبل» مشاهدة البقعة الخضراء أساسا؟ من غير المرجح أن يرجع السبب في هذا للقدرات التنبئية التي تتيح لنا أن نعرف ما سيحدث قبل أن يحدث بالفعل. ثمة طريقة أخرى لتفسير ظاهرة بيتا؛ وهي افتراض أن تجربتنا كلها يتم عرضها في المسرح الديكارتي بعد مهلة زمنية بسيطة؛ فالدماغ لا يمرر معلومات البقعة الحمراء فور استطاعته ذلك، وإنما يحتفظ بها لفترة بسيطة. وبمجرد معالجة البقعة الخضراء، يتم جمع بقعتي الضوء في حكاية إدراكية حسية واحدة تنطوي على وجود بقعة ضوء واحدة تغير لونها أثناء تحركها. بعد ذلك يتم عرض هذه النسخة المعدلة في مسرح الوعي.
للأسف الشديد، لا يتلاءم تفسير المهلة الزمنية هذا مع دليلنا بخصوص طريقة عمل الإدراك الحسي. وعلى الرغم من أن الاستجابات الواعية ليست في سرعة الأفعال المنعكسة، فنحن نعرف أن الاستجابات الواعية يمكن أن تحدث بسرعة قريبة جدا من أدنى الأزمنة الممكنة فيزيائيا. وبمجرد أن نجمع الوقت الذي تستغرقه المعلومات للانتقال إلى الدماغ ووقت تحضير الرد، لن يكون هناك وقت كاف لتلك المهلة الزمنية التي ربما تفسر ظاهرة بيتا.
عند هذه النقطة، يبدو من المنطقي أن نشك في أن ثمة خطأ في مفهوم النفس التي ترى دفقا موحدا من المعلومات الحسية. ربما كان يوجد فقط عمليات عصبية عديدة تحدث في الدماغ وعمليات عقلية عديدة تحدث في العقل، دون أن توجد وكالة مركزية يتم فيها تجميع كل ذلك في لحظة معينة؛ لحظة «الزمن الحاضر» الحسية. ولعل النفس التي نضعها في بؤرة حياتنا العقلية ما هي إلا خيال مرض لا يستند إلى حقيقة واضحة. وإذا لم يكن ثمة وقت محدد لظهور المحتوى الحسي على مسرح النفس (نظرا لعدم وجود مثل هذا المسرح من الأساس)، فسوف تصبح ظاهرة بيتا أسهل بكثير في الاستيعاب. إن الإدراك الخاطئ المتمثل في بقعة الضوء الحمراء التي تتحول إلى اللون الأخضر لا يثار في الدماغ إلا بعد إدراك البقعة الخضراء، إلا أن التتابع الذي يراه المشاهد قد يكون «بقعة حمراء - بقعة حمراء تتحول إلى اللون الأخضر - بقعة خضراء ». عندما تقرأ عبارة «خرج الرجل من منزله مسرعا، وقبل ذلك قبل زوجته»، يكون الترتيب الذي وردت به المعلومة هو «الخروج ثم التقبيل»، ولكن ترتيب الأحداث الذي تستنتجه من العبارة هو «التقبيل ثم الخروج». نظرا لعدم وجود واقع موضوعي حول الوقت الذي يصبح فيه الشيء مدركا ذاتيا (بدخوله إلى المسرح)، فليس هناك حاجة لافتراض مهلة زمنية منتظمة لتفسير عدم محاذاة ما يحدث في الدماغ وما يحدث في الوعي والذي تظهره ظاهرة بيتا. ولكي ندرك وقوع الأحداث بترتيب معين، ليس من الضروري أن ترد المعلومات إلى المخ بهذا الترتيب نفسه.
إن رفض النفس بوصفها المركز الرئيسي لعالمنا العقلي ليس ظاهرة فلسفية حديثة؛ فهي ترجع إلى ألفي وخمسمائة عام مضت، عندما وصف بوذا في الهند القديمة نظرية غياب النفس.
وفقا لهذه النظرية، نحن نتكون من جسد وأربعة مكونات نفسية، تتفق مع الوظائف المعرفية المختلفة. ولا يمكن تجسيد النفس في أي من هذه المكونات (لأنها تتغير باستمرار، في حين أن من المفترض أن تكون النفس مستمرة)، كما أنها لا يمكن أن تكون توليفة من كل هذه المكونات معا (نظرا لأن النفس هي عبارة عن شيء واحد موحد، وليست ائتلافا من العناصر المتغيرة). والنفس أيضا ليست شيئا قائما بذاته، ومنفصلا عن العناصر الأربعة الأخرى؛ وهذا لا يعني أننا ينبغي أن نكف عن الكلام عن النفوس والأشخاص؛ إذ إنها تشكل جزءا مهما من كيفية إدراكنا للعالم. ولكن النفس ليست أكثر من كيان اسمي بحت. وهي متراكبة (مفروضة) على مكوناتنا المادية والعقلية لأسباب عملية محضة. وهي تسمح لنا بتحديد موقعنا في العالم، تماما كما يسمح لنا مؤشر الماوس بتحديد موقعنا على واجهة الكمبيوتر. ولكن على غرار المؤشر الذي ليس «في» الكمبيوتر، وليس كائنا مستمرا (إذ إنه يختفي عندما نغلق الكمبيوتر)، ولا يدخل في تركيب مركز أعمال الكمبيوتر، فالنفس أيضا تختلف عما تبدو عليه بالنسبة لنا.
مقتطفات من حوار ماهابوناما «أيها الرهبان، ما رأيكم؟ هل المادة باقية أم زائلة؟» - «زائلة، يا سيدي الموقر.» - «هل الأشياء الزائلة تجلب المعاناة أم السعادة ؟» - «المعاناة، يا سيدي الموقر.» - «هل الأشياء الزائلة التي تجلب المعاناة وتخضع للتغيير يمكن أن نصفها بالكلمات التالية: هذه لي، هذه أنا، هذه نفسي؟» - «لا، يا سيدي الموقر.» «أيها الرهبان، ما رأيكم؟ هل الشعور والإدراك ورد الفعل والوعي أشياء باقية أم زائلة؟» - «زائلة، يا سيدي الموقر.» - «هل الأشياء الزائلة تجلب المعاناة أم السعادة؟» - «المعاناة، يا سيدي الموقر.» - «هل الأشياء الزائلة التي تجلب المعاناة وتخضع للتغيير يمكن أن نصفها بالكلمات التالية: هذه لي، هذه أنا، هذه نفسي؟» - «لا، يا سيدي الموقر.» «لذا، أيها الرهبان، فأي نوع من المادة، سواء في الماضي أو في الحاضر أو المستقبل، ينبغي أن يوصف على حقيقته بالحكمة المناسبة: هذه ليست لي، هذه ليست أنا، هذه ليست نفسي. وأي نوع من الشعور والإدراك ورد الفعل والوعي ينبغي أن يوصف على حقيقته بالحكمة المناسبة: هذه ليست لي، هذه ليست أنا، هذه ليست نفسي.»
عندما نقول إن النفس متراكبة (مفروضة) على المكونات، يتبادر إلى الذهن سؤال: «من الذي يركبها (يفرضها)؟» عندما نتأمل النفس بوصفها الموحد لعالمنا التجريبي، فمن المنطقي أن نراها أشبه بالطيار في محاكي الطيران. فمن نطاق من المدخلات الإدراكية، يخلق دماغنا صورة للعالم تعمل عليها النفس. فنحن لا نستطيع أن نخطو خارج أدمغتنا؛ ومن ثم ليس لنا سبيل إلى اكتشاف العالم خلف المحاكاة الموجودة داخل القحف، بل إنها بالنسبة لنا لا تبدو كمحاكاة من الأساس. ولكن المشاكل التي يثيرها مفهوم المسرح الديكارتي تقترح عدم وجود طيار، وعدم وجود نفس تتم لصالحها المحاكاة. بدلا من ذلك، فإن مجموعة مكوناتنا المادية والعقلية تعمل كمحاكي طيران كامل، لا يحاكي المعلومات المستقبلة في مقصورة الطيار فحسب، وإنما يحاكي الطيار أيضا؛ فالنفس بوصفها الموحد لمدخلاتنا الإدراكية هي عبارة عن محاكاة أو خيال، إلا أنه لا يوجد شخص غير محاكى أو غير خيالي يشاهد المحاكاة أو يعيش هذا الخيال.
ومن المدهش أن نلاحظ أن النفس الموحدة تلقى هجوما أيضا من اتجاه غير متوقع إلى حد ما؛ ألا وهو تفسير معين للفيزياء الكمية .
نذكر أنه وفقا لبعض التفسيرات يحدث انهيار الدالة الموجية عندما يتفاعل الوعي مع الكائن الكمي المراد قياسه. هذا التفاعل، أي القياس، يحدد بعد ذلك أي من الخواص التي يمكن أن يتسم بها الكائن الكمي هي الخاصية الحقيقية. وبعد القياس، سوف يحمل الكائن هذه الخاصية فحسب ولن يحمل أي خواص أخرى. ومع ذلك فالتفسير الذي يهمنا هنا يزعم أنه بعد القياس، كل الخواص المختلفة الممكنة هي خواص يمتلكها الكائن الكمي. ونظرا لأنه لا يوجد شيء يمكن أن تكون له خواص مختلفة متعارضة في الوقت نفسه، فهذا يعني ضمنا أنه عندما يتم رصد الكائن، ينقسم الكون إلى مجموعة من النسخ المتقاربة، الأولى تستمر في مسارها مع امتلاك الكائن الكمي خاصية واحدة، والثانية يمتلك فيها خاصية أخرى، وهكذا، هذا هو المكافئ الكوني لرواية بورخيس المتاهية التي تصف شخصية تسوي بن؛ حيث كل خيار يختاره بطل القصة يؤدي إلى روايات عديدة أخرى، واحدة لكل نتيجة محتملة. وفي شجرة الاحتمالات المتواصلة التفرع هذه، كل ما يمكن أن يحدث يتم وصفه في رواية ما.
ويتيح لنا «تفسير العوالم المتعددة» المزعوم هذا تفسير تجارب فيزيائية مهمة للغاية دون الحاجة لافتراض وجود اختلاف جوهري بين العقل والمادة. ومن ناحية أخرى، بما أننا نحن، كراصدين، كائنات مادية أيضا، فإن عمليات القياس تقسمنا، بحيث تنقسم نفوسنا إلى أنفس متعددة منفصلة تستأنف وجودها في أكوان منفصلة، ولا تتلاقى وتتوحد مرة أخرى على الإطلاق؛ فالأمر كما لو كنت عندما ترمي زهر النرد، لن تحصل على رقم معين فحسب، ولكنك تخلق خمسة أكوان أخرى كاملة في الوقت نفسه، يشتمل كل منها عليك وقد رميت زهر النرد للتو وظهر لك واحد من الأرقام الخمسة الباقية.
ولكن أي هذه الأنفس هي نفسك؟ إذا كانت كل منها استمرارا لك، فإنك لن تستطيع أن تملك نفسا موحدة؛ نظرا لأن النفوس الستة ستتطور في اتجاهات شديدة التباين، وتملك تجارب مختلفة، وتختار اختيارات مختلفة، في حين أن النفس الواحدة من المفترض أن تتطور في اتجاه واحد فقط، وتملك مجموعة واحدة من التجارب، وتختار نوعا واحدا من الاختيارات. أما إذا كانت إحدى هذه الأنفس هي أنت، إذن فأنت كما يبدو ستصبح خالدا.
قم بالتجربة التالية؛ خذ جهازا يقيس خاصية معينة في كائن كمي. يمكن أن تكون هذه الخاصية موجودة في الكائن أو غير موجودة، والاحتمالية متساوية في الحالتين، والآن اربط هذا الجهاز بمسدس. كل دقيقة يقيس الجهاز كائنا كميا مختلفا ولا يفعل شيئا إذا كانت الخاصية المراد قياسها غير موجودة. أما إذا كانت الخاصية موجودة، فإن الجهاز يطلق المسدس ويصيبك في رأسك. إذا أجريت هذه التجربة، فسيبدو لك كأن المسدس لا يطلق النار مطلقا؛ لأنه كلما فعل ينقسم العالم إلى عالمين، تكون الخاصية غير موجودة في أحدهما، ولا يطلق المسدس النار. واستمرار نفسك هو النفس الموجودة في العالم الذي لا يطلق فيه المسدس، وليس النفس الميتة الموجودة في العالم الذي يطلق فيه المسدس. (أما إذا كنت تراقب شخصا آخر يجري التجربة، فستكون هناك احتمالية 50٪ أنك ستراه يسقط ميتا بعد الدقيقة الأولى.) وما دام احتمال عدم وجود الخاصية المراد قياسها ليس صفرا، فإنك تستطيع البقاء على قيد الحياة في مثل هذا السيناريو للأبد. من الواضح أن الفكرة نفسها يمكن أن تطبق خارج التجربة أيضا. بما أن انقسام العوالم يحدث طوال الوقت، ما دام هناك عالم تعيش فيه هو نتاج مثل هذا الانقسام قبل موتك مباشرة، فسوف تستمر على قيد الحياة في هذا العالم، وبما أن «نفسك» في هذا العالم هي نفسك الحقيقية، فإنك لن تمر بتجربة موتك إطلاقا.
ورغم أن هذا الخلود قد يروق لك، فإن فكرة وجودك في عالم واحد من العوالم اللامعدودة المنبثقة في كل لحظة هي فكرة مثيرة للجدل. والعقبة الرئيسية هي أن نجيب عن السؤال: لماذا توجد أنفسنا في العالم الذي يقف فيه زهر النرد على رقم ستة، وليس في العالم الذي يقف فيه على رقم خمسة؟ وما الذي يحدد النفس التي ستصبح استمرارا لنا؟ في العوالم الستة كلها، نحن نملك أجسادا شبه متماثلة؛ لذا فمن المستبعد أن يكون ثمة اختلاف مادي هو الذي يحدد العالم الذي توجد فيه أنفسنا. ويبدو أن الطريقة الوحيدة لحل هذه الإشكالية هي افتراض وجود نفس غير مادية وغير مدركة بالحس. ولكن إن كانت هذه النفس موجودة حقا، فسوف يتبادر إلى أذهاننا سؤال إذا ما كان قد حدث خطب ما في مكان ما، وعلى الرغم من أننا نظن أن أنفسنا في العالم الحالي، فإنها في الحقيقة في عالم آخر انفصل عن هذا العالم منذ زمن بعيد.
بطريقة أو بأخرى، لا ينبغي أن يقلقنا مثل هذا الموقف؛ إذ يبدو أننا نرجع إلى الموقف الخاص بالعقار المدمر للنفس الذي ناقشناه سابقا. إذا كانت النفس غير المدركة بالحس قد افترضت فقط من أجل تأكيد وجود نفس مستمرة غير متغيرة عبر العوالم المنفصلة الخاصة بتفسير العوالم المتعددة، فربما نوفر على أنفسنا هموما غير مبررة حول وجود أنفسنا حقا حيث نظن أنها موجودة، عن طريق التخلي عن الافتراض الأساسي الذي ينص على أن هناك نفسا موحدة في المقام الأول.
