كانت الرياح تندفع نحوه، وكانت تملأ رئتيه من فرط قوتها. أخذ يتسارع مصدرا صيحة حبور، ومر عبر غشاء كهربائي، ستار شفاف وامض يمتد عموديا من الأرض أسفله إلى اللانهائية بالأعلى وينتشر عبر الأفق كله. فيما وراءه، كانت أشكال عملاقة تلوح فوق مشهد طبيعي من الصخور والتلال. وإلى جوار عود هائل الحجم، كان رأس يظهر بشكل جانبي يميل لأسفل، ومن فمه انبعثت هبة من الدخان تكورت على نحو مستدير؛ ولم يعلم جونزاليس ما كانت تعنيه أو ماهية اللغة التي أتت منها. ارتفع جوادان أبيضان متماثلان في الهواء معا، وصهلا بينما كان يمر بهما. كان ثمة امرأة عارية مستلقية داخل صدفة؛ وكان كل من المرأة والصدفة ذواتي لون قرنفلي ووردي ولؤلؤي. أخذ عملاق أحادي العين يخطو نحوه، وقد بدا رأسه عجيني الشكل غير مكتمل، وفمه مجرد خط دقيق، وأنفه محض انبعاجة. أخذ يناديه مصدرا صيحات غير ملفوظة.
مر عبر ستار آخر، وتحول العالم إلى اللونين الأبيض والأسود. وفوق بحر عديم الملامح، طار رأس نحوه، وكان له شعر أسود مجعد وأنف حاد مستدق، وكان يميل إلى الأمام كي ينظر إلى البحر أدناه، كما لو كان يبحث عن شيء هناك. ثم مر بجرس كان يغطي نحو ربع السماء؛ شكل هيكلي يتدلى من الحبل أسفله قناع خاو لوجه، وحين تمايل الشكل، أصدر الجرس دقات اخترق صوتها عظامه.
وصل إلى الستار الأخير. كانت السماء قد تحولت إلى اللون الأزرق الساطع المميز للأحلام. وعلى مرمى البصر كانت تلوح «نقطة الأصل»، وجوانبها عامرة بعدد لا نهائي من الثقوب. مرق جونزاليس عبر الستار وشعر بطنين كهربائي يخترق عظامه، ثم ولج ثقبا في الجانب الشاسع للمكعب المظلم. •••
أخذ الرجل العجوز، الجالس خلف طاولة منخفضة من الخيزران، يضع الشعرية المسلوقة في طبق خشبي، وبعد أن أومأ جونزاليس موافقا على كل اختيار، أضاف الرجل بعض الكزبرة والثوم المحمر وقطع البازلاء المجففة والبيض المقطع ونقانق السمك وبذور السمسم. بعد ذلك وضع بعض حساء السمك فوق هذا كله واختتم تزيين الطبق برش مسحوق الفلفل وبعض عصير الليمون، ثم ناول الطبق إلى جونزاليس مبتسما. ناوله جونزاليس حفنة من عملات الكيات النقدية التي تبدو زهيدة. كان اسم طبق الإفطار هذا «موهينجا»، وكان جونزاليس يحبه، وقد تناوله صباح كل يوم منذ أن اكتشفه قبل أسابيع مضت.
وجد جونزاليس مقعدا حجريا أمام معبد باجودها قريبا وجلس يأكل باستخدام زوج من العصي غير المتقنة وهو يشاهد المارة. كان الطقس قد غدا حارا ورطبا بالفعل، وعلم أن من شأن أي مجهود بدني أن يجعله يتصبب عرقا. مر إلى جواره طابور من الصبية، يقودهم أحد الرهبان، وكانت رءوسهم حليقة حديثا، وأرديتهم الزعفرانية اللون زاهية ومنشاة، وأوعية الاستجداء الخاصة بهم لامعة. كانوا في الثانية عشرة من العمر وقد أكملوا لتوهم طقس «شين بيو»، الذي بواسطته يدخلون في سلك الرهبنة، وهو طقس لا يزال أغلب الصبية البورميين يمرون به، حتى في منتصف القرن الحادي والعشرين.
بعد تناول الإفطار لم تكن لديه رغبة في العودة إلى الكوخ الذي يعمل به؛ لذا شرع في السير في أرجاء الريف المحيط بمعبد الباجودا.
بعد نصف ساعة، وبينما كان يسير في درب مخصص للعربات التي تجرها الدواب في السهل القاحل، وصل إلى منصة مبنية على ارتفاع كبير من الأرض. وعليها كانت توجد أكاليل من الزهور الفاقعة وأطباق من الأرز، قرابين مقدمة من أجل استرضاء «النات»، وهي الأرواح التي كانت تحرك هذه البلاد حتى قبل حلول البوذية. كانت أرواحا نزقة، ومن الممكن أن تتصرف على نحو بغيض، وفي الماضي كانت تطالب بقرابين بشرية.
كانت أرواح «النات» قوية الحضور حول الباجودا. وفي جبل بوبا، على مسافة ثلاثين ميلا وحسب، كان يحكم مين ماهاجيري، الأخ والأخت، «سيدا الجبل المرتفع». لقد سمع جونزاليس قصتهما لكنه لم يتذكر سوى أن هاتين الروحين، في صورتيهما البشريين، تورطا في مؤامرة من الحسد والقتل، وأن ثمة ملكا قريبا كان هو الشرير الضالع في هذا.
اقترب شخص سائر على الدرب نحو جونزاليس، وكان يرتدي الملبس البورمي «الغربي» التقليدي؛ البنطال الأسود الواسع والقميص القطني الأبيض، وكان رأسه ووجهه عبارة عن كرة ساطعة من الضوء. فكر جونزاليس: عجيب، أتساءل كيف حدث ذلك؛ فهذا الشخص فقد وجهه وجنسه. «مرحبا.» هكذا قال الشاب، ووجدا مقعدا حجريا منخفضا أمام معبد باجودا على مقربة منه وجلسا عليه.
سأله الشاب: «لم أنت هنا؟»
Page inconnue