فاضطررت ساعتئذ إلى السكوت، وفي نيتي أن أعيد الكرة مهما كلفني ذلك. وكانت تتحاشى هذا الحديث وتتهرب منه، ولكني قلت لها يوما بإخلاص وحزم: ينبغي أن تعلمي أنه ليس الفضول الذي يدفعني إلى معاودة السؤال، ولكنه اهتمام بشخص أعزه وأحبه، وأرجو دائما أن يفتح لي صدره وقلبه.
كم فرحت لكلامي هذا .. لقد التصقت بي بوجد وحنان، وتنهدت بسعادة وقالت: يا للسعادة .. طالما ضرعت إلى الله أن يهبني قلبا حنونا محبا.
فداعبت خصلة من شعرها الأسود بيدي وقلت: إذن هيا وصارحيني بكل شيء. - ولكنه حديث مؤلم كريه.
فقلت: أنا لا أدري شيئا؛ لأنك لم تريدي أن تطلعيني على شيء، ولكني كنت أرجح دائما أن حياتك الزوجية غير سليمة، ومهما يكن من أمر فينبغي أن أعلم كيف يتركك زوجك هكذا!
فهزت منكبيها باستهانة وقالت: إنه لا يعرف مقري على وجه التحقيق. - ما أعجب هذا! .. أستطيع أن أفهم أنكما غير متحابين، ولكن الذي لا أستطيع فهمه هو أن تبقيا زوجين بعد ذلك. - إنه لا يطلقني لأنه لا يستطيع الاستغناء عن مالي .. وسوى ذلك فلم يكن زوجا قط، وهو لا يطيق أن يكون زوجا في يوم من الأيام .. على أني في الواقع لا أرغب في الطلاق.
فحدقت في وجهها دهشا وقلت: هذا أعجب! - لا تعجب لشيء، ألا ترى أني هكذا مالكة لحريتي؟ ولو كنت مطلقة ما استطعت أن أذهب إلى حيث أشاء، ولو كان لي من يهمه أمري ويحنو علي بصدق لتغير مصيري من بادئ الأمر، ولكني وحيدة، وحيدة في هذه الدنيا الواسعة، أنت لا تدري ما الوحدة .. أما أنا فقد تجرعت مذاقها طوال هذه السنين .. مات أبواي، والتحق أخي الأوحد بوظيفة في قنصلية اليونان، ونبذني زوجي .. فليس لي مكان آوي إليه أو قلب يعطف علي، أنا منبوذة في هذه الدنيا.
فوجمت صامتا وغلبني التأثر الشديد، ورأيت وجهها الجميل محتقنا كقطعة من الجمر، ولمحت دمعة حبيسة في عينيها، فقلت: إنك جميلة وغنية، فماذا كان يريد هذا الأحمق؟ - إنه وحش ضار وقاس جحود، لم أستطع أن أعاشره كزوجة إلا أياما معدودات، ثم اضطرني إلى حياة التشرد والهيمان .. ولو وهبني الله طفلا لاستعنت به على الصبر والرضا، ولكني حرمت حتى من هذا العزاء.
وكانت تتكلم بتأثر شديد فيخيل إلي أني سأتبعها إلى البكاء، وثرت في نفسي على الحظ التعس الذي ضيق عليها الخناق، وخطرت لي فكرة فقلت لها: ألم يكن في وسعك إصلاح ما أفسد الحظ؟
فضحكت ضحكة مريرة وقالت: الحظ التعس لا يصلحه شيء، وأنا ما قصرت قط. وأصارحك القول بأني كنت أحبه، وما وافقت على الزواج منه إلا لأني أحببته يوما، ولكنه مضى بعد الأسبوع الأول من زواجنا يقضي الليل خارج البيت ولا يعود إلا قبيل الفجر، وكنت إذا انبريت لإصلاحه ومدافعة الشقاء الذي يهددني به سخر مني وهزأ بمحاولاتي. ولما ضاق بي ترك السخرية والهزء وعمد إلى الخشونة والفظاظة.
وسكتت عن الحديث دقائق وهي مستسلمة إلى الشعور الأليم الذي أحدثته الذكريات، ثم أردفت بصوت أعمق ووجه أشد اكفهرارا: وأدركني اليأس منه ولما أتم شهرا كاملا في بيتي الجديد؛ وكان ذلك لحادثة همجية لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي؛ أيئستني من الخير ودمرت كل فضيلة في نفسي؛ ففي ليلة من ليالي شهر العسل كنت مستغرقة في النوم بعد سهاد حزين، وإذا بهزة عنيفة توقظني من نومي، فاستيقظت فزعة صارخة ونظرت بعينين مرتعبتين، فرأيته جالسا إلى حافة الفراش، وهممت بتعنيفه، ولكن لساني لم يتحرك في فمي؛ لأنه كان في حالة سكر شديد كما تبينت ذلك من نظرته الذاهلة ووجهه المحتقن والرائحة التي تنبعث من فمه. وكان هناك ما هو أدهى من ذلك؛ كانت تقف قريبة منه امرأة غريبة في مثل حالته من السكر الشديد، كانت تنتظر بلا ريب أن أوسع لها مكاني من فراش العرس، ولم يمهلني حتى أفيق من فزعي ودهشتي، فقال لي بلسانه الثقيل الملتوي: «تفضلي خارجا.» ولم تنتظر صاحبته، فدنت من الفراش وارتمت إلى جانبي. ولم أتمالك نفسي، ففزعت من مكاني إلى أرض الغرفة وفقدت رشدي، فانفجرت غاضبة وانهلت عليه سبا ولعنا، ولكنه هز كتفيه استهانة واستلقى إلى جانبها، فغادرت الحجرة في حالة جنونية، وأحسست برغبة لا تقاوم في هجر البيت. وكانت ثيابي في الدولاب داخل الحجرة، فأخذت غطاء المائدة القطيفة وتلفعت به، وفتحت الباب ووليت خارجا والديوك تصيح معلنة طلوع الفجر، وهرولت في الطريق الموحش لا ألوي على شيء، حتى انتهت قدماي إلى البيت الوحيد الذي تعودنا الذهاب إليه .. بيت والدتك .. ولعلك تذكر الأيام القلائل التي قضيتها عندكم .. إني لا أنسى تلك الليلة أبدا، ولا تزال قائمة في نفسي بجميع تفاصيلها .. وقد كانت فاصلة في حياتي بين عهدين.
Page inconnue