Hallaj
الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي (٢٤٤–٣٠٩ﻫ)
Genres
2
فيقول: «وبلغ شعراء فارس في هذه السبيل غاية لم يدركها شعراء أمة أخرى، فأخرجوا المعاني الظاهرة والخفية، والجليلة والدقيقة، في صور شتى معجبة مطربة، وقد فتح عليهم في هذا فتح عظيم، فكان شعرهم فيضا تضيق به الأبيات والقوافي والصحف والكتب، حتى ليقف القارئ حائرا، كيف تجلت لهم هذه المعاني، وكيف استطاعوا أن يشققوا المعنى الواحد إلى معان شتى، ثم يخرجوا كل واحد منها، في صور شتى