رؤيتنا البدهية الأخيرة للنفس هي أن النفس هي محل السيطرة؛ فالنفس هي الوسيط الذي يحول المعلومات المتلقاة من العالم إلى أفعال تتم في العالم، وجوهر إدراكنا للوساطة هي القدرة على القيام بأفعال ليست ناتجة بشكل مباشر عن المدخلات الحسية؛ فتمرير الملح عندما يطلب منك ذلك على مائدة الطعام فعل مختلف كل الاختلاف في نوعه عن أخذه بنفسك، ولا يدفعك للقيام بهذا الفعل سوى رغبتك في وضع المزيد من الملح على طعامك. ومن المحير أن هذا القدر الرئيسي من الوساطة يبدو شديد الاختلاف عندما نولي انتباهنا لآلية عمل الدماغ البشري.
شكل 3-3: استكشاف طاقة الاستعداد.
عند دراسة نشاط القشرة الحركية للدماغ الذي يؤدي إلى الحركات الإرادية للعضلات، اكتشف العلماء نمطا خاصا لنشاط الخلايا العصبية الذي يسبق هذه الحركات، والذي يطلق عليه «جهد الاستعداد». في ثمانينيات القرن العشرين أجرى عالم الأعصاب بنجامين ليبت تجربة مثيرة للجدل تبحث العلاقة الوقتية بين جهد الاستعداد والقرار الواعي للقيام بالفعل. طلب العالم من الخاضعين للتجربة القيام بحركة بيدهم في أي وقت من اختيارهم أثناء مشاهدة ساعة شمسية متحركة. وتم قياس النشاط الكهربي لأدمغتهم باستخدام التخطيط الكهربائي للدماغ، وطلب من الخاضعين للدراسة ذكر مكان مؤشر الساعة وقت شعورهم «بالرغبة» في تحريك أيديهم. المثير للاهتمام أن الوقت المذكور كان يلي على الدوام بداية جهد الاستعداد في الدماغ؛ ومن ثم فإن من الصعب أن نفهم كيف تسببت الرغبة في جهد الاستعداد؛ نظرا لأن خبرة إرادة القيام بفعل معين لا تبدأ إلا بعد وقوع أحداث الدماغ التي تؤدي لوقوع الفعل. إن إرادة القيام بالفعل تتجلى آنيا في عقولنا، ومع ذلك فإن لها بادرة سببية لسنا على دراية بها. وهذه البادرة؛ أي جهد الاستعداد، غير مرئية بالنسبة لنا، ولكنها موجودة على أي حال. والرغبة في تحريك اليد لا تبدو عفوية وغير مبررة إلا لأنها الحلقة الأولى في سلسلة عمليات الدماغ التي تعبر الحدود من اللاوعي إلى الوعي. وفي هذا السياق التجريبي، ينبثق كل من الرغبة في الفعل والفعل نفسه من الدماغ، ومع ذلك فنحن نستنتج أن الرغبة هي المسئولة سببيا عن الفعل.
ويمكن ملاحظة ميل عقولنا إلى خلق مظهر الفعل المتعمد حتى عندما لا يوجد مثل هذا الفعل في سياقات أخرى أيضا. ومجرد حقيقة أن فعلا ما يبدو لنا ناتجا بشكل كامل عن نيتنا ورغبتنا في القيام به لا تضمن أن هذا هو الواقع؛ فالنشاط الدماغي يمكن حثه أو تثبيطه عن طريق تحفيز الدماغ بواسطة حقول مغناطيسية عبر الجمجمة من خلال تقنية يطلق عليها التحفيز المغناطيسي للدماغ. عندئذ من الممكن إجراء تجربة يطلب فيها من الخاضعين للتجربة اختيار رفع الإصبع السبابة اليمنى أو اليسرى بعد صدور إشارة معينة. وفي الوقت نفسه يتم تشغيل التحفيز المغناطيسي للمنطقة الحركية من الدماغ. من المرجح أن يرفع الخاضعون للدراسة الإصبع السبابة الخاصة باليد المعاكسة للمنطقة المحفزة من المخ دون أن يدركوا أن اختيارهم تأثر بقوة خارجة عن أدمغتهم.
في الحالات الأكثر تطرفا، يمكن أن يختلق العقل الرغبة في القيام بفعل ما، في حين أن هذه الرغبة في الحقيقة لا تنبع منا على الإطلاق. في تجربة طريفة طلب من الخاضعين للدراسة اختيار صور على شاشة كمبيوتر باستخدام فأرة الكمبيوتر التي يشاركونها مع شريك، على نمط لوحة الويجا. وفي هذه التجربة يستمع المشاركون إلى كلمات عبر سماعات رأس، هذه الكلمات بعضها له علاقة بالكائنات التي تظهر على الشاشة. وفي الواقع، يكون الشريك أحد القائمين على التجربة ويقوم دون ملاحظة الشخص الخاضع للتجربة بتحريك الفأرة ببطء نحو صورة ما. فإذا تم توجيه فأرة الشخص الخاضع للتجربة نحو صورة وردة، واستمعوا إلى كلمة «وردة» قبل ذلك بثوان في سماعات الرأس، فإنه يقول إنه شعر بأن فعل تحريك الفأرة في اتجاه الوردة كان مقصودا. إن فكرة الوردة تم تحفيزها بواسطة أسباب خارجية محضة (سماعات الرأس)، ومع ذلك فإن ورودها على الذهن يؤيد فكرة أن العقل قد تسبب في هذا الفعل عن قصد. يختلق العقل رواية «أنا فعلت هذا» التي نظن بعد ذلك أنها رواية حقيقية لا تقبل الشك، رغم افتقادها لأي أساس واقعي.
إن الشك في فكرة أن النفس محل السيطرة لا ينبع من الدراسة العميقة لكيفية عمل عقولنا فحسب، وإنما ينبع أيضا من اتجاه غير متوقع على نحو ما: علم الميمات. وعلم الميمات، وهو علم دراسة التطور الثقافي، هو علم مستنبط من علم الوراثة، أو دراسة الجينات. يدرس علم الوراثة كيفية تطور الحياة البيولوجية بواسطة نسخ الجينات، أما علم الميمات فيدرس كيفية فهم تطور حياة العقل بواسطة نسخ الوحدة الأساسية للتطور الثقافي (الميم). يمكن أن يكون الميم أساسيا مثل فكرة غلي الطعام قبل تناوله، أو نقل الأحمال بواسطة العربات، كما يمكن أن يكون هيكلا شديد التعقيد من الأفكار مثل لعبة «جو» وهندسة إقليدس وقواعد اللغة السنسكريتية والرسم المنظوري وبالطبع دراسة الميمات نفسها. الجينات كائنات غير مرئية يحملها العائل (الكائن الحي المالك للجين) ولها تأثيرات معينة (النمط الظاهري للكائن الحي)، وبالمثل الميمات أيضا كائنات غير مرئية، تحملها عقول الأفراد، ولها تأثيرات معينة تحدد ما يحدث لهذه العقول على المدى البعيد.
ثمة فكرة مؤثرة في النظرية التطورية الحديثة؛ ألا وهي أن الجينات، وليس الكائنات الحية، هي التي تحتل مقعد القيادة؛ فبدلا من النظر إلى الجينات باعتبارها الأداة التي يستخدمها الكائن الحي للتكاثر، ومن ثم تحسن كفاءته، تدعونا النظرية التطورية الحديثة إلى النظر إلى الجينات باعتبارها نواسخ أنانية تجبر الكائن الحي على زيادة فرصة نسخها؛ ففي حين أنه غالبا ما يكون المفيد للجين مفيدا للعائل (على سبيل المثال، الجين المورث للمناعة ضد أي مرض عادي ستكون له فرص أكبر للنسخ؛ نظرا لأن الشخص الحامل له من المرجح أن يعيش فترة أطول)، فإنه من الممكن حدوث تعارضات خطيرة.
تحدث هذه التعارضات بشكل خاص في حالة جينات الانحراف الانعزالي التي لا تؤثر على سمات مثل الشعر أو لون البشرة، وإنما تؤثر على عملية الانقسام الخلوي التي تقسم الكروموسومات وتنتج خلايا الحيوانات المنوية والبويضات. تحرص جينات الانحراف الانعزالي على أن يتم تمثيلها بشكل زائد في خلايا الحيوانات المنوية والبويضات؛ ومن ثم تزيد فرص نسخها بشكل هائل. وهي تفعل ذلك حتى إذا كانت عواقبها على أفراد الكائن الحي أو على مجتمع الكائنات الحية كارثية. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك، الجين
t
في الفئران، الذي يخدع الجينات الأخرى بهذه الطريقة، وهذا الجين لا يؤثر على نحو خطير على الكائن الحي إذا تم توريثه من أحد الأبوين فحسب. أما إذا ورث من كلا الأبوين فإن الفأر الحامل له إما أن يموت في سن صغيرة أو يصبح عقيما. وعندما ينتشر الجين
t
في مجتمع من الفئران نظرا لقدرته على التمثيل الزائد في خلايا الحيوانات المنوية والبويضات، تزيد احتمالية وراثة الفئران الصغيرة له من كلا الأبوين. وفي النهاية، إذا ورث مجتمع الفئران بالكامل الجين
t
فمن الممكن أن ينقرض بهذه الطريقة. إن هذا الجين لا يعمل ضد مصلحة الكائن الحي الحامل له فحسب، بل إنه يفتقد بوضوح أي بصيرة ورؤية نافذة؛ حيث إنه بهذه الطريقة يعمل ضد مصلحته الشخصية أيضا.
على النحو نفسه الذي تحتشد به الجينات في الكائن الحي لكي تنسخ بطريقة أفضل ، نحن نعتقد أن الميمات أيضا تتجمع لتكوين ذات. ونحن نرى قلبا مشابها لترتيب الأولويات المعتاد هنا؛ فنحن لا نملك الأفكار، بل الأفكار هي التي تملكنا. ومن منطلق هذه الرؤية، تصبح النفس صنيعة الميمات التي تحتل دماغ الإنسان لتسهل عملية تكاثر الميمات. وتماما مثلما تحتشد الجينات في الكائن الحي لتسهيل عملية تكاثرها (لأن بعض الجينات تستطيع السيطرة على إنتاج المكونات البيولوجية اللازمة للجينات الأخرى)، تحتشد الميمات في النفس لكي تسهل عملية نسخها. في مثل هذه النفس، يمكن أن تتجمع الميمات التي يستطيع بعضها مساعدة بعض في التكاثر. ينتشر الميم الخاص بصنع البارود بشكل أفضل عندما يكون جزءا من نفس تشتمل أيضا على ميمات لصنع القنابل وأدوات الإحراق والصواريخ والألغام والبنادق والمدافع؛ ومن ثم يكون من الخطأ افتراض أن الميمات التي نملكها موجودة لدينا لأنها تتوافق مع العالم من حولنا، أو لأنها تجعلنا أذكى، أو أكثر تعاطفا، أو أكثر نجاحا؛ ولكنها ببساطة موجودة لدينا لأنها مفيدة لنفسها؛ بمعنى أنها تساعد في عملية نسخها. وكما هو الحال في الجينات، لا تعتبر مسألة إذا ما كان الجين الناسخ مفيدا للعائل معيارا مفيدا لتقييم نجاحه.
مع ذلك، سيكون من الخطأ أن نظن أن الميمات الطفيلية تستولي على أنفسنا. والسبب في أن أي تعارض للميمات مع «أنفسنا» يكون في غير محله هو أن الميمات تلعب دورا رئيسيا في تكوين أنفسنا. فليس هناك عقل مستقل يجاهد لمكافحة غزو الميمات الأجنبية، وإنما يوجد فقط هيكل واحد من الميمات التي ترى نفسها بوصفها نفسا، وترى الميمات الأخرى بوصفها حلفاء يمكن أخذها في جبهتها أو أعداء ينبغي صد هجماتها. بطبيعة الحال، نحن لا ننظر للأمور بهذه الطريقة، فنحن نؤمن بأننا نحن المسيطرون، وأننا نحن الذين نملك الأفكار، وليس العكس. تصف علوم الإدراك هذه الصنائع المعرفية مثل النفس في بعض الأحيان باعتبارها «شفافة»؛ فنحن نرى عبرها دون أن نلاحظ طبيعتها المركبة. وينطبق الأمر نفسه تقريبا على مجالنا البصري، الذي يبدو مستمرا وموحدا، رغم أنه أبعد ما يكون عن ذلك ؛ لأن كل جزء من شبكية العين يملك إمكانيات وضوح مختلفة تماما عن الجزء الآخر، ولأن كل عين لديها بقعة عمياء، ولأن أعيننا تقفز من مكان إلى آخر في المحيط في حركات متتابعة تعرف باسم الرمش. ونحن لا نستطيع إدراك طريقة تكوين مجال بصري مستمر من هذه البيانات الجزئية المتقطعة، تماما مثلما لا نستطيع إدراك كيفية تكوين النفس من مجموعة من الميمات؛ فالنفس وهم وليست شخصا يعيش وهما.
إذا كان إدراكنا البدهي للنفس، كما تبين لنا الاعتبارات السابقة، بوصفها وسيطا غير متغير وموحد داخل أجسامنا أقل معقولية مما يبدو عليه، فإلى أين يقودنا ذلك فيما يتعلق بواقعية النفس؟ من الواضح أننا لا نستطيع دحض واقعية النفس وفقا لتعريف فيلم «ماتريكس» وتعريف رواية «1984». إننا ندرك وجود النفس - نظرا لشفافيتها - كما أن معظم الناس يدركون أن معظم الناس الآخرين لديهم نفوس. ولكن واقع وجود النفس وفقا لتعريف «جونسون» ليست واضحة؛ فالنفس ليست شيئا غير مصطنع. إنها نموذج معرفي، وفي حالة كون بعض علماء الميمات على صواب، فإنها عبارة عن كائن مركب مصنوع من ميمات متجمعة. أما تعريف نهاية العالم فهو لا ينطبق عليها بالتأكيد؛ فإذا لم نكن موجودين، فبالتأكيد لن تكون هناك نفوس. كما أننا رأينا أن واقع النفس ليس جليا في ظل أحد أهم تعريفات الواقع؛ ألا وهو تعريف السلحفاة. ولا تحتوي المكونات الأولية العديدة التي تفترضها النظريات التي تحاول تقديم بيان كامل للأجزاء الرئيسية للعالم - الجسيمات الأولية والجينات والميمات - على النفوس. مما سبق، يبدو لنا أن النفس ليست شيئا يوجد على المستوى الأساسي للوصف، ولكنها شيء مصنوع لا يظهر إلا عندما تتجمع عدة عوامل بسيطة في كل معقد.
