وأشار إلى كلبها وسألها: كيف هو اليوم؟ - تم شفاؤه .. الحمد لله.
فضحك قائلا: لعل هواء الإسكندرية لم يوافق مزاجه؟! - على العكس كان يعدو على الشاطئ والدنيا لا تسعه من الفرح.
فنظر إلى وجهها الذي كسا الشاطئ بياضه حمرة كأنه غمسه في الشفق وقال برقة: لقد اكتسبت بشرة جديدة يا سمارا.
فاستضحكت، وعدا الكلب في تلك اللحظة فولته ظهرها وعدت وراءه.
وبدا عليه تغير ظاهر، ففاضت من عينيه نظرة الجد والرزانة وخلفتها نظرة حنان وأحلام. وطاب له أن يختلس منها نظرات طويلة سعيدة، فشاهدها وهي تجلس على الكرسي وتنحني لتلاعب كلبها الصغير، وجعلت أناملها تتخلل شعره الأبيض الطويل، ومضى الكلب يلعق يدها مسرورا ويثب على ركبتيها وذنبه يرقص طربا، وفي أثناء ذلك تدلت خصلات شعرها الحريري وحامت حول عنقها وخديها. وكان في مشاهدته سعيدا مبتهجا، ولكن انقبض صدره فجأة فلوي رأسه ونظر إلى الأمام بعينين لا تريان شيئا؛ لأنه تذكر أن سلوكها نحوه لم يتغير منذ كانت تدرج في الطفولة والصبا، وأنها ما تزال تناديه بقولها «عمي» كما كانت تفعل وهي صغيرة تلعب بالعرائس. وكان فيما مضى يفرح بهذا النداء ويعده آية على ما له في نفسها ونفس أبيها من المودة والصداقة، أما الآن فهو يضيق به ويتأذى منه ولا يكاد يسمعه حتى ينقبض صدره وتتولى عنه المسرة.
واتجه بصره إليها مرة أخرى وتساءل - ولم يكن يفعل ذلك للمرة الأولى - أمن المستحيل أن تصير سمارا زوجي يوما من الأيام؟
وهز رأسه في إنكار واستغراب كأن الفرض من المستحيلات حقا، ولكنه لم يسلم بلا جدال فتساءل مرة أخرى: ما وجه الاستحالة؟ .. العمر؟ .. فهو ابن ستة وثلاثين وهي بنت ستة عشر؛ فعشرون عاما تفصل بينهما وهو عمر طويل يبرر «عمومته» لها، فكيف يتأتى للعم أن يصير زوجا وحبيبا؟! حقا إن الكثيرين لا يعترفون بعقبة العمر ولا ينزلون عند حكمها ويذللونها بغير مبالاة، ولكن كل تضحية من هذا القبيل بثمن، فما عسى أن يكون الثمن الذي يبذله لمثل كل هذه التضحية الغالية؟ هو في الواقع ليس إلا موظفا منسيا في وزارة الداخلية لا يتجاوز مرتبه الخمسة عشر جنيها فلا مكانة له يعتد بها، ولا مال له يسدل به على نقائصه سترا من الرواء والجلال، ومع ذلك فهو يحبها، ويبدو له أن لم يكن من حبها بد. وكيف كانت تتاح له النجاة منه وقد كانت تنمو تحت بصره يوما بعد يوم ستة عشر عاما؟ .. وكانت إلى ذلك الإنسانة الوحيدة من الجنس الثاني التي رمته بها الأقدار في عزلته القاسية .. فتسرب الحب إلى قلبه خفية في أناة وهدوء، وبلا قصد أو حذر، تسرب الكرى إلى أجفان حالم مستسلم إلى هبات النسيم اللطيفة في جلسة طويلة هادئة على شاطئ النيل.
وكان في أول عهده بها يتمتع بطفولتها السعيدة ويجد فيها منفذا لحنان صدره المكتوم؛ فلما أن انقلب عاشقا أنشبت فيه الحيرة أظافرها، وحرم القناعة السعيدة، وصار يعذبه كل شيء حتى عطفها عليه وحديثها؛ لأنها كانت تقبل عليه ببراءة، ولم تشعر حياله شعور امرأة بإزاء رجل، وقد حدجها مرات بنظرات نفذ منها لهيب الهوى قهرا فلم تستجب له ولم تحس به، وأصرت على أنه «عمها العزيز» لا أقل ولا أكثر. ما عسى أن يكون ردها لو طلب يدها .. كيف يكون شعورها .. وكيف تكون دهشتها .. وماذا تقول لأبيها .. وماذا تقول لنفسها .. وهل يمكن أن يراها بعد ذلك كما يراها الآن في حديقتها، وأن يتمتع برؤيتها مقبلة مدبرة محدثة مداعبة أم ينقطع عهده بها إلى الأبد؟
وهب أنه وجد من نفسه الشجاعة الكافية لأن يفاتح أباها - صديقه العزيز - في هذا الشأن الخطير، فما عسى أن يقول له؟ يا له من قول عسير .. وفكر طويلا، ثم أغمض عينيه وحدث نفسه وكأنه يحدث صديقه: «صديقي العزيز لقد جئت أحدثك في أمر خطير لم تكن تتوقع أن أحدثك فيه أبدا، وربما لم أكن أتوقع ذلك أنا أيضا، ولست واثقا من موافقتك ولا من أهليتي للطلب الذي أتقدم به، ولكني لم أرد أن أضيع فرصة ذهبية لمجرد توهمي الإخفاق .. سيدي .. وصديقي.»
ولم يتم حديثه لأن صوتا عذبا أيقظه من حلمه قائلا: أنائم أنت؟
Page inconnue