وذاع الخبر حتى بلغ مدينة الصفائح، فجاءت أسرة المغني على عجل، وتبعها قوم كثيرون ممن يشتغلون بجمع الأعقاب ولم الورق القذر وسألوا عن جلية الأمر؛ فلما أن صح بينهم الخبر انعقدت ألسنتهم من الدهشة، وظنوا أن المغني ذهب ليدفن كنزه في مكان أمين فقعدوا ينتظرون، وطال بهم الانتظار على غير جدوى، فجزع الأكثرون وتفرقوا ولم يبق إلا أفراد أسرته، ولبثوا طويلا يترقبون ولكن أبا سنة لم يعد.
وهنا غلب السعال على «المعلم» فمنعه عن إتمام حديثه، وانتظر دانش حتي رد إليه النفس واستحثه بنظرة عينيه القلقتين فاستطرد الرجل: كلا لم يعد أبو سنة .. وما كان ليعود .. لقد هجر أسرته ومدينته وصحبه إلى الأبد، باعهم جميعا بتلك الورقة السحرية، ولما طالت غيبته رثى بعض إخوانه لحال أسرته، فخرج في طلبه والبحث عنه. ومن ذلك اليوم ترامت إلينا أخبار عجيبة، فقيل إن المغني التائه قادته قدماه إلى الأزبكية، وإن بغيا وقعت في هواه وأوقعته في شراكها، ثم قيل إنه اشتغل بالغناء في قهوة بلدية بالأحياء الموبوءة، وأخذ الكثيرون يتحدثون عنه بلغة الأساطير والخرافات، فقالوا: إن الدنيا تبسم له، وأنها في إقبال عليه يتزايد يوما بعد يوم؛ فالأموال تتقاطر عليه من كل يد والنساء يتهافتن عليه من كل باب، وإنه بطر وطغى وفرض السطوة وجبى الإتاوة ونشر الرعب.
كانت أخبارا غريبة يعز تصديقها، ولكنها فتنت شباب مدينة الصفائح وأثارت الطمع في قلوبهم، فلحق به نفر منهم إلى مهاوي الفجور، ومدوا إليه يد الأخوة، وقاسموه الخير والشر، فكانوا سواعده إلى الإثم والفجور والإرهاب.
ولبثت تلك الحياة ما لبثت، ثم انقطعت على أسوأ حال، وقيل في ذلك إن الرجل رجع يوما إلى مخدع عشيقة له على غير موعد، فوجدها بين يدي أحد أتباعه، فكبر عليه الأمر وأعماه الغضب، فاستل خنجره وقتل به الاثنين، وقبض عليه وعلى عصابته، وامتدت يد القانون إلى مدينة الصفائح منبت ذاك الشر، وانتهى الأمر فشنق أبو سنة وسجن أتباعه، وهدمت المدينة المظلومة .. وسبحان من له الدوام يا بك!
كان دانش يصغي إلى محدثه في ذهول، وسمعه يختم حديثه بلهجة مريرة ساخطة، فسرت في جسمه هزة عنيفة، ولم تعد أعصابه تحتمل الجلوس فقام منزعجا، وغادر القهوة دون أن يلقي عليها نظرة وداع.
كان كئيبا منقبض الصدر.
وكان يتذكر تلك الليلة السعيدة حين غلبته نشوة الفرح فغمر بفيضه بعض القلوب، ويتعجب. كان ليلتها سعيدا فرحا ينشد السعادة للجميع، فكيف انقلب غرضه عليه؟ .. كيف خانه الهدف فدمر مدينة وشرد أهلها؟
وا أسفاه!
ثمن السعادة
دخل الأستاذ الحجرة التي قاده إليها الخادم فلم يلق تلميذه الصغير في انتظاره كمألوف عادته، فجلس على كرسيه يقلب عينيه في الصور المعلقة على حيطان الحجرة، وكانت المرة الأولى التي ينتظر فيها تلميذه منذ جيء به له لعشرة أيام خلت، وأوشك أن يدعو الخادم حين سمع وقع أقدام خفيفة، ورأى الغلام مقبلا عليه يتأبط كتبه وكراسته، فحدجه بنظرة تعنيف، ولكن راعه أن يرى عينيه محمرتين من البكاء وذقنه الصغير يرتعش من التأثر، فسأله باهتمام: ما لك؟
Page inconnue