الفصل الرابع
هل الزمن واقع؟
تقع أطلال دير هيسترباخ السيسترسي في سلسلة من التلال شرقي نهر الراين. تحكي الأساطير المحلية قصة راهب من القرن الخامس عشر خرج من الدير متجولا في الغابات المحيطة، ومتأملا في المزمور 90 الآية 4: «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر، وكهزيع من الليل.» جلس الراهب في الغابة، فغلبه النعاس ولم يوقظه إلا صوت أجراس الدير تؤذن بحلول صلاة المساء، عند رجوعه، بدا له شكل الدير غريبا غير معتاد، وعندما دخل المصلى، لم يتعرف عليه أي من الرهبان. سألوه عن شخصيته، فأجاب أن اسمه أيفو، وأنه دخل الدير في العام نفسه الذي أصبح فيه إنجلبيرت فون بيرج مطران مدينة كولونيا، قال الإخوة: «ولكن هذا منذ أكثر من ثلاثمائة عام!» وفجأة شعر الراهب أنه يرزح تحت ثقل ثلاثمائة عام ملقاة على كاهله، وقبل أن يموت مباشرة، فهم أن الله قد أراه وجوده خارج نطاق الزمن، والآن قد أعاده داخله. •••
كما نرى في هذه الأسطورة، ربما يكون الزمن كما يتراءى لنا غير واقعي وفقا لتعريف نهاية العالم. تزعم الأسطورة أن زمننا، الزمن البشري، هو شيء بشري في الأساس؛ أي إنه لم يكن ليوجد لولا وجود البشر. وخلف هذا الزمن ثمة نوع آخر من الزمن - نوع واقعي ولكنه مختلف في طبيعته تمام الاختلاف - ألا وهو الحضور الأبدي لوجود الله الثابت.
شكل 4-1: أطلال دير هيسترباخ.
ثمة شك أكثر خطورة؛ ألا وهو الشك في أن الزمن ليس حتى سمة جوهرية غير قابلة للاختزال من سمات العالم (أي إنه ليس واقعا وفقا لتعريف السلحفاة)، متفش على نحو مدهش بين الفلاسفة والعلماء. أشار فيلسوف كامبريدج جون ماك تاجارت إليس، وهو أحد المؤيدين المعروفين لعدم واقعية الزمن، إلى أننا نميل للتفكير في الزمن بطريقتين مختلفتين جذريا؛ أولاهما: أن الزمن «ديناميكي»، ويتغير كل لحظة من أن يكون مستقبلا أولا، ثم يصبح حاضرا، ثم في النهاية - بمجرد أن ينتهي - يصبح ماضيا. أما وفق الطريقة الثانية؛ فيمكن النظر إلى السمات الزمنية باعتبارها سمات «غير متحركة»، عندما نفكر أن لحظة معينة قبل أو بعد لحظة أخرى، أو أن لحظتين متزامنتان. هذه العلاقات لا تتغير بتحرك اللحظات من المستقبل، عبر الحاضر، إلى الماضي؛ فالخامس من يناير يأتي دائما قبل السادس من يناير في أي عام، سواء أكان هذا العام في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل. أشار ماك تاجارت إلى الطريقة الأولى للتفكير في الزمن بوصفها النسق (أ)، وإلى الثانية بالنسق (ب). ويرى ماك تاجارت أن النسق (ب) ليس كافيا لفهم ماهية الزمن؛ فالزمن ينطوي على التغيير، وفي النسق (ب) لا شيء يتغير. فالعلاقات بين اللحظات: «قبل» و«بعد» و«في الوقت نفسه» كلها علاقات ثابتة طوال الوقت، مثل مجموعة متتابعة من الغرف، تقع إحداها تلو الأخرى، ولن تتغير أبدا. بالإضافة إلى ذلك، نحن حتما نعرف عن الزمن أكثر من المعلومات التي نعرفها عن النسق (ب). فأي كائن يعرف كل الحقائق النظرية عن النسق (ب) من شأنه أن يعرف العلاقات الزمنية بين كل اللحظات، بيد أنه لن يكون قادرا على أن يخبرك بتاريخ اليوم؛ وذلك لأنه عاجز عن تحديد موضع اللحظة الحاضرة؛ فمفهوم الحاضر لا يشكل جزءا من مفردات النسق (ب) النظري، ولا يوجد إلا في النسق (أ). ولكن النسق (أ)، وفقا لما قاله ماك تاجارت، له مشاكله الخاصة.
يستحيل أن نصف حدثا بأنه ماض وحاضر في الوقت نفسه، أو بأنه حاضر ومستقبل، أو بأنه ماض ومستقبل. إلا أن الزمن المفهوم وفقا للنسق (أ) يتضمن أنه بمرور الوقت يحمل كل حدث خواص الماضي والحاضر والمستقبل؛ إذن يمكننا القول إن النسق (أ) متناقض.
يبدو حل هذه المشكلة بسيطا؛ الإشارة إلى أنه لا يوجد حدث يحمل سمة الماضي أو الحاضر أو المستقبل في الوقت نفسه، ولكنه يحملها متتابعة. فأي حدث يكون في البداية مستقبلا، ثم حاضرا، وبعد ذلك يصبح ماضيا، ولكن ليس من الواضح تماما كيفية التعبير عن هذه الإجابة المقنعة بدهيا بالتفصيل؛ خذ حدثا محددا، مثل عيد ميلاد ماك تاجارت (دعنا نطلق عليه م)، يبدو أننا نستطيع أن ندحض التناقض بقول إن م حدث مستقبلي في عام 1850 وماض في عام 1900. ولكن أجزاء حديث الزمن المستخدمة هنا («مستقبلي في عام 1850» و«ماض في عام 1900») لم تعد تعبيرات النسق (أ) النظري؛ لأنها لا تتغير بتقدم الزمن. وما كان مستقبلا في عام 1850 سيظل مستقبلا، بغض النظر عن تقدم الزمن وتطوره. إن تفادي التناقض بإعادة صياغة أوصاف النسق (أ) النظري الديناميكي لتصبح متوافقة مع النسق (ب) لن يفيدنا في الحقيقة؛ لأننا رأينا بالفعل أن وصف النسق (ب) النظري ليس مرضيا.
ثمة فكرة أخرى وهي التخلص من التناقض عن طريق تحديد أوصاف النسق (أ) باستخدام المزيد من أوصاف النسق (أ). فيمكننا القول مثلا إن م ليس له خواص زمنية متناقضة؛ لأن:
م ماض «في الحاضر»،
م حاضر «في الماضي»،
م مستقبل «في الماضي البعيد».
هذه الأوصاف لا يتوافق بعضها مع بعض وحسب، على عكس أوصاف مثل «مستقبل في 1850»، وإنما تتغير بمرور الوقت أيضا؛ فكلما تقدم الزمن، تغير الحدث م من كونه حاضرا «في الماضي» إلى كونه حاضرا «في الماضي البعيد». وتكمن المشكلة في أننا حين نتحدث عن الزمن، فإننا لا نتحدث عن الحاضر وحسب، بل نتحدث عن الماضي أيضا؛ على سبيل المثال، يعد وقوع معركة هاستينجز حقيقة ماضية «في وقتنا الحاضر». ومن أمثلة الحقائق الماضية الآن حول عيد ميلاد ماك تاجارت في عام 1866 ما يلي:
م ماض «في الماضي القريب»،
م حاضر «في المستقبل القريب»،
م مستقبل «في الحاضر».
للأسف، هذه الحقائق لا تتوافق مع أوصاف النسق (أ) التي ذكرناها للتو (على سبيل المثال، م لا يمكن أن يكون ماضيا في الحاضر ومستقبلا في الحاضر)؛ فبهذه الطريقة سيواجهنا تناقض. وبما أن النسق (ب) لا يصل بنا إلى جوهر الزمن، والنسق (أ) يؤدي إلى تناقضات، يستنتج ماك تاجارت أن الزمن ليس واقعيا؛ وبهذا فإننا عندما نتصور الزمن، نتصور شيئا خياليا.
تبنى كورت جودل - وهو أحد أعظم علماء الرياضيات في القرن العشرين وربما على مر العصور - وجهة نظر مشابهة. أشار جودل إلى أن التدفق المتجرد للزمن، أي الزمن وفقا لفهم النسق (أ)، لا بد أن يعني ضمنا أن الواقع الحقيقي، المفهوم بوصفه كل ما هو موجود، ينمو بمرور الزمن؛ فمع مرور الزمن، تقع الأحداث المستقبلية فحسب وتزيد مجموعة الأحداث الواقعة، مضيفة إلى تراكمات اللحظات الحاضرة التي سرعان ما تصبح ماضية؛ فكعكة عيد الميلاد التي أريد صنعها في الغد ليست موجودة حتى الآن، ولكن بتحرك عيد الميلاد من المستقبل إلى الحاضر، تصبح الكعكة من مجرد كائن مستقبلي محتمل إلى كائن حالي حقيقي؛ فالواقع الآن يشتمل على شيء جديد لم يكن موجودا من قبل؛ ألا وهو كعكة عيد الميلاد.
من العوائق التي تواجه هذه الفكرة أن أفضل النظريات المادية الحالية، ولا سيما النظرية الخاصة للنسبية، لم تعد تتيح لنا التحدث عن «الزمن الحاضر» بأي معنى مطلق؛ فلنضرب مثالا بسيطا، لنفترض وجود مصباح كهرباء يضيء عربة سكة حديدية متحركة عبر نافذة في منتصف العربة، ثمة مرآة في كلتا نهايتي العربة، وبما أن كلتيهما على المسافة نفسها من النافذة، فإن الراصد داخل العربة سيرى الضوء منعكسا من كلتا المرآتين في الوقت نفسه، إلا أنه بالنسبة للراصد من خارج العربة، يبدو أن الضوء يصل إلى إحدى المرآتين قبل الأخرى؛ نظرا لأن إحدى المرآتين تتحرك نحو الضوء المقترب مع تحرك العربة، بينما تتحرك الأخرى مبتعدة عنه؛ ومن ثم علينا أن نقول إن الحدثين أنفسهما (حدثي اصطدام الضوء بالمرآتين) متزامنان بالنسبة لأحد الراصدين، وغير متزامنين بالنسبة للآخر. من المستحيل إذن أن نفرقع أصابعنا الآن وندعي أن ثمة طريقة موضوعية يمكننا استخدامها للإشارة إلى كل الأحداث التي تقع في وقت فرقعة الأصابع نفسه، أو على الأحرى كل الأحداث التي تقع في الحاضر المطلق. فمن وجهة نظرنا، حدثت الفرقعة وبعض الأحداث الأخرى (دقة الساعة واهتزاز الجرس) في الوقت نفسه، ولكنها بالنسبة لراصد آخر ربما حدثت متتالية.
لكن هذا يعني أنه لا يوجد واقع موضوعي بشأن ماهية الكائنات التي تعد جزءا من الواقع المتنامي وتلك التي ليست كذلك؛ فكل ما هو موجود في الزمن الحاضر يعد جزءا من الواقع، ولكن «الزمن الحاضر» بالنسبة لمن؟ يبدو أننا مدفوعون لأن نقول إنه ليس التزامن فقط مسألة نسبية للراصد داخل الإطار المرجعي القصوري، ولكن الواقع أيضا نسبي؛ نظرا لأن زمني الحاضر قد يشتمل على أشياء مختلفة عن زمنك الحاضر.
إلا أنه من الصعب توفيق هذه النظرة للحقيقة مع معانيها الأكثر الجوهرية فيما يتعلق بتعريف نهاية العالم أو تعريف السلحفاة. إذا كان الحقيقي هو الموجود بغض النظر عن أي شيء، أو هو ما يتبقى إذا ما تتبعنا سلسلة الاعتماد من الجزيئات للذرات، للجسيمات دون الذرية، وما وراءها؛ فإن كون هذا الشيء نسبيا للراصد لا يبدو خيارا متاحا؛ ولذا فإن الكثير من المفكرين، ومن بينهم جودل، قد فضلوا إنقاذ مفهوم الواقع المطلق عن طريق رفض فكرة التدفق المتجرد للزمن، والواقع المتنامي بتحول المستقبل المحتمل إلى حاضر فعلي.
دافع جودل أيضا عن هذه النتيجة بتقديم برهان شديد الطرافة في محاولة منه لتوضيح أنه في فئة معينة من العوالم وفي ظروف فيزيائية خاصة، من الممكن القيام برحلة كاملة ذهابا وإيابا على صاروخ يأخذنا إلى أي اتجاه للزمن، سواء الماضي أو المستقبل، ويعود بنا مرة أخرى، تماما كما يتيح لنا عالمنا السفر إلى أي اتجاه في الفضاء. من الواضح أنه في «عالم جودل» الذي يسمح بالسفر عبر الزمن، لا يمكن أن يكون هناك تدفق متجرد للزمن، أو واقع متوسع ومتنامي؛ لأننا لا نستطيع السفر إلى مكان غير موجود؛ فجزيرة لابوتا الخيالية ليست وجهة محتملة للسفر في عالمنا؛ لأنها غير موجودة. وللسبب نفسه، المستقبل (وربما يزعم البعض، الماضي) ليس وجهة محتملة أيضا؛ لأنه غير موجود هو أيضا. ولكن في عالم جودل، يمكننا السفر إلى المستقبل؛ ومن ثم فإن المستقبل لا بد أن يكون موجودا. ولكن هذا يعني أن الواقع لا يمكن أن ينمو بتحول المستقبل إلى حاضر، لأن كل شيء موجود هو بالفعل جزء من الواقع.
إن كون عالمنا في الواقع هو «عالم جودل» ليس أمرا جوهريا بالنسبة لنظرة جودل للزمن، ولكن الجوهري حقا هو أن عالم جودل يختلف عن عالمنا على أقصى تقدير في طريقة توزيع المادة والحركة على النطاق الكوني؛ ولكنه غير محكوم بقوانين مختلفة للطبيعة. أما إذا ما كان ثمة تدفق متجرد للزمن أم لا، فهي مسألة تتعلق بماهية القوانين التي تطبق على عالم ما، وليست مسألة مكان وجود الجزيئات المختلفة للمادة؛ فليس فقط أن الحقائق المتعلقة بتوزيع المادة والحركة تبدو شديدة الضعف بحيث لا يمكنها أن تحدث تدفق الزمن، وإنما التأكد مما إذا كانت هذه الحقائق صحيحة؛ ومن ثم التأكد مما إذا كنا نعيش في عالم جودل أم لا؛ هو أيضا مسألة شائكة جدا. فهذا يحتاج إلى قياسات معقدة بواسطة تلسكوبات قوية، بالإضافة إلى سلاسل شديدة التعقيد من الاستنتاجات النظرية؛ ومن ثم فإن إيماني بأن الزمن يتدفق، وأن كعكة عيد الميلاد التي سأصنعها غدا لن تكون موجودة إلا غدا، سيعتمد على نتيجة هذه الملاحظات المعقدة للغاية. ولكن يبدو أن خطبا ما قد حدث هنا؛ إذ يبدو أن هذا يعني ضمنا أن تدفق الزمن من الأشياء التي يستحيل إثبات وجودها بالتجربة المباشرة. أيضا نوع الزمن الذي نستطيع ضمان وجوده بهذه الملاحظات ليس له أي صلة بالزمن كما يبدو لنا: فسواء أكان موجودا أم لا، سيظل العالم كما هو، ولن يكون من الواضح حتى السبب وراء مجرد رغبتنا في إطلاق اسم الزمن عليه، بدلا من أن نقول «الطريقة التي يتم بها توزيع المادة والحركة على نطاق كوني.»
إن قوانين الطبيعة لا يمكنها إثبات تدفق الزمن (لأنها واحدة في كون جودل وفي كوننا، والزمن لا يتدفق إلا في كون جودل)، وكذلك لا يستطيع مجرد ظهور الزمن إثباته (لأن هذا لا يتغير في العالمين)، وكذلك لا يستطيع توزيع الحركة والمادة إثباته (لأن هذه الأشياء غير موجودة بالمرة في تجربتنا المباشرة للزمن)؛ من ثم علينا أن نستنتج، وفقا لما يراه جودل، أن تدفق الزمن غير موجود؛ فوجود الزمن المتدفق والواقع المتزايد تدريجيا وهم.
