فكان يقنعني من زينب نظرة أختلسها من وجهها الحسن أو جسمها البض؛ لتكون زادي في النهار والليل وفي اليقظة والنوم، وأصبحت وأمسيت في عالم أثيري جميل بث في وجداني حياة ناضرة كالحياة التي ينشرها الربيع في الحقول والبساتين. على أن الأمر لم يقتصر على ذلك؛ فجرى الحديث بيننا مرات، ولعبنا الورق مرة والنرد أخرى، وغالبتني عواطفي فوسوست إلي نفسي أن أتشجع، وتساءلت بخبث: لماذا لا أجرب حظي؟ لماذا لا ألمس أناملها في أثناء اللعب مثلا، أو أهدي إليها مجدولين فتكون فاتحة حديث لا يعلم ختامه إلا الله؟ .. ولكني لقيت من التردد الشيء الكثير، ولم تسعفني الجرأة التي تعلمتها فيما بعد، وضاع الوقت هباء، حتى رجعت يوما إلى البيت فوجدت والدتي وحدها .. وكنت تعودت أن أراها إلى جانبها، وأحسست بوحشة وضيق، وكتمت رغبة تلح علي بالسؤال لأن تلوث نفسي أفقدني صراحة الأبرياء، وظننت السؤال فاضحي، ولم تدعني والدتي فريسة العذاب، فقالت لي: شكرا لله؛ فقد جاء جارنا الضابط واعتذر لزوجته، وعاد بها لأنه نقل إلى أسيوط، وقد كلفتني أن أهدي إليك تحياتها.
وأحسست في الحال إحساس الطالب الذي يمنى بالسقوط في الامتحان وهو يحلم باختيار الوظيفة اللائقة به. وضاق صدري ذلك اليوم بالبيت ففررت إلى الخارج لأخلو إلى نفسي بعيدا عن عيني والداتي. على أن الصبا دائما قادر على جرف الأحزان والهموم، فاستطعت أن أبرأ في مدة وجيزة، ونسيت في غمرة الحياة والآمال تلك الحسرة التي عصرت قلبي أياما، فكانت مثل «الزكام» الذي يفقد الإنسان طعم الحياة حينما يزول سريعا فكأنه لم يكن.
ودارت الأيام وانتهيت من الدراسة، وحصلت على الدبلوم، ووظفت في وزارة الزراعة سنة 1925، ثم انتقلت إلى تفتيش الإسكندرية بعد ذلك بخمس سنوات. وفي الأيام الأولى لهبوطي إلى الإسكندرية آثرت أن أنزل بفندق لأستريح من وعثاء السفر وأبحث في هدوء عن مسكن مناسب، ووقع اختياري على فندق «ريش» لحسن موقعه من البحر؛ لأننا كنا في سبتمبر، وهو من الشهور المحبوبة في الإسكندرية، يطيب فيه الجو ويهدأ البحر ويصفو؛ فحملت حقيبتي ونزلت في حجرة من حجرات الطابق الثاني، وأذكر أنه لم يكد يتركني الخادم ويغلق وراءه الباب حتى سمعت طرقا، فدلفت إلى الباب وفتحته، ورأيت لدهشتي صديقنا الدكتور أحمد شلبي، واستقبلته بشوق، وأجلسته إلى جانبي، وكان يقول لي: أحقا هو أنت؟
ثم أردف: كنت تاركا باب حجرتي مفتوحا فلمحتك وأنت تتبع الخادم، وعرفتك في الحال. - هذه فرصة سعيدة. - يا حظك! - أي حظ تعني؟ .. أنت تعلم أن موظفي الزراعة لا حظ لهم يحسدون عليه.
فقال ضاحكا: أنا لا أتكلم عن الكادر .. ولكن عن فوزك بهذه الحجرة .. فيا حظك! - وما الداعي إلى هذا الحسد؟ .. هي حجرة دون حجرات الصف المقابل التي تطل نوافذها على البحر. - هذا حق، ولكن شرفتها تمس شرفة الحجرة رقم 24 التي إلى يمينك، وحسبك هذا. - وما شأن الحجرة رقم 24؟
فقال وهو يتنهد: تقيم بها امرأة حسناء وحيدة. - وحيدة! - نعم .. وإلى هذا يعود السبب في أن حجرات هذا الطابق مأهولة كلها. - لعلها ممثلة أو راقصة. - هو ما يظنه الرقم 27.
فقلت مستفهما: الرقم 27؟ - أعني زميلي الدكتور الصواف المقيم في الحجرة رقم 27، ولكني لم أوافقه على ظنه؛ لأني خبير بالصالات والمراقص جميعا، والأعجب من هذا أنها تبدو محترمة، ولا ينقصها إلا زوج لتكون من المصونات حقا.
فابتسمت وقلت: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. - أوه .. كل الأرقام تطاردها مطاردة عنيفة. - ألم يفز أي رقم بطائل؟ - في الظاهر لا، والله أعلم بالسرائر.
وجالسني صديقي ربع ساعة، تحدث فيها ما شاء له الحديث، ثم ودعني وانصرف إلى حجرته. وكنت تعبا منهوك القوى، فنمت ساعة نوما عميقا واستيقظت عند العصر، وفتحت شرفتي وجلست فيها أستروح هواء البحر المنعش، ولاحت مني نظرة إلى الشرفة التي إلى يميني، فتذكرت ما قال صديقي الدكتور، وأدمنت النظر إليها باهتمام وشغف، ولكني استرددت نظري بسرعة لأني سمعت صرير بابها وهو يفتح، ونظرت أمامي، ولحظت بروز شخص، وخيل إلي أنه امرأة، وتأكد ظني عندما عطست، وحافظت على جمودي وتظاهرت بعدم الاكتراث .. وغالبا ما يفيد البرود، وهو إن لم يفد يعزي عن الخيبة.
ولكني لم أثبت طويلا، ونازعني شغف إلى النظر، فألقيت ببصري إلى جارتي، ورأيت امرأة أول ما راعني منها شعور بعدم الغرابة سرعان ما تحول إلى يقين بأني رأيتها من قبل، وأنا أتمتع بذاكرة لا تخيب قط في حفظ الصور؛ فلم ألبث أن تذكرت .. تذكرت جارتنا القديمة .. التي عاشت معي في بيت واحد بضعة أيام كانت كافية لإنضاج وجداني .. وتملكتني الدهشة والاهتمام.
Page inconnue