Hallaj
الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي (٢٤٤–٣٠٩ﻫ)
Genres
فإننا مثلا نستطيع أن نقول مع الفقهاء: إن الفقه نشأ مع الإسلام، وليس معنى هذا القول أن التفريعات الفقهية، والاستنباطات والمصطلحات الفنية، كانت في صدر الإسلام، وفي الكتاب والسنة، وإنما كانت هناك البذور الأولى، والمادة الأولى، التي نمت وتطورت ومشت مع الحياة.
كان التصوف موجودا في صدر الإسلام بروحه وهديه، وآدابه وخلقه، وترفعه وزهده، وعباداته وطاعاته، وذكره ومناجاته، كان موجودا بجوهره لا بمصطلحاته، وقائما بكلياته لا بجزئياته.
كان التصوف في صدر الإسلام هو هذا الروح الديني المهيمن المسيطر على حياة المسلمين كافة، الموجه لحركاتهم وسكناتهم، الصاعد بأعمالهم ونواياهم، إلى خالقهم ومولاهم.
كان هذه الرقابة الحية اليقظة التي أقامها كل مسلم في أعماقه، ليراقب ما توسوس به نفسه، وما يصطرع في قلبه، وما يتواثب في نفسه، وما يخفي صدره، وما تطرف به عينه.
كان هذا الترفع الشامخ عن شهوات الدنيا وزخرفها، والإعراض عن بريقها وفتنتها، والزهد في ترفها ومظاهرها، والتسامي بكل ما فيها إلى وجه الله، حتى يظفر بحبه ورضاه، وقربه وهداه؛ لأن الدنيا لا تزن عنده جناح بعوضة، ولأن الآخرة خير وأبقى.
ثم مشت الحياة بالمسلمين، وفتحت عليهم الدنيا، وابتعدت مسامعهم عن نغمات الوحي، وتفرقت قلوبهم عن الميثاق والعهد، وانحلت العزائم، وفترت الهمم، وتسارع الناس إلى المال والجاه، ولهو الحياة، ونشأت الفتن، واختصموا على الملك، وتصارعوا وتباغضوا، وتشعبت بهم السبل.
ونشأت تبعا لذلك، حركات مضادة، ورسالات مجاهدة، صمدت في وجه العاصفة. ويحدثنا تاريخ النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، عن وعاظ ومرشدين، وقفوا على أسوار القرآن، ومعالم السنة، ينذرون الناس ويدعونهم إلى ربهم ودينهم، تميزهم شجاعة نفسية عالية، أعانتهم على مواجهة الجبروت والاستبداد الذي بدأت طلائعه في أفق الحياة الإسلامية.
وبجوارهم رأينا طائفة من الزهاد، الذين وقفوا في وجه فتنة الترف والإسراف، وأخذوا يديرون لحونهم وأحاديثهم، حول فضائل النفس، وآداب الحس، وتزكية الجوارح، والزهد في الدنيا، وهوان أمرها، وزوال نعيمها، وضلال شهواتها.
ثم رأينا العباد المتبتلين، الذين انقطعوا إلى طاعة الله، وعبادته وذكره، وأحالوا الكون إلى محاريب للصلاة والمناجاة، ومنابر للتحدث عن نعم الله، وعن عظمته وجلاله، والأنوار التي يفيضها على الساجدين المتطهرين.
ومن هؤلاء وهؤلاء، تكون الرعيل الأول، من الصفوة الربانيين، الذين عرفوا في التاريخ باسم الصوفية، أو كما يقول ابن خلدون: «اختص المقبلون بأنفاسهم على الله باسم الصوفية.»
Page inconnue