إلى جانب تدفق الزمن، ثمة سمات زمنية أخرى تبدو شديدة الوضوح للوهلة الأولى، ولكن عند تأملها عن قرب ندرك أنها أبعد ما تكون عن الوضوح؛ فالزمن ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الماضي والحاضر والمستقبل. فإذا سألنا أنفسنا عما إذا كان الزمن واقعا أم لا، فعلينا أن نحدد أولا أي قسم من أقسام الزمن نعني (إذا كان ثمة قسم).
شكل 4-2: النظريات الثلاث للزمن، الحاضر مميز باللون الرمادي الفاتح .
هناك ثلاثة احتمالات كثيرا ما تثار؛ وجميعها يتفق على أن الحاضر واقع. تزعم نظرية الكون المتنامي، التي ناقشناها للتو، أن المستقبل ليس واقعا، وتفترض تدفق الزمن إلى مستقبل مفتوح. أما نظرية الكون الجامد التي تؤيدها آراء جودل المذكورة للتو، فتزعم أن أقسام الزمن الثلاثة جميعها واقعية، وأن فكرة الزمن المتدفق والواقع المتنامي ما هي إلا وهم. ثمة تشبيه قد يساعدنا في توضيح هذه الفكرة؛ فالزمن الحاضر المتدفق الذي يعد جزءا من نظرية الكون المتنامي يشبه تدفق مقطوعة موسيقية أثناء عزفها. ووضع هذه المقطوعة الموسيقية في سيمفونية كاملة؛ بحيث تكون جميع أجزائها موجودة في الوقت نفسه، يتوافق مع التمثيل الهندسي للزمن داخل الإطار الزمكاني لنظرية الكون الجامد. (سوف نناقش لاحقا الاحتمال الأخير؛ ألا وهو فلسفة الحاضر، التي ترى أن الحاضر هو الزمن الوحيد الواقعي.)
يبدو أن نظرية الكون المتنامي تعكس وجهة النظر التي يتبناها معظم الناس؛ فهم يرون أن الماضي واقعي (على الأقل إلى حد ما)، ويسلمون بأن الحاضر أيضا واقعي؛ أما المستقبل فهو غير محدد؛ ومن ثم فهو غير واقعي. ويعتمد مفهوم الواقع المستخدم هنا على تعريف جونسون وتعريف نهاية العالم للواقع؛ فالماضي والحاضر لا يمكن اختلاقهما؛ إذ إن الماضي قد ولى كاملا ولا يمكن تغييره، أما الحاضر فعلينا أن نتعامل معه كما هو، وليس كما نتمناه. أما المستقبل فهو الوحيد المفتوح غير المحدد، وهو أيضا الوحيد الذي نستطيع المشاركة في تشكيله بشكل أو بآخر وفقا لإرادتنا. والماضي أيضا واقعي وفقا لتعريف نهاية العالم؛ فحتى إذا اختفت كل العقول الواعية الآن من العالم، فسيظل الماضي هو الماضي.
فيلكس إبرتي، «النجوم والأرض: أو أفكار حول المكان والزمان والأبدية» (1854)
في حالة وجود راصد في كوكبة القنطور، فإنه لن يستطيع بالطبع رؤية النصف الشمالي للكرة الأرضية؛ لأن هذه الكوكبة لا ترتفع فوق أفقنا إطلاقا. ولكن إذا افترضنا أنه استطاع ذلك، وأن راصدا كان يقف في هذا النجم وكان يتمتع ببصر قوي مكنه من تمييز جميع التفاصيل على كوكبنا الأرضي الصغير، تضيء في وهن بضوئها المستعار، فإن هذا الراصد سيرى، في عام 1843، التنوير العام الذي في عام 1840 جعل مدن بلدنا تشرق بضوء النهار خلال ظلام الليل. أما الراصد الواقف في نجم النسر الواقع فسوف يرى ما حدث لنا منذ اثني عشر عاما؛ وهكذا، إلى أن يأتي شخص يقطن في نجم بقوة إضاءة 12، إذا تخيلنا لديه قوة بصر غير محدودة، يتأمل الأرض فيراها كما كانت منذ أربعة آلاف سنة، عند إنشاء ممفيس، وتجول الأب إبراهيم على سطح الأرض.
في النجوم الثابتة العظيمة العدد المتناثرة في أرجاء الكون، الطافية على بعد من خمسة عشر إلى عشرين مليار ميل من كوكبنا - حاسبة أي عدد مفترض من السنين في الماضي - يمكننا بلا شك أن نجد نجما يرى الحقب الماضية لكوكب الأرض وكأنها تحدث الآن، أو تتفق مع الزمن تقريبا بحيث لا يضطر الراصد للانتظار فترة طويلة لرؤية حالتها في اللحظة المطلوبة. [...]
وتظل صور كل الأعمال الخافية التي جرت موجودة على الدوام على نحو ثابت لا يمحى، تنتقل من إحدى الشموس إلى التي تليها. فبقعة الدماء الناتجة عن جريمة القتل لا تظل باقية على أرضية الغرفة دون أن تنمحي وحسب، بل تنتقل صورة الفعل أكثر وأكثر إلى السماء الفسيحة.
شكل 4-3: تجربة الاختيار المتأخر.
يبدو أن واقعية الماضي نابعة في الأساس وبشكل مباشر من عدم قدرتنا على تغيير أي جزء منه. فما حدث قد حدث بطريقة معينة، وسيظل إلى الأبد على الحال الذي حدث به. والشيء الذي يشعل كل هذا القدر من المقاومة لمقاصدنا ورغباتنا لابد أن يوجد بشكل مستقل عنا. ومع ذلك، من الطريف أن نلاحظ (كما أشار برتراند راسل) أنه من منظورنا، ربما يكون العالم قد خلق منذ خمس دقائق، بكل ما فيه من حفريات وبقايا أثرية ومحفوظات ومكتبات ومبان وذكريات؛ ومن ثم كنا سنحكي القصص نفسها التي نحكيها الآن عن الماضي، ولكنها لم تكن لتتعدى كونها مجرد قصص، فالأزمنة الماضية التي تشير إليها هذه القصص غير موجودة في الواقع. فنحن عندما نتحدث عن الماضي، إنما نتحدث على نحو ملتف عن الحاضر، عن الحفريات والبقايا التي نعثر عليها الآن، عن الوثائق التي نقرؤها الآن والذكريات التي تطرأ على عقولنا الآن.
اقترح المؤرخون اقتراحات أقل تطرفا تنكر واقعية جزء من الماضي، ومن بينها فرضية الزمن الشبحي التي تزعم أن السنوات ما بين 614 و911 ليست سوى وهم اخترعه مؤرخو العصور الوسطى المتأخرين. وطبقا لهذه الرؤية، لا بد من تأريخ كل المباني أو المصنوعات البشرية التي ترجع لهذه الفترة إلى أزمنة مختلفة، وأن شارلمان (742-814) كان شخصية خيالية، وعام 2000 كان في الواقع عام 1703. وبقدر الغرابة والخيالية التي تتسم بها هذه الأفكار، فإنها لا تزال مألوفة نسبيا عند مقارنتها بنتائج تجربة فكرية شهيرة في فيزياء الكم.
في «تجربة الاختيار المتأخر» الشهيرة، يتم إطلاق كائن كمي على حاجز به شقين. إذا سلك الكائن سلوك الجسيم، فسوف يمر عبر أحد الشقين؛ أما إذا سلك سلوك الموجة، فسوف يظهر نمط تداخل الموجات المعتاد على الجانب الآخر من الحاجز. ويوجد خلف الحاجز آلية اكتشاف مثل الشاشة الفسفورية، وخلف هذه الشاشة يوجد تلسكوبين، كل منهما موجه إلى أحد الشقين. فإذا كانت الشاشة في مكانها، فسوف تتراكم الكائنات الكمية بما يتوافق مع نمط التداخل؛ أما إذا أزيلت من مكانها، فسوف يتم رصد الكائنات بالتلسكوبين لمعرفة إذا ما كانت قد جاءت من خلال الشق الأيسر أم الأيمن. حتى الآن، لا يوجد شيء غريب في التجربة.
تصبح الأمور غريبة بعض الشيء عندما نقرر إذا ما كنا سنترك الشاشة في مكانها، أم سنزيلها ونعتمد على التلسكوبين فقط بعد أن يمر الكائن الكمي عبر الحاجز. بحلول هذا الوقت، سنكون قد حددنا إذا ما كان الكائن الكمي قد عبر من أحد الشقين (كجسيم) أم من كليهما مرة واحدة (كموجة)؛ من ثم سيكون هناك احتمال أن يمر الكائن الكمي عبر الشقين في الوقت ذاته، ونختار آلية الاكتشاف المعتمدة على التلسكوبين؛ ومن ثم نراقب الكائن عبر التلسكوبين. ومع ذلك فهذا الموقف لا يحدث مطلقا.
يمكن جعل هذه النتيجة أكثر خطورة وجدية إذا استبدلنا مجرة بعيدة بالحاجز ذي الشقين. تملك المجرات القدرة على لي الزمكان، بحيث ينحرف شعاع الضوء بسببها، نظرا لضخامتها الشديدة. يمكننا الآن تخيل وضع مثل هذه المجرة بيننا وبين مصدر الضوء. ستنعطف الفوتونات المنبعثة من هذا المصدر وتلتف حول المجرة إما من اليسار وإما من اليمين وإما من كلا الاتجاهين على نحو متزامن. مرة أخرى، يبدو أن السبيل الذي ستختاره الفوتونات يعتمد على جهاز القياس الذي نختاره، إلا أن الضوء الذي ننظر إليه يبلغ عمره مليارات السنوات، وهو بالتأكيد قد قرر السبيل الذي سيسلكه قبل وجود البشر على الأرض بأمد طويل. يبدو أن هذه التجربة تعني ضمنا أن القرار الذي نتخذه في الحاضر (بإزالة الشاشة أو عدم إزالتها) يحدد الأحداث التي حدثت في الماضي (في أي اتجاه ذهب الفوتون). ومن المستحيل بالتأكيد أن نستطيع ببساطة تغيير أي حقيقة في الماضي بهذه الطريقة (على سبيل المثال، نحن لا نستطيع الآن أن نجعل الفوتون يتجه إلى اليسار). ولكن حتى إذا كانت توجد بعض جوانب الماضي التي نستطيع تغييرها في الحاضر، فإن الآراء المؤيدة لواقعية الماضي على أساس طبيعته غير القابلة للتغير والمقاومة التي يبديها لرغباتنا تبدو آراء متداعية إلى حد بعيد.
في حين تعد النظريات التي تنكر واقعية الماضي مخالفة لنظرتنا المعتادة للعالم، فإن عدم واقعية المستقبل أمر لا يثير الجدل بالمرة بالنسبة لأغلبية الناس. فإذا كان المستقبل واقعيا، ولا يتأثر بما نفعله في الحاضر، فإن أفعالنا ستكون غير ذات جدوى. ولعل مؤيدي نظرية الكون الجامد يجدون صعوبة في الدفاع عن فكرة الإرادة الحرة. فوفقا لهذه الرؤية، الانتقال إلى المستقبل سيشبه المرور عبر سلسلة من الغرف المظلمة حاملا شمعة؛ فعندما يضيء نور الحاضر هذه الغرف تظهر لأعيننا الأشياء التي كانت مختفية. ومع ذلك، ليس ثمة شك في أن هذه الأشياء كانت موجودة طوال الوقت.
نظرا للمعقولية البديهية لفكرة عدم واقعية المستقبل، فإنه من المدهش أن نجد رأيا يؤيد واقعيته على أساس نظرية أخرى مقبولة على نطاق واسع؛ ألا وهي نظرية النسبية.
لقد وضح لنا مثال المرايا الموضوعة في عربة السكة الحديدية المتحركة السالف الذكر أن أي حدثين متزامنين بالنسبة لأي راصد ليسا بالضرورة كذلك بالنسبة لراصد آخر يتحرك بالنسبة للأول. فإذا كانت المسافات في التجربة كبيرة، حتى الفروق الضئيلة في السرعة النسبية بين الراصدين يمكن أن تؤدي إلى فقد التزامن. وتستغل هذه الحقيقة في مفارقة مجرة المرأة المسلسلة.
تبعد مجرة المرأة المسلسلة نحو 2,5 مليون سنة ضوئية عن الأرض. وإذا أردنا معرفة أي الأحداث على مجرة المرأة المسلسلة متزامن مع أي الأحداث على الأرض (على سبيل المثال، مع انتقال الساعة الرقمية من 59 : 59 : 11 إلى 00 : 00 : 12)، فعلينا أن نكون شديدي الحذر فيما يتعلق بسرعة تحرك الساعة؛ فالأحداث التي تقع على مجرة المرأة المسلسلة بالتزامن مع حركة ساعة اليد الخاصة بي من الثانية السابقة لانتصاف النهار إلى منتصف النهار بالضبط، والأحداث التي تقع بالتزامن مع حركة ساعة يد صديقي، سيفصل بينها نحو يوم كامل على كوكب الأرض، في حالة كون صديقي يسير الهوينى بسرعة قدم واحد في الثانية.
هنا تبدأ الأمور في اتخاذ منحى غريب. افترض أن كائنات فضائية شريرة تقطن مجرة المرأة المسلسلة قررت شن هجوم على كوكب الأرض، وقد توصلت هذه الكائنات إلى قرارها في الوقت نفسه لتحرك ساعة يدي إلى منتصف النهار. أستطيع رؤية صديقي يسير على مهل في المرج الأخضر، وبوصول ساعته إلى منتصف النهار، تكون الأحداث على مجرة المرأة المسلسلة قد تقدمت بنحو يوم أرضي: فالأسطول المجري في طريقه لتدمير الأرض. صديقي وأنا كلانا واقع، ومما لا شك فيه أن الحدث المتزامن مع حدث واقعي لا بد أن يكون واقعيا؛ من ثم فإن كلا الحدثين الواقعين على مجرة المرأة المسلسلة لا بد أن يكونا واقعيين، ولكن أحدهما يقع بعد الآخر بحوالي يوم أرضي؛ إذن يمكننا قول إن الأحداث التي تقع في المستقبل يمكن أن تكون واقعية، تماما كالتي تقع في الحاضر.
يمكننا تعميم هذه النقطة بإثبات أنه بالنسبة لأي حدث سواء أكان ماضيا أم حاضرا أم مستقبليا، يمكننا تحديد موقع ما بحيث إذا كان شخص يسير بسرعة معينة في هذا الموقع، فإن هذا الحدث سيكون متزامنا معه. قد لا يكون هناك فعليا وجود لمثل هذا الشخص، ولكن يظل من الغريب أن يكون تحديد إذا ما كان حدث مستقبلي ما حدثا واقعيا أم لا معتمدا على من يتحرك، وأين في الكون، وبأي سرعة!
