وجاء البك بعد دقائق في ثوب حريري فاخر، فسلم علي سلاما حارا أذهب عني الارتباك ورد إلي جناني، وقدم لي سيجارة ثم تفحصني بنظرة ثاقبة، وأخذنا في الحديث فسألني عن مؤهلاتي وعما أنتويه لمستقبلي. قلت له: إني أروم الاشتغال بالتدريس. فسألني عما إذا كنت حاصلا على دبلوم التربية، فأجبته بالنفي .. ولكني أكدت له أن كثيرين من أقراني اشتغلوا بالتدريس بغير هذا الدبلوم، ولكن بالوصايات التي لا ترد، فهز رأسه هزة لها معناها، وقال: «إني أرجو لك كل خير.» ثم أرسل في طلب ابنته، فلم أتمالك أن خفق قلبي وشعرت بحرارة الاضطراب تلفح وجهي. وجاءت الشابة مرتدية ثوبا أبيض يكشف عن ذراعيها، ناشرة في الجو رائحة طيبة مخدرة، فراعني جمال جسمها وحيويته، وقدمها إلي قائلا: «آنسة سعاد .. ابنتي.» وقدمني إليها وأخبرني أنها متخرجة من الجامعة الأمريكية، وأنها أستاذة في الأدب الإنجليزي مثلي، وأن أمها متوفاة، ثم اقترح ضاحكا أن يكون حديثنا بالإنجليزية - وهو من خريجي جامعة إكسترا - فتحدثنا طويلا، حديثا قريب التناول ولكنه لذيذ ممتع. والواقع أن سحر النساء يتجلى فيما ينفثن في الحديث التافه من لذة .. وقد طبت نفسا.
10 أغسطس:
عدت إلى مقابلة البك مرة أخرى، فقال لي بلهجة دلت على الأسف: «لا توجد وظائف خالية لتدريس اللغة الإنجليزية.» وتريث قليلا ثم استدرك: «ولكن توجد وظيفة مدرس لغة فرنسية .. هل تجيد الفرنسية؟» والواقع أن معلوماتي في الفرنسية تعادل معلومات طالب البكالوريا أو هي كانت كذلك قبل أربع سنوات، ولكني وجدت نفسي حيال وظيفة محترمة درجة سادسة وربما بعثة أيضا، فأجبته بجسارتي الطبيعية: «إني أجيد الفرنسية يا سيدي.» فقال الرجل بسرور: «انتهينا يا بطل.»
14 أغسطس:
يوم جميل؛ اصطحبت «سعاد» للنزهة فتمشينا في جزيرة الروضة جنبا إلى جنب. وهذه أول مرة آخذ فيها حذري في محادثة فتاة؛ فلا يخفى أنها مثقفة ذكية ذات تجارب، كثيرة الاختلاط بأفاضل الرجال من أصدقاء والدها. فقلت لنفسي إنه يحسن ألا أتملقها تملقا رخيصا مبتذلا. وجرى الحديث بيننا فقلت لها إني سعيد بمعرفتها معجب بثقافتها وذكائها، ثم شعرت بأني لم أقل كل ما ينبغي أن يقال، وألح علي شعوري فقلت إن لها حسنا يروقني، ولكنها حدجتني بنظرة ذات معنى وقالت لي مبتسمة: «كلا، لست جميلة البتة.» فقلت لها مستعينا بالجدل على مداراة عواطفي: «سنظل نختلف في الجمال كما اختلف الذين من قبلنا .. ولكن حسبي ما تقول النظرية الذاتية؛ فجمال امرأة هو ما يطيب لي منها .. وأهم الأشياء جميعا أن تلقى حياتنا المشتركة قناعة وسعادة.» فضحكت ضحكة رقيقة وسألتني كالمتهكمة: «أقصيدة غزل أم رثاء؟!» فقلت بلهجة دلت على الإخلاص والصدق: «لا استحققت الرثاء أبدا.» ثم صارحتها بما زعمت أنه رأيي في الحب والزواج، وأسهبت في ذلك إسهابا، وتعمدت أن تدل لهجتي على البساطة والإخلاص .. وأصغت إلي بكل جوارحها، ولم تواصل الصمت فاشتركت في الحديث، وكأنما تعبنا بعد ذلك فسرنا صامتين وكلانا مغرق في أفكاره، وعلى حين غرة ضغطت على يدها وقلت لها همسا بالإنجليزية: «أحبك.» فتورد وجهها واضطرب جفناها.
والآن - وأنا منفرد في حجرتي - أذكر حذري بسخرية واستهزاء.
15 أكتوبر:
نزلت الميدان ولا سلاح لي إلا جرأتي والثقة المكتسبة من نفوذ صهري، وقد داخلني شيء من الطمأنينة حين أيقنت أني سأدرس مبادئ بسيطة سهلة. أما العقبة الحقيقية ففي النطق والكتابة، ولا أدري شيئا عما يخبئه المستقبل لي من الصعوبات. بدأت الدرس بتوجيهات عملية كما هو مقرر في برنامج الدراسة، فجعلت أقول لهم بعض العبارات التي حفظتها عن ظهر قلب مستعينا بتفهيمها بالإشارة، مثل: قوموا، اجلسوا، افتحوا الشباك، أغلقوا الشباك. وقد لاحظت أن تلميذا - من الجالسين في الصف الأول - يحسن الفهم، فأثنيت عليه؛ فما راعني إلا أن وقف وقال لي جملة بالفرنسية في وضوح وسرعة، فلم أفهم شيئا فبهت، ولكن لا أظن أنه بدا على وجهي شيء مما يقوم في نفسي، وتطوع تلميذ ساءه ما نال قرينه من الظفر بإخباري بأن أمه فرنسية، وساءني الخبر، وأسفت له في نفسي، وأردت أن أتقي شره فنهرته قائلا: إنه لا يجوز أن يتكلم قبل أن يؤذن له.
هذا رقيب لم أكن أتوقعه يذكرني وجوده بالمثل القائل: «في كل خرابة لنا عفريت.»
27 أكتوبر:
Page inconnue