يبدو أن لدينا بديلين متماثلين في الغرابة؛ الأول: أن نؤمن بأن ثمة أجزاء في المستقبل محددة سابقا بشكل ثابت، وليست مجرد تركيبات مائعة من الاحتمالات التي يمكن تشكيلها بواسطة أفعالنا. وهذه هي الأجزاء التي يوجد فيها إطار مرجعي لراصد في مكان ما في الكون بحيث يكون هذا الجزء من المستقبل متزامنا معه. أما الثاني: فهو الإيمان بأن التزامن ليس الشيء الوحيد الذي يتوقف على الراصد، وإنما الواقع هو الآخر يتوقف على الراصد؛ فالأسطول الزاحف من مجرة المرأة المسلسلة واقع بالنسبة لصديقي (لأنه متزامن معه)، وصديقي واقع بالنسبة لي، ولكن الأسطول الزاحف ليس واقعا بالنسبة لي؛ وذلك لأنه يقع في مستقبلي. ليس هناك واقع حاضر مشترك موضوعي مستقل عن الراصد، ولكن هناك واقع بالنسبة لي وآخر بالنسبة لك، وهكذا. ومن الممكن أن تتداخل هذه الحقائق الذاتية. (الأسطول الزاحف من مجرة المرأة المسلسلة واقع بالنسبة لصديقي وهو أيضا واقع بالنسبة لنفسه. والصديق فقط وليس الأسطول واقع بالنسبة لي.) إذن فالواقع الذي نعيش فيه كلنا ليس هو كل الواقع، ولكنه فقط الجزء الصغير من الواقع الذي نستطيع التفاعل فيه بعضنا مع بعض؛ نظرا لأن كل الكائنات والأحداث في هذا الجزء واقعية بالنسبة لكل واحد فينا.
القديس أوغسطين، «الاعترافات»، الكتاب الحادي عشر
ولكن الشيء المؤكد والواضح الآن هو أنه لا توجد أشياء مستقبلية ولا ماضية؛ فليس من المناسب أن نقول إن هناك ثلاثة أقسام للزمن: ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ولكن ربما يكون من الملائم أن نقول إن هناك ثلاثة أقسام للزمن: حاضرا للأشياء الماضية، وحاضرا للأشياء الحاضرة، وحاضرا للأشياء المستقبلية. وهذه الأقسام توجد بطريقة أو بأخرى في الروح، وإلا فما كنت رأيتها: حاضر للأشياء الماضية، الذاكرة؛ وحاضر للأشياء الحاضرة، المرأى ؛ وحاضر للأشياء المستقبلية، التوقع. وإذا كان من المسموح لنا أن نتحدث عن هذه الأشياء، فأنا أرى الأقسام الثلاثة للزمن، وأثق أن هناك ثلاثة.
وأخيرا، ماذا عن الحاضر؟ من بين أقسام الزمن الثلاثة، يبدو أن هذا هو الأحق بأن يوصف بأنه واقعي؛ فعلى عكس الماضي والمستقبل، الحاضر هو الذي نعيش فيه. إنه أيضا ما نتشاركه مع جميع المخلوقات الأخرى، جميعنا في أماكن مختلفة، ولكن في الزمن نفسه. وكما يبين القديس أوغسطين، الواقع الوحيد في الماضي هو الآثار التي خلفها في الحاضر، والواقع الوحيد في المستقبل هي توقعاتنا بناء على الحاضر.
إلا أنه على الرغم من الثبات الظاهري الذي يتسم به الحاضر، فهو يبدو أكثر صعوبة في الفهم بكثير من الماضي أو المستقبل. فمن الواضح أن كليهما قد استمرا (أو سيستمران) لزمن طويل، ولكن إلى متى يستمر الحاضر؟ مهما قصرت المدة التي نحددها، يمكننا تمييز المزيد من الأجزاء المؤقتة في هذه المدة، ومن بين هذه الأجزاء لا يستحق أن نطلق لفظ «الحاضر» إلا على الأجزاء المتوسطة. ولكن إذا واصلنا تقسيم الوقت بهذه الطريقة، فسوف يتقلص الحاضر إلى محض شفرة موسى، محاطة بالماضي من ناحية والمستقبل من ناحية أخرى. وهذا «الحاضر» الجديد قصير للغاية لدرجة أننا نتساءل كيف يمكن أن يحدث فيه أي شيء؟!
عند هذه النقطة، من المفيد أن نفرق بين اللحظة الآنية الذاتية، أو النفسية، وبين الحاضر الواقعي. يمكننا ببساطة تحديد مدة استمرار اللحظة الآنية الذاتية بتجربة بندول الإيقاع. إذا ضبطنا البندول على 120 دقة في الدقيقة (بحيث نسمع دقتين في الثانية)، يمكننا تشكيل مجموعات من هذه الدقات بإعطاء وزن ذاتي إضافي لكل دقة ثانية نسمعها. ويمكننا تشكيل مجموعات أكبر بإعطاء مثل هذا الوزن لكل دقة ثالثة، أو كل دقة رابعة، وهكذا. ولكن هذه القدرة على تشكيل مجموعات تتبدد في مكان ما. ومن السهل أن نرى هذا عندما نقلل السرعة إلى 40 دقة في الدقيقة. الآن هناك فارق 1,5 ثانية بين كل دقة ودقة، وأصبح من الصعب بالفعل تشكيل مجموعات من دقتين. بشكل عام ، البشر غير قادرين على تشكيل مجموعات دقات مجربة ذاتيا تستمر أكثر من ثلاث ثوان. (إذا حاولت إلقاء الشعر باستخدام ساعة توقيف، فسوف تدرك أيضا أن مدة استمرار إلقاء معظم أبيات الشعر أقل من ثلاث ثوان.) ولذا فإنه من المنطقي أن نقدر مدة استمرار الحاضر الذاتي بحوالي ثلاث ثوان.
هكذا يمكننا أن نقول إن الحاضر الذاتي أو النفسي ليس شفرة موسى، وإنما هو سرج فرس له عرض خاص به. ولكن الحاضر النفسي، بالطبع، لا يشبه الحاضر الواقعي. ومع أن الحاضر النفسي يكون أفقنا الزمني، ويشمل كل الأحداث التي نعتبر أنها تحدث على نحو متزامن وتحدث الآن، إلا أنه ما زال بالإمكان تقسيمه مرة أخرى؛ فالشخص الذي يسير بسرعة عادية يعبر مسافة حوالي أربعة أمتار أثناء الحاضر الذاتي. وعندما يصل إلى نقطة المنتصف، فإن المترين الأخيرين اللذين سارهما سيقعان في جزء الحاضر النفسي الذي يعتبر ماضيا، في حين أن المترين التاليين سيقعان في الجزء الذي يعتبر مستقبلا. فالحاضر الذاتي أو الظاهر ممتد زمنيا، ويمكن تقسيمه إلى أجزاء سابقة ولاحقة. من ناحية أخرى، فالحاضر الفعلي لا ينطوي على أجزاء وليس له مدة معينة.
عندما نتساءل عما إذا كان الحاضر واقعيا، فإننا لا نريد معرفة إذا ما كان واقعيا وفقا لتعريفات «الواقع» الثلاثة الأولى التي يمكن وصفها بأنها تعريفات «سهلة». وجميعنا نعرف أن الحاضر يظهر لنا ويظهر أيضا لأغلب الناس؛ ولذا فإنه واقع لا يقبل الشك وفقا لتعريف فيلم «ماتريكس» ولتعريف رواية «1984». ولكن ماذا عن تعريفي نهاية العالم والسلحفاة «الصعبين»؟
تكمن الصعوبة التي تواجهنا عند الدفاع عن كون اللحظة الآنية واقعا أم لا وفقا لهذين التعريفين في أنها لا تظهر في النظريات العلمية على الإطلاق؛ فعلى الرغم من أن الحاضر مهم للغاية بالنسبة للطريقة التي يظهر بها العالم لنا (لأنه وقت ظهور العالم لنا)، فإنه ليس واقعيا بأي شكل من الأشكال وفقا لتعريف نهاية العالم للواقع. فلو لم يكن هناك كائنات واعية، لما كان هناك «الآن». ولن يستطيع أي وصف علمي كامل للكون أن يخبرنا متى يكون الآن. ولن يمنح اللحظة الآنية أي سمة خاصة لا تشاركها فيها أية لحظات زمنية أخرى.
ثمة صعوبة أخرى؛ وهي أنه على الرغم من أهميتها الذاتية، فإننا لا نشعر مطلقا بمرورنا باللحظة الآنية. تستغرق معالجة المعلومات العصبية وقتا؛ فإذا شعرت بدفء النار بيدك، يجب أن ينتقل هذا الشعور من جزء معين من بشرتك عبر مسارات عصبية متعددة خلال ذراعك، وجسمك، إلى أن يصل في النهاية إلى الدماغ. وبمجرد أن تصل معلومة درجة الحرارة إلى هناك، فإنها تندمج مع العديد من المعلومات الأخرى (التي ربما تكون قد دخلت عبر أعضاء الحواس الخاصة بك في أزمنة مختلفة)، مثل منظر اللهب أو رائحة الخشب المحترق. هذا التمثيل المتماسك المعقد الذي ينطوي على كائنات أو أحداث وخصائصها سيكون هو تمثيل النار. ومع ذلك بمجرد أن تتاح لنا هذه المعلومة معرفيا، فإن اللحظة التي حدث فيها الحدث وكل ما حدث في هذه اللحظة يعتبر بالفعل شيئا من الماضي. وعندما نحاول التواصل مع اللحظة الآنية، نواجه الموقف نفسه للشخص الذي ينظر إلى نجم بعيد، وما زال نور هذا النجم يصل إلى عينيه، في حين أن النجم نفسه قد اختفى من الوجود. من الواضح أن النطاق الزمني المعني هنا أقصر بكثير، ولكن النقطة الأساسية تظل كما هي.
بحث عالم الفسيولوجيا الأمريكي بنجامين ليبت الفترة الفاصلة المنقضية إلى أن يبني الدماغ تمثيلا واعيا للحاضر في مجموعة من التجارب بدأت في الخمسينيات من القرن العشرين. وكانت تجارب ليبت مهمة بشكل خاص لأنها اشتملت على تفاعل مباشر مع دماغ الشخص الخاضع للتجربة. هناك أنواع معينة من الجراحات يجب إجراؤها أثناء وعي المريض وبتخديره موضعيا فحسب. بهذه الطريقة يستطيع الجراح تحفيز مناطق معينة على سطح الدماغ باستخدام تيار كهربي ضعيف. وبمراقبة ردود أفعال المريض الجسدية يستطيع الجراح إنتاج خريطة لسطح الدماغ، ويحرص على تجنب جميع المناطق الحيوية أثناء الجراحة التالية. أثناء رسم هذه الخريطة، من الممكن في بعض الأحيان إجراء تجارب إضافية لا ينتج عنها أي مخاطر جديدة (على افتراض موافقة المريض على إجراء هذه التجارب).
أجرى ليبت التجربة بتحفيز المناطق من الدماغ التي تعالج المعلومات المرتبطة بحاسة اللمس الصادرة من البشرة. وبتوصيل هذه المناطق بتيار كهربي، يشعر المريض بشعور ما، «يوجهه» بعد ذلك نحو الجزء من الجسم الذي تأتي منه عادة المعلومات الحسية المعالجة بهذا الجزء من الدماغ؛ ومن ثم رغم تحفيز دماغه، فإن المريض يشعر بوخز خفيف على بشرة يده، وليس على سطح دماغه.
ومن النتائج المهمة التي اكتشفها ليبت أنه ينبغي تسليط الحافز الكهربي لفترة طويلة نسبيا (حوالي نصف ثانية) حتى يشعر به المريض. عند تدقيق النظر في العمليات الإدراكية، نجد أن 500 ملي ثانية فترة طويلة للغاية. (لأغراض المقارنة، تبلغ «مدة الإرسال» اللازمة لنقل نبضة كهربية من اليد إلى الدماغ حوالي 20 ملي ثانية فقط.) لم تترك عمليات التحفيز الكهربي الأقصر أي تأثير على الإطلاق، حتى في حالة جعل النبضات أكثر قوة. وجدير بالذكر أن هذه المهلة الإدراكية التي يبلغ طولها نصف ثانية لا تعني ضمنا أن كل تفاعلاتنا مع العالم تتأخر بمقدار نصف ثانية؛ فنحن قادرون على الإتيان برد فعل بصورة أسرع من ذلك. (على سبيل المثال، نحن نستطيع تمييز الأصوات في وقت قصير للغاية يصل إلى ثلاث ملي ثوان.) إلا أن معظم ردود أفعالنا السريعة لا تنطوي على وعي بالشيء الذي نصدر رد فعلنا تجاهه. أما فيما يتعلق بالإدراك الواعي للعالم، فإن مدة 500 ملي ثانية تبدو ضرورية ليصبح الشعور واعيا. إذن فالاكتشاف غير الواعي الذي يقوم به الدماغ ربما يكون أسرع، ولكن الوعي يحتاج إلى مزيد من الوقت.
يمكن مقارنة هذا التأخير البالغ نصف ثانية بالفاصل الزمني المعتاد عند إذاعة البرامج التليفزيونية «المباشرة» (والذي يمكن أن يتراوح بين عدة ثوان وعدة دقائق). يتيح هذا الفاصل الفرصة لإجراء عمليات المونتاج أو الرقابة في اللحظة الأخيرة بعد تصوير حدث ما، ولكن قبل إذاعته. (كان هذا الفاصل غائبا بسبب خطأ تقني في الحفل الذي يقام في مباراة سوبر باول عام 2004.) يمكن أن يحدث شيء مشابه لذلك في الدماغ ؛ ففي الخمسمائة ملي ثانية التي يستغرقها إحساس البشرة ليصبح واعيا، من الممكن «إجراء عملية حذف» له، بحيث لا يدخل حيز خبرتك على الإطلاق. عرض ليبت مرضاه لإحساسين؛ أحدهما تسبب فيه تحفيز البشرة، والآخر تسبب فيه تحفيز الدماغ. ويمكن تمييز الإحساسين بسهولة عند الشعور بهما على نحو منفصل. الغريب في الأمر أن تحفيز الدماغ إذا حدث بعد تحفيز البشرة بحوالي 200 ملي ثانية، فإن الشخص لن يشعر بتحفيز البشرة على الإطلاق.
شكل 4-4: إعداد تجربة ليبت.
تمكن تحفيز الدماغ من حجب إحساس البشرة؛ مما منع الإحساس من الدخول إلى حيز الوعي. والشيء الوحيد الذي جعل هذا ممكنا هو أن إدراكنا الحسي لا يتصل بشكل مباشر مع الحاضر؛ ففي الوقت الذي نصبح فيه واعين بإحساس ما، يكون عمر هذا الإحساس نصف ثانية، ونظرا لتأخير عملية الإدراك الحسي، يصبح من الممكن التدخل في أي إشارة وصلت بالفعل إلى دماغنا، وجعلها تختفي قبل أن تدخل إلى حيز الوعي. في حالة البرامج التليفزيونية المعروضة على الهواء مباشرة، فإن وجود الفاصل الزمني الذي يخرج خبرتنا من حيز الحاضر يجعلنا نشك في دقة العرض؛ ففكرة أن إدراكنا الحسي لا يتصل بشكل مباشر بالحاضر، وإنما يتيح وقتا وفيرا يمكن أن تحدث فيه عمليات تحرير داخلية، ربما تجعلنا نشك بالمثل في حقيقة تمثيل الواقع كما يتراءى لنا الآن.
ومما قد يعزز هذا الشك إحدى الحيل المدهشة التي يستطيع الدماغ أن يقوم بها. مرة أخرى، عرض ليبت المريض لحافزين مختلفين؛ أحدهما سلط بشكل مباشر على الدماغ، والآخر سلط على البشرة. وتم تسليط الحافز على الدماغ أولا، ثم بعد حوالي 200 ملي ثانية تم تسليط الحافز الآخر على البشرة. كما هو متوقع، شعر المريض بالحافز على الدماغ بعد حوالي 500 ملي ثانية. وقد نفترض أن المريض سيشعر بالحافز على البشرة بعد 200 + 500 = 700 ملي ثانية. ولكن المدهش أن المريض ذكر أنه شعر بالحافز على البشرة قبل الحافز على المخ، بعد حوالي 200 ملي ثانية؛ أي بعد تسليط الحافز على البشرة مباشرة تقريبا.
كيف يمكن تفسير عملية انعكاس الترتيب الزمني، التي قلبت الترتيب الحقيقي (الدماغ-البشرة) إلى الترتيب النفسي (البشرة-الدماغ)؟ بالطبع، الحافز المسلط على البشرة يتعرض مثله مثل الحافز المسلط على الدماغ للفاصل الزمني البالغ نصف ثانية قبل أن يصل إلى الوعي؛ ولذا فإن التفسير الوحيد لهذه النتيجة المدهشة هو أن الدماغ يحدد زمنا سابقا لبداية التجربة الواعية للحافز على البشرة؛ فبدلا من أن يشعر به المريض في توقيته الحقيقي بعد 700 ملي ثانية، فإنه يشعر به ظاهريا بعد 200 ملي ثانية؛ أي بعد تحفيز البشرة مباشرة. ومثلما يغير فني الرقابة على البرامج التليفزيونية ترتيب مشهدين في أي عرض مباشر، يخدعنا دماغنا بشأن الحدث الذي وقع أولا. وهكذا، ليس هناك أي ضمان لأن الترتيب الذي ندرك به الأحداث يتفق فعليا مع ترتيب وقوع الأحداث.
لعلنا نعتبر تأخير إدراكنا الحسي عن الحاضر شيئا مزعجا، ولكنه ليس أمرا ذا أهمية خاصة، وليس له سوى نتائج عملية قليلة. إلا أن هذا الأمر قد يكون له تداعيات مزعجة للغاية عند اقترانه برؤية معينة (ومنتشرة) لواقع أقسام الزمن الثلاثة. تلك هي الرؤية التي تتلخص في أن الحاضر وحده هو الواقع، وليس الماضي أو المستقبل. ولا تعتبر هذه الرؤية، التي تعرف باسم فلسفة الحاضر، اللحظة الآنية لحظة مركزية في التجربة فحسب، ولكنها أيضا تعتبرها لحظة مركزية في الوجود. فليس فقط كل ما نمر به (الأحاسيس والذكريات والتوقعات) نمر به الآن، بل إن «الآن» هو الزمن الوحيد الموجود؛ فعندما نتحدث عن الماضي وعن المستقبل، نحن في الواقع نتحدث عن سمات معينة للحاضر (مثل عظام ديناصور أو التخطيط لرحلة إلى المريخ). إلا أن الماضي غير موجود على الإطلاق، ولا يكمن حتى في عالم غامض بين الوجود واللاوجود. ولكن إذا كان إدراكنا الحسي لا يربطني إلا بما حدث في الماضي فقط، إذن فأعضاء الإحساس الخاصة بنا لا تستطيع إعطاءنا أي معلومات عن العالم المحيط بنا. في الواقع، الموقف غاية في التعقيد والغموض؛ فلا شيء مما ندركه موجود؛ لأنه بحلول الوقت الذي ندرك فيه أي شيء يكون كل شيء قد اختفى، ومع ذلك كيف يمكن أن تكون تجربتنا بالكامل، والعالم كما نراه من حولنا، ما هي إلا إدراك لشيء غير موجود؟
سبق ورأينا أن أحد أقسام الزمن، بالتحديد الحاضر، لا يمكن اعتباره واقعا وفقا لأحد تعريفات الواقع المعقدة؛ فالحاضر لا يعتبر واقعا وفقا لتعريف نهاية العالم، لأنه في عالم خال من العقول، لا يمكن أن يكون هناك حاضر. والحاضر ما هو إلا نتاج نفسي، ولكنه ليس من المكونات الأساسية لعالم بلا عقول. وما لم نفترض أن العقول من مكونات العالم التي لا يمكن الاستغناء عنها، فهذا أيضا يعني ضمنا أن الحاضر لا يمكن أن يكون واقعا وفقا لتعريف السلحفاة، فليس من الممكن أن يكون أحد المكونات الأساسية في العالم. ولكن ماذا عن أقسام الزمن الأخرى: الماضي والمستقبل؟ على الرغم من أن الحاضر لا يحتل مكانا في الفيزياء، فإن الزمن تمتع لوقت طويل بمكان بارز فيها؛ ففي عالم نيوتن، الزمن هو الموحد العظيم الذي ينسق الأحداث في كل مكان في العالم، وتدفقه المستمر من الحاضر للمستقبل يحدد ترتيبها والمسافة التي تفصل بين بعضها وبعض. إلا أن تطور الفيزياء دحض هذه الرؤية للزمن تدريجيا؛ ف «سهم» الزمن الموجه من الماضي إلى المستقبل لم يعد يرى باعتباره أحد سماته الجوهرية (وإنما باعتباره نتيجة كيفية ترتيب المادة في الكون)، والتزامن يعتمد على أطر مرجعية، والزمن يستطيع التدفق بسرعات مختلفة في الأماكن المختلفة، وهكذا.
ألا تزال الفيزياء تعتبر الزمن واقعا وفقا لتعريف السلحفاة؛ بمعنى أنه جزء لا يتجزأ من الكون، ومكون رئيسي من مكونات الوجود بصرف النظر عن أي شيء آخر؟ على الرغم من عدم اتفاق الباحثين على لا زمنية العالم، فإن ثمة عددا من النظريات المهمة التي طرحت، والتي لا تفترض أن وجود الزمن أمر واقعي بالضرورة. وللدفاع عن هذه الفكرة من المفيد أن نقارن الزمن بالمال. لا أحد يرى المال مكونا جوهريا من مكونات العالم؛ فالمال ببساطة ما هو إلا أداة اخترعت لتيسير المعاملات الاقتصادية. ومع ذلك، فإن هذه المعاملات ممكنة دون وجود المال، كما يشهد نموذج اقتصاديات المقايضة. بالطريقة نفسها، الوظيفة الأساسية للزمن، وهي وصف التغيير، يمكن تأديتها دون أي إشارة للزمن، وذلك بربط العمليات الفيزيائية المتكررة مباشرة بعضها ببعض؛ فبدلا من أن نقول إن النحلة ترفرف بجناحيها 230 مرة في الثانية، وأن قلب الإنسان يدق 75 دقة في الدقيقة، وأن الأرض تلف حول نفسها مرة في اليوم، يمكننا وصف سرعة دقات القلب بأنها تكافئ 184 رفرفة، ونصف سرعة دوران الأرض بأنها تكافئ 108 ألف دقة قلب، أو أن نقول إن رفرفة جناح النحل تكافئ 0,005 دقة قلب. وبمقتضى هذه الطرق الجديدة في الوصف، اختفت جميع الإشارات للثواني والدقائق والأيام. هذه الطريقة الجديدة للحديث عن الزمن طريقة مرهقة، تماما كما أن اقتصاديات المقايضة مرهقة؛ فلكي تحصل على الأصيص الفخاري الذي تود شراءه، عليك أن تحمل معك العديد من السلع، على أمل أن تعجب إحداها بائع الأصص الفخارية لكي يمنحك الأصيص مقابلها. أليس من الأسهل بكثير أن تحمل تلك الأداة المحايدة لتخزين القيمة التي يطلق عليها «المال»، والتي تصلح للتعامل في مواقف عديدة؟ بالمثل، أليس الأسهل أن يكون لديك تلك الأداة المحايدة لتحديد التغيير، التي يطلق عليها «الزمن»، والتي يمكنها أن تعفيك من الاضطرار لقياس كل تغيير في إطار عملية دورية محددة، مثل دوران الأرض؟ يرى مؤيدو نظرية لا زمنية العالم أن خطأنا يكمن في رفع شأن المخترعات المريحة مثل المال والزمن إلى مستوى الكائنات الواقعية وفقا لتعريف نهاية العالم أو تعريف السلحفاة.
على الرغم من أنه وفقا لهذه الرؤية يعد الزمن شيئا غير واقعي، فإن واقع تغيير الأشياء ليست مدعاة للشك بأي حال من الأحوال. ثمة إنكار أكثر تطرفا لوجود الزمن في التطورات الحديثة في مجال الفيزياء. ومن الأسهل فهم المفاهيم الأساسية المتضمنة بالنظر إلى أحد تنويعات نظرية الكون الجامد الشهيرة حاليا. تخيل مجموعة من أوراق اللعب والعثة الآكلة للورق التي تحفر نفقا عبر مجموعة أوراق اللعب كلها، بداية من الورقة العليا وحتى الورقة السفلى. إذا بعثرنا أوراق اللعب، فمن الممكن لاحقا أن نعيد وضعها بترتيبها الأصلي عن طريق وضعها بعضها فوق بعض بحيث نكون النفق الأصلي. هذه هي الفكرة الشائعة لفلسفة الكون الجامد؛ إذ تمثل أوراق اللعب «اللحظات الحاضرة» المتتابعة، ويمثل النفق حركة الكائن في الفضاء الثنائي الأبعاد.
الآن تخيل مجموعة من أوراق اللعب أكبر بكثير، بحيث إنه في كل مكان محتمل يمكن أن يوجد بالورقة ثقب فيه، هناك ورقة بها ثقب في هذا المكان بالتحديد. علاوة على ذلك، يمكن أن تتكرر أوراق اللعب، فمن الممكن وجود ورقتين لديهما ثقب في المكان نفسه، وعشرة ملايين ورقة بها ثقب في مكان مختلف. فالتاريخ، وفقا لنظرية الكون الجامد الشائعة، يتكون من أوراق لعب متجاورة بها ثقوب في مواقع شديدة التشابه. ووفقا للنظرية الجديدة، لا تتمتع الأوراق المتتابعة بالضرورة بهذه السمة؛ فالأوراق المتتابعة يمكن أن تحتوي على ثقوب في أماكن مختلفة اختلافا جذريا بعضها عن بعض. وفي حين أن جميع نظريات الكون الجامد لا تعترف بتدفق الزمن، فإن النظرية الشائعة على الأقل تعطينا انطباعا بأن التاريخ يتكون من سلسلة فريدة من الحالات. فإذا غضضنا الطرف عن الزمن، فسوف نرى منحنى ممهدا عبر مجموعة اللحظات يقابل التغييرات التي يمر بها الكائن عبر الزمن. ولكن وفقا للنسخة البديلة للنظرية، نحن لا نستطيع حتى أن نجد مكافئا جامدا ثلاثي الأبعاد للتغيير الذي يحدث في عالم ثنائي الأبعاد؛ فالواقع أغرب من هذا بكثير.
تتوافق مجموعة أوراق اللعب مع الحالات الممكنة للكون بأسره في لحظة معينة. فتماما كما أن أوراق اللعب التي تحتوي على ثقوب في أماكن مختلفة تماما يمكن وضعها متجاورة في مجموعة أوراق اللعب، كذلك يمكن أن تتكون المراحل المتعاقبة للكون في الزمن من نماذج غير مترابطة من الحالات المتنوعة. وفي حين أن الرؤية الشائعة لنظرية الكون الجامد تفترض أن مراحل الكون المختلفة المتجاورة يشبه بعضها بعضا بطرق شتى، فإن النسخة البديلة للنظرية نفسها تختلف مع هذه الرؤية تماما؛ فمسار التاريخ قادر على القفز على نحو اعتباطي في حيز نسخ الكون البديلة المتباينة.
لكن كيف إذن يبدو العالم كأنه يتغير تغيرا سلسا ، حيث يشبه الحاضر الماضي القريب إلى حد بعيد. فنحن عندما نرى كرة بلياردو تتحرك، نفترض أنه في اللحظة السابقة من عمر الكون كانت نسخة الكرة السابقة إلى يسار النسخة الحالية التي نراها الآن، ولكن يمكن أن يكون الوضع مختلفا تماما وتكون اللحظة السابقة من عمر الكون مختلفة اختلافا جذريا عن اللحظة الحالية. إننا لا نتصور أن هذا ممكن لأن بعض السمات في الحاضر تعطينا انطباعا بأن اللحظة السابقة كانت على نحو معين. وليس هناك أي وسيلة لمعرفة ما حدث في اللحظة السابقة؛ ولذا فإن كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نراقب سمات أو تراكيب معينة في الحاضر ونستنتج منها ما كانت عليه اللحظة السابقة.
ولنضرب مثالا ماديا على ذلك؛ افترض أننا جمدنا دماغ راصد أثناء مشاهدته كرة بلياردو تتحرك، سوف يشفر الدماغ المعلومات المتعلقة بموقع الكرة الحالي، ولكنه سيشفر أيضا بعض المعلومات عن موقع الكرة السابق من اللحظات السابقة لمعالجة الخلايا العصبية، بهذه الطريقة توجد لقطات متعددة في الدماغ في الوقت نفسه، ويقوم الدماغ بإنتاج مشهد الكرة المتحركة من الصور المتزامنة للكرة الثابتة. وقد يكون كل هذا ممكنا «حتى إذا لم تحتو اللحظة السابقة من عمر الكون على أي كرة على الإطلاق.» إن بإمكاننا إنتاج منظر التغيير المتضمن في الزمن المتدفق، وكذلك خبرة التاريخ المتغير بسلاسة حتى في العالم الذي تعقب فيه نسخ غير مترابطة من تاريخ الكون بعضها بعضا بطريقة عشوائية؛ ومن ثم فإن طبيعة خبرتنا مع الزمن والتغيير لا يمكن أن تعتبر حجة ضد جواز هذه النسخة الخاصة من نظرية الكون الجامد.
والآن دعونا نتحدث عن الاحتمال الأخير، بدلا من أن نقول إن هناك انتقالا «سلسا» من نسخة إلى نسخة مختلفة من الكون في نظرية الكون الجامد المألوفة، أو انتقالا عشوائيا وثابا في النسخة التي تحدثنا عنها للتو من النظرية، يمكننا أن نقول إنه ليس ثمة انتقال بين النسخ المختلفة للكون، سواء كان انتقالا سلسا أو وثابا؛ فكل صور الكون اللحظية الممكنة واقعية على حد سواء. على عكس نظرية الكون الجامد، لا يمكننا أن نساوي بين الكائنات في الزمن وبين المسارات الموجودة داخل هذا الكون. وعلى عكس ما جاء في النظريات المؤيدة لفلسفة الحاضر، ليس هناك حاضر واحد واقعي، فكل الحواضر واقعية على حد سواء، وتوجد على نحو حاسم في عالم لا زمني مجرد. إن لدينا انطباعا بأننا نعيش في عالم له ماض لأن بعض تراكيب الحاضر الذي نعيشه يمكن تفسيرها كآثار للحواضر السابقة التي سبقت حاضرنا. وهو يحتوي على سمات يمكن تفسيرها كسجلات متسقة بالتبادل مع العمليات التي حدثت في الماضي وفقا لقوانين معينة من قوانين الطبيعة.
وعبارة «يمكن تفسيرها» هي عبارة حاسمة الأهمية في هذا السياق؛ نظرا لعدم وجود حاضر سابق. فإذا كان الله قد خلق العالم عام 4004 قبل الميلاد، بما فيه كل سجلات الحفريات، يمكننا تفسير هذه السجلات كدليل على وجود حيوانات تعيش في أزمنة سابقة على هذا التاريخ، ولكننا بطبيعة الحال سنكون على خطأ في هذا التفسير. في الواقع، يعد الموقف أكثر راحة في الحالة الحاضرة؛ لأنه إذا كانت كل النسخ المختلفة للكون واقعية على حد سواء، فإن الحاضر الذي يحتوي على الديناصورات واقعي تماما كالحاضر الذي نعيش فيه. ويمكننا النظر إلى حاضرنا باعتباره ينطوي على تمثيل جزئي لحاضر الديناصورات (عبر سجلات الحفريات)، وحينئذ لن تكون ادعاءاتنا حول وجود الديناصورات خاطئة بالكامل؛ فالديناصورات موجودة بالفعل، ولكن كل ما هنالك أن الحاضر الذي تسكنه ليس السلف الزمني للحاضر الذي نعيش فيه. في هذه النسخة من فلسفة الحاضر المفرطة، الزمن ليس واقعيا وفق أي معنى من معاني كلمة «الواقع» التي ذكرناها من قبل. وعلى المستوى الأكثر بدائية، العالم ثابت تماما.
الفصل الخامس
ملاحظات ختامية
تنزع الكتب الفلسفية إلى الانتهاء بملخص للآراء التي يطمح المؤلف أن يكون قد رسخها في ذهن القارئ، ولكنني لن أفعل ذلك هنا؛ ففي حين أن الصفحات السابقة تشتمل على عدد من الحجج المؤيدة لعدم واقعية الأشياء التي نراها عادة واقعية (الكائنات المادية، وأنت، واللحظة الآنية)، بالإضافة إلى واقعية أشياء غالبا ما ننظر إليها باعتبارها غير واقعية (كالمستقبل)، فإننا لا نستطيع أن نزعم أن واقعية أو زيف أي شيء قد ترسخت بشكل كامل. فلكي نقوم بهذا الزعم سنحتاج إلى مساحة تتجاوز بكثير مساحة هذا الكتاب الموجز. على سبيل المثال، كان من ضمن القضايا التي أثرناها هنا قضية واقعية النفس، وهذه القضية طالما كانت محل نقاش منذ أكثر من ألفي وخمسمائة عام في المعتقدات الفلسفية الهندية، كما أنها أنتجت قدرا ضخما من الأدبيات الفلسفية في الغرب. وكل ما استطعت فعله في الصفحات السابقة هو الإشارة إلى بعض الآراء المهمة البارزة وإعطاؤك بعض المؤشرات التي ستمكنك من استئناف التفكير في هذه القضايا بنفسك.
شكل 5-1: المخططات الفلسفية.
وبدلا من أن أقدم لك ملخصا للنتائج، ما أود القيام به هنا هو أن أقدم لك عدة مخططات فلسفية تيسر عليك تجميع الآراء المتنوعة الواردة في هذا الكتاب لصياغة رأي فلسفي متماسك. وتتكون المخططات من أشكال ثمانية ورباعية الأضلاع، مجمعة بطريقة ما تذكرنا ببلاط أرضية الحمام. تمثل الأشكال الثمانية الأضلاع العقول الواعية، والشكل الثماني المركزي تحديدا يمثلك أنت. وتمثل المربعات كل الأشياء الأخرى غير الواعية. وسوف نلون الشكل باللون الرمادي إذا كان الكائن الذي يعبر عنه الشكل واقعيا، أما إذا كان غير واقعي فسوف نتركه باللون الأبيض. وفيما يلي الآراء الفلسفية الأكثر أهمية:
المخطط (أ) يلون كل الأشكال باللون الرمادي. وفقا لهذه النظرية، التي يمكن أن نطلق عليها «العالمية»، كل الأشياء حقيقية؛ فالإلكترونات والعقول والنقود والأرقام كلها جزء لا يتجزأ من هذا العالم. وتكمن صعوبة هذه النظرية في أننا سنضطر إلى أن ننظر إلى بعض الأشياء غير الواضحة باعتبارها أشياء واقعية، مثل أخيك التوءم غير الموجود أو الملك الحالي لنيبال. وفي حين أننا نستطيع التغاضي عن ذلك في نطاق الكائنات الممكنة، فماذا يفترض أن نقول بخصوص الكائنات المستحيلة، مثل أكبر رقم أو ابن المرأة العقيمة أو تفنيد صحة مبرهنة فيرما الأخيرة؟
بالمقارنة بهذه الغابة الوجودية، نجد أن المخطط (ب) يميل إلى الاقتصار بدرجة كبيرة للغاية ؛ فالشيء الوحيد الواقعي هو أنت، ولا شيء غيرك. كانت هذه النظرية، التي يطلق عليها «نظرية الإيمان بالذات» أو «الذاتوية»، جذابة ومفزعة في الوقت نفسه بالنسبة للتنظير الفلسفي لقرون؛ جذابة لأنها تبدو غير قابلة للدحض، ومفزعة لأن مثل هذا العالم سيراه معظم الناس خانقا.
لسوء الحظ أن هذه النظرية قد لاقت اهتماما أكبر بكثير من ابنة عمها، «اللاذاتوية»، والموضحة في المخطط (ج). وفقا لنظرية اللاذاتوية، كل ما عداك واقعي، أما أنت فلا. وهي تمثل الرؤية التي قد تملكها شخصية خيالية عن عالم مؤلفها (وليس العالم الخيالي الذي تعيش فيه الشخصية) وتتعارض تماما مع إيماننا الراسخ بأننا مركز العالم، والنقطة المحورية التي تلف حولها عجلة الوجود.
يمثل المخطط (د) نظرية (أو على الأحرى مجموعة من النظريات) يمكننا أن نطلق عليها الواقعية الانتقائية. ويمكن تصنيف أغلب النظريات الفلسفية المطروحة حاليا ضمن هذه الفئة. وفقا لهذه النظرية، أنت واقع، وكذلك العديد من الأشخاص الآخرين. ولكن ليس الكل، فهناك شخصيات غير واقعية مثل لارا كروفت وشيرلوك هولمز. ومن بين الأشياء غير الواعية التي تمثلها المربعات، بعض الأشياء واقعية وبعضها غير واقعي. ويعكس ما نعتبره واقعيا وما نعتبره غير واقعي شتى النظريات المتعددة التي يمكن تصنيفها في فئة «الواقعية الانتقائية». بالنسبة لبعض النظريات، ربما تعتبر الإلكترونات واقعية، والكائنات الحسابية مثل الأرقام والدوال ليست كذلك. وبالنسبة لنظريات أخرى، الكائنات الحسابية واقعية، ولكن الكائنات المادية ليست كذلك. وبالنسبة لبعضها، الزمن واقعي؛ وبالنسبة للبعض الآخر، هو ليس كذلك.
رغم هذا التنوع، يمكننا تشكيل فئتين فرعيتين كبيرتين من جميع نظريات الواقعية الانتقائية. هاتان الفئتان ممثلتان في المخططين (ه) و(و). في الفئة الأولى من النظريات (التي سأطلق عليها نظريات «اللاعقل») كل الكائنات الواعية غير واقعية. في الأساس يتكون العالم من أشياء كالجسيمات دون الذرية أو نقاط الزمكان أو الكائنات الرياضية، ولكنه ليس مكونا من عقول أو أشخاص أو أنفس. بطبيعة الحال، ستحتاج هذه النظريات إلى تفسير كيف يمكن للكائنات الواعية أن تظهر في عالم لا عقلي. وعلى الرغم من أن نظريات اللاعقل قد أثمرت قدرا معقولا من الأفكار الثاقبة بشأن العلاقة ما بين العقلي والجسدي، فمن الإنصاف أن نقول إن هذا المشروع لم يكتمل بعد بما يرضي جميع الأطراف. من ناحية أخرى، تنص النظريات التي تندرج تحت المخطط (و) (التي أطلق عليها نظريات العقل الجماعي)، على أن الأشياء الواقعية الوحيدة هي الأشياء الواعية. فالعقل وما يفعله العقل هو فقط الواقعي، ويكمن التحدي إذن في تفسير كيف أن الأشياء التي نعرف أنها لا عقلية، مثل فنجان الشاي أو جبل إفرست، يمكن أن ننظر إليها باعتبارها جزءا من العالم الذي نعيش فيه. وبدلا من أن نشرح كيف ينبثق العقل من المادة، ينبغي أن تفسر نظريات العقل الجماعي كيف تنبثق المادة من العقل.
في المخطط الأخير (ز)، كل الأشكال بيضاء؛ بمعنى أنه وفقا لهذه النظرية ليس هناك شيء واقعي. وهذه النظرية (التي يطلق عليها «اللاواقعية») لاقت نجاحا أكبر قليلا من نظرية العدمية التي تزعم أنه لا شيء موجود. ثمة شكوك تحوم حول ما إذا كان من الممكن حتى صياغة هذه النظرية على نحو متماسك، فلو أنه لا شيء موجود؛ إذن فعدم وجود أي شيء هو شيء واقعي؛ ومن ثم فهناك حقيقة تقضي بأنه لا شيء واقعي؛ ومن ثم يكون لدينا على الأقل شيء واحد واقعي، وهو هذه الحقيقة.
إذن يوجد شيء ما، وهذا يتعارض مع الافتراض المبدئي بعدم وجود شيء. أما نظرية اللاواقعية، فهي لا تواجه تلك المشكلة. في الواقع، إذا فهمنا الواقع وفقا لتعريف السلحفاة، فسنستطيع أن نتفهم تماما أنه لا شيء حقيقي؛ لأنه لا شيء يؤسس لسلسلة علاقات الاعتماد المنحدرة (إما لأن هذه السلسلة تستمر إلى ما لا نهاية، أو لأنها تكون حلقة تكرارية كبيرة). فإذا كانت اللاواقعية واقعية، فإن هذه المقدمة القصيرة إلى الواقع كان من الممكن أن تكون أقصر بكثير جدا مما هي عليه؛ لأنه مثل «الثعابين في أيرلندا»، و«دراسة وجمع الطوابع الآشورية-البابلية»، و«تاريخ العجلة في أمريكا قبل الكولومبية»، ما «الواقع» إلا عنوان لا يندرج تحته أي شيء.
مراجع وقراءات إضافية
الفصل الأول
The series of false awakenings is described by Yves Delage in his
Le Rêve, Étude psychologique, philosophique, et littéraire ,
intelligently applied in Christopher Nolan’s 2010 film
Inception
featuring four (or five?) stacked levels of dreams.
You can calculate your own risk of death using Carnegie Mellon’s death calculator at
www.deathriskrankings.com .
The story of Muhammad’s pitcher is referred to in part 2, chapter 5 of Dostoevsky’s
The Idiot . More information on testing the duration of dream time can be found in Stephen LaBerge, 'Lucid Dreaming: Evidence and Methodology’,
Behavioral and Brain Sciences,
23(6) (2000): 962-3. The same author’s
Lucid Dreaming (Ballantine, 1985) is a more popular treatment of various aspects of lucid dreaming.
How to keep the brains of guinea-pigs alive in a jar is described in M. Mühlethaler, M. de Curtis, K. Walton, and R. Llinás, 'The Isolated and Perfused Brain of the Guinea-Pig in Vitro’,
European Journal of Neuroscience,
5(7) (2006): 915-26.
For information on brain-computer interfaces, see Steven Kotler, 'Vision Quest’,
Wired Magazine,
September 2002, pp. 94-101, and Miguel Nicolelis and John Chapin, 'Controlling Robots with the Mind’,
Scientific American,
287(4) (October 2002): 46-53.
Some discussion of the computational power of the human brain is in Nick Bostrom’s 'How Long Before Superintelligence?’,
Linguistic and
5(1) (2006): 11-30. An updated version can be found at
http://www.nickbostrom.com/superintelligence.html .
The miraculous portrait of Dean Liddell (as well as a variety of similarly spontaneously appearing portraits) is described in chapter 18 of Charles Fort’s
Wild Talents (Claude Kendall, 1932).
The main argument against the possibility of us being artificially stimulated brains goes back to Hilary
Reason, Truth, and History (Cambridge University
literature dealing with this argument has been written. A good first point of entry is David Chalmers’s paper 'The Matrix as Metaphysics’ at
http://consc.net/papers/matrix.html .
For Jorge Luis Borges’s story 'The Circular Ruins’, see
his Collected Fictions (Penguin, 1999), pp. 96-100.
For a quirky brief statement of anti-solipsism, see Robert Nozick’s 'Fiction’, chapter 19 of his
Socratic Puzzles (Harvard University Press, 1997), pp. 313-16.
An accessible introduction to cellular automata is William Poundstone’s
The Recursive Universe (William Morrow, 1984). For a popular survey of the use of simulations in science more generally, see John L. Casti,
Would-Be Worlds: How Simulation Is Changing the Frontiers of Science (Wiley, 1997).
For a discussion of whether we are living in a historical simulation, see Nick Bostrom, 'Are You Living in a Computer Simulation?’,
53(211) (2003): 243-55. The author also runs a website at
http://www.simulation-argument.com
where this paper, as well as a variety of synopses and responses are available.
The computer scientist Robert Bradbury argues that we will be able to build a Matrioshka brain, a planet-sized supercomputer that can carry out up to 10
42
computational operations per second within the next century. (More information on Matrioshka brains is at
http://www.aeiveos.com/~bradbury/MatrioshkaBrains. ) Bostrom (247) argues that we need considerably fewer, namely a maximum of 10
36
operations, to run historical simulations. The Astronomer Royal Martin Rees claims that mankind has a 50
chance of not being destroyed before the year 2100:
Our Final Century? Will the Human Race Survive the Twenty-First Century? (Heinemann, 2003).
For more information about Zhuangzi, see Angus C. Graham (tr.),
Chuang-tzu: The Seven Inner Chapters and Other Writings from the Book Chuang-tzu (Allen & Unwin, 1981). A translation of the butterfly dream story is on p. 61.
An analysis of the geometry underlying Escher’s print is provided in chapter 6 of Bruno Ernst’s
The Magic Mirror of M. C. Escher (Taschen, 2007).
الفصل الثاني
The Matrix
gave rise to a series of books on popular philosophy of variable quality. One of the better ones is William Irwin (ed.),
The Matrix and
(Open Court, 2002).
The quotation from George Orwell’s
Nineteen Eighty-Four
is in chapter 2 of part 3 (p. 249 of the Penguin edition).
For some discussion of Koro, see B. Y. Ng, 'History of Koro in Singapore’,
Singapore Medical Journal,
38(8) (August 1969): 356-7. A more general study of mass hallucinations is Robert E. Bartholomew’s
Meowing Nuns and Head-Hunting Panics: A Study of Mass Psychogenic Illnesses and Social Delusion (McFarland, 2001); chapter 8 deals specifically with Koro.
James Boswell relates Dr Johnson’s reaction to Berkeley in volume 1 of his
Life of Johnson , edited by George Birckbeck (Hill, Bigelow, Brown, 1921), p. 545. From a philosophical point of view, Johnson’s reply is woefully inadequate (nowhere does Berkeley claim that the mental nature of rocks and stones entails that they stop being hard), even though it does not lack a certain rustic charm. For what Berkeley would have replied, see his
Knowledge and Three Dialogues , edited by Howard Robinson (Oxford University Press, 1996), p. 129. A more sophisticated variant of Johnson’s definition is given in chapter 4 of David Deutsch’s
The Fabric of Reality (Penguin, 1997).
The quotation from Philip K. Dick comes from his 'How to Build a Universe That Doesn’t Fall Apart Two Days Later’, in
The Shifting Realities of
Writings (Vintage, 1996), pp. 259-80.
An interesting exploration of how the world would develop if all human beings suddenly vanished is presented by Alan Weisman in
The World Without Us (Virgin Books, 2008).
The quotation from Locke’s
An Essay Concerning Human Understanding
can be found on pp. 391-2 of the first volume of the Dover edition (New York, 1959). It is hard to find the Indian source of the cosmological theory that the earth rests on an elephant and this on a tortoise (and the tortoise perhaps on something unknown, or nothing at all, or most intriguing, on adownwards infinite column of further tortoises). The earliest mention of this theory traceable so far comes from a letter written by a Jesuit missionary in India in 1599. Up to now, I have not been able to find any Indian text describing a stacked elephant-tortoise support.
A clear discussion of Vasubandhu’s arguments about the reality of matter is in Matthew Kapstein’s 'Mereological Considerations in Vasubandhu’s “Proof of Idealism”’ reprinted in his
Reason’s Traces (Wisdom, 2001), pp. 181-204. The same issues are taken up later in Immanuel Kant’s so-called second antinomy, on which see James van Cleve, 'Reflections on Kant’s Second Antinomy’,
Synthese,
47(3) (1981): 481-94.
The best introduction to Berkeley’s thought is still his very lively set of
Three Dialogues Between Hylas and Philonous . See George Berkeley,
Knowledge and Three Dialogues,
edited by Howard Robinson (Oxford University Press, 1996), pp. 97-208.
A tear-free introduction to key quantum mechanical concepts and a clear comparison of the various interpretations of the quantum mechanical formalism can be found in Nick Herbert’s
Quantum Reality (Doubleday, 1985). A highly readable set of interviews with some of the key players in the development of quantum physics (originally produced as a BBC Radio 3 documentary) is P. C. W. Davies and J. R. Brown’s
The Ghost in the Atom (Cambridge University Press, 1986).
For an account of the buckyball, see Markus Arndt et al., 'Wave- Particle Duality of C60 Molecules’,
Nature,
401 (1999): 680-2.
The experiment involving the metal strip is described in A. D. O’Connell et al., 'Quantum Ground State and Single-Phonon Control of a Mechanical Resonator’,
Nature,
464 (2010): 697-703.
Eugene Wigner’s remarks on the role of consciousness in quantum measurement can be found in his 'Remarks on the Mind-Body Question’, included in a collection of essays entitled
Symmetries and Reflections (Indiana University Press, 1967), pp. 171-84. More details on the case of 'Wigner’s friend’, an interesting variant of the thought experiment involving Schrödinger’s cat, can be found in chapter 7 of Paul Davies,
Other Worlds: Space, Superspace and the Quantum Universe (Simon & Schuster, 1980). For more recent developments arguing for the observer-dependence of what is real, see Matteo Smerlak and Carlo Rovelli, 'Relational EPR’,
http://xxx. lanl.gov/abs/quant-ph/0604064 .
Roger Penrose describes his theories on the role of quantum phenomena in the explanation of consciousness in his
Shadows of the Mind: A Search for the Missing Science of Consciousness (Oxford University Press, 1994).
The quotation from Werner Heisenberg comes from his
(Harper & Row, 1962), p. 145.
Some more thoughts on scientific reduction can be found in W. V. Quine’s 'Things and Their Place in Theories’, in his
Theories and Things (Harvard University Press, 1981).
Stewart Shapiro’s
Thinking about Mathematics (Oxford University Press, 2000) provides an accessible introduction to the Platonic view of mathematical objects, as well as to a variety of other theories of the nature of mathematics.
For a popular yet comprehensive account of theories that conceive of the physical world as the output of a computational process, see Kevin Kelly’s 'God Is the Machine’,
Wired,
10(12) (2002).
For Bohr’s view of the non-existence of quantum objects, see the discussion in Max Jammer’s
The Philosophy of Quantum Mechanics (Wiley, 1974), pp. 203-11. This is an excellent if demanding resource for analyses of the key aspects of the interpretation of the quantum mechanical formalism.
الفصل الثالث
The curious experiences of the woman who irretrievably lost her self are described in Suzanne Segal’s very readable memoir
Collision with the Infinite: A Life Beyond the Personal Self (Blue Dove Press, 1998). For more information on Cotard’s syndrome, see chapter 8 of David Enoch and Adrian Ball,
Uncommon Psychiatric Syndromes (Hodder & Stoughton, 2001).
For an overview of the different locations of the self throughout history, see Giuseppe Santoro et al., 'The Anatomic Location of the Soul From the Heart, Through the Brain, To the Whole Body, and Beyond’,
Neurosurgery,
65(4) (2009): 633-43.
Daniel Dennett’s 'Where Am I?’ is reprinted in chapter 13 of the excellent anthology
The Mind’s I,
edited by Douglas Hofstadter and Daniel Dennett (Harvester Press, 1981). The selection given here is on pp. 218-19. In 1988, the Dutch director Piet Hoenderdos turned Dennett’s story into a film (starring Daniel Dennett as Daniel Dennett). You can watch it at
http://video.google.com/vid eoplay?docid=8576072297424860224# .
The experiment with the virtual full-body illusion is described in Thomas Metzinger’s
The Ego Tunnel: The Science of the Mind and the Myth of the Self (Basic Books, 2009), pp. 98-101.
A variant of the thought experiment of the self-destroying drug is described in Raymond Smullyan’s essay 'An Unfortunate Dualist’ in his
This Book Needs No Title (Simon & Schuster, 1980), pp. 53-5. This piece is discussed in
The Mind’s I,
pp. 384-8, where the original essay is also reprinted.
The quote from David Hume comes from his
Treatise of Human Nature (Clarendon Press, 1896), p. 252.
The quote from Descartes can be found in John Cottingham et al.,
The Philosophical Writings of Descartes,
Vol. III:
The Correspondence (Cambridge University Press, 1991), p. 143.
For more on the total flight simulator, see Thomas Metzinger’s
The Ego Tunnel: The Science of the Mind and the Myth of the Self (Basic Books, 2009), pp. 104-8.
For the text of the entire
Mahapunnama Sutta , see Bikkhu Nanamoli and Bikkhu Bodhi (tr.),
The Middle Length Discourses of the Buddha (Wisdom, 1995), pp. 887-91. For a related view of the self, see Derek Parfit’s
Reasons and
(Clarendon Press, 1984).
Jorge Luis Borges describes the work of Tsu’i Pen in his story 'The Garden of Forking Paths’. See his
Collected Fictions (Penguin, 1999), pp. 119-28.
Accessible introductions to the many worlds interpretation are in Nick Herbert’s
Quantum Reality (Doubleday, 1985), pp. 172-5, and Paul Davies’s
Other Worlds (Simon & Schuster, 1980). For an interesting discussion that seeks to dispel some of the philosophical perplexities generated by this interpretation, see chapter 13 of Michael Lockwood’s
Mind, Brain and Quantum (Basil Blackwell, 1989).
For Libet’s experiments, see Benjamin Libet et al., 'Time of Conscious Intention to Act in Relation to Onset of Cerebral Activity (Readiness Potential): The Unconscious Initiation of a Freely Voluntary Act’,
Brain,
106(3) (1983): 623-42.
Information on the influence of transcranial magnetic stimulation on intentional choice can be found in Joaquim Brasil-Neto et al., 'Focal Transcranial Magnetic Stimulation and Response Bias in a Forced-Choice Task’,
Journal of Neurology, Neurosurgery, and Psychiatry,
55 (1992): 964-6.
The experiment with the shared computer mouse is described in Daniel Wegner and Thalia Wheatley, 'Apparent Mental Causation: Sources of the Experience of Will’,
American
54 (1999): 480-92. Further discussion is in Daniel Wegner’s 'The Mind’s Best Trick: How We Experience Conscious Will’,
Trends in Cognitive Sciences,
7(2) (2003): 65-9, and Thomas Metzinger’s
The Ego Tunnel: The Science of the Mind and the Myth of the Self’ (Basic Books, 2009), pp. 122-6.
Memetics was introduced by Richard Dawkins in his 1976 book
The Selfish Gene , which popularized the idea of gene-centred (rather than organism-centred) evolution. For more information on the t-gene in mice, see p. 236 of the thirtieth anniversary edition (Oxford, 2006). The view of the relation between memes and the self is set forth in Daniel Dennett’s
Consciousness Explained (Penguin, 1993), pp. 199-208. A book-length discussion arriving at similar conclusions is Susan Blackmore’s
The Meme Machine (Oxford University Press, 1999). For a different interpretation, see Kate Distin’s
The Selfish Meme: A Critical Reassessment (Cambridge University Press, 2005).
الفصل الرابع
The legend of the monk of Heisterbach is told in Goswin Peter Rath’s
Rheinische Legenden (Greven Verlag Cologne, 1955), pp. 178-81.
McTaggart describes his proof of the unreality of time first in a paper of the same title in volume 17 of
Mind (1908: 457-74), and later in chapter 33 of his two-volume
The Nature of Existence (Cambridge University Press, 1921). An accessible summary of the argument can be found in chapter 8 of Robin Le
Travels in Four Dimensions: The Enigmas of Space and Time (Oxford University Press, 2003). McTaggart’s argument has triggered a large amount of philosophical discussion; the Further Reading in this volume lists the most important contributions.
A clear discussion of Gödel’s thought on time can be found in Palle Yourgrau’s
Gödel Meets Einstein (Open Court, 1999). For an excellent explanation of the relativity of simultaneity, see Martin Gardner’s
Relativity for the Million (Macmillan, 1962), pp. 40-5.
Russell’s five-minute hypothesis comes from his
The Analysis of Mind (Allen & Unwin, 1921), p. 159. A similar argument is used by creationists to explain the existence of objects apparently pre-dating their preferred date of creation: God, it is claimed, just created all the apparent records of an illusory past at the same time as everything else. For some discussion, see chapter 1 of Martin Gardner’s
Did Adam and Eve Have Navels? (W. W. Norton, 2000).
Felix Eberty first describes his idea of the present universe as a massive visual archive of the past in a short anonymous pamphlet
Die Gestirne und die Weltgeschichte; Gedanken über Raum, Zeit und Ewigkeit
published in 1846. It was further developed by Harry Mulisch in his 1997 novel
The Discovery of Heaven : 'If we had the technology to place a mirror on a celestial object forty light-years away, beamed images from earth to that mirror, then gazed at it through a very powerful telescope, we would see right now reflections of what took place on earth eighty years ago - forty years for earth’s light to reach the distant planet, and forty years for the reflection to reach earth. Past and present merge.’
On the phantom time hypothesis, see Heribert Illig,
Das erfundene Mittelalter. Die größte Zeitfälschung der Geschichte (Econ, 1996). Material in English is limited, a summary can be found in Hans-Ulrich Niemitz’s 'Did the Early Middle Ages Really Exist?’, at
http://www.cl.cam.ac.uk/~mgk25/volatile/Niemitz-1997.pdf . For a brief discussion, see also John Grant’s
Bogus Science (Wisley, 2009), pp. 179-85.
For an accessible summary of the delayed-choice experiment, see Nick Herbert’s
Quantum Reality (Doubleday, 1985), pp. 164-8. You can do your own delayed-choice experiment at home by following the description in Rachel Hillmer and Paul Kwiat, 'A Do-It-Yourself Quantum Eraser’,
Scientific American (May 2007): 90-5.
The name 'Andromeda paradox’ derives from the discussion by Roger Penrose in his
The Emperor’s New Mind (Oxford University
discovered independently by C. W. Rietdijk in 'A Rigorous
Relativity’,
Science,
33 (1966): 341-4, and by Hilary
Journal of Philosophy,
64 (1967): 240-4. For a detailed analysis of this paradox, see section 3 of the entry 'Being and Becoming in Modern
Stanford Encyclopedia of Philosophy
at
http://plato.stanford.edu/entries/ spacetime-bebecome .
The extract from the
Confessions
of St Augustine comes from section 26 of the eleventh book, E. B. Pusey (tr.),
The Confessions of S. Augustine (John Henry Parker, 1838), p. 239.
For research into the duration of the subjective present, see Ernst Pöppel,
Mindworks: Time and Conscious Experience (Harcourt Brace Jovanovich, 1988).
For some discussion of how the brain represents time, see pp. 144-53 of Daniel Dennett’s
Consciousness Explained (Penguin, 1991).
A description of Libet’s experiments aimed at a general readership can be found in chapter 2 of his
Mind Time: The Temporal Factor in Consciousness (Harvard University Press, 2004).
The 'timeless’ theory described at the end of the chapter is due to Julian Barbour and is explained in detail in his book
The End of Time: The Next Revolution in Our Understanding of the Universe (Phoenix, 1999). A highly informative review of this book and a discussion of many related issues by Jeremy Butterfield was published in the
British Journal for the
, 53 (2002): 289-330. An extended version of this piece is available at
http://arxiv.org/abs/gr-qc/0103055 .
مصادر الصور
(1-1) National Sleep Foundation. (1-2) Illustration by Reynold Brown. (1-3) Courtesy of Yukon Archives. (1-5) © Christie’s Images/The Bridgeman Art Library. (1-6) © 2011 The M. C. Escher Company, Holland. All rights reserved/
www.mcescher.com . (2-1) © Bettmann/Corbis. (2-3) Graphic Courtesy of Ross Rhodes and bottomlayer.com, used by permission. (2-4) Adapted from John A. Wheeler, 'Beyond the Black Hole’, in H. Woolf, ed.,
Some Strangeness in the Proportion. A Centennial Symposium to Celebrate the Achivements of Albert Einstein (Reading, MA: Addison Wesley, 1980). (3-1) From
Victim of the Brain , a film by Piet Hoenderdos. (3-2) Reprinted from Olaf Blanke and Thomas Metzinger,
Trends in Cognitive Science , 13(1), January 2009, p. 11, figs. 3b and 3c, with permission from Elsevier. (3-3) From
The Neuroscientist , 14(4), 2008, fig. 3, p. 322/ © 2008 by SAGE Publications. Reprinted by permission of SAGE Publications. (4-1) © Rheinisches Bildarchiv Köln. (4-3) Graphic courtesy of Ross Rhodes and
bottomlayer.com , used by permission. (4-4) From B. Libet,
Mind Time: The Temporal Factor in Consciousness, (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2004).
Page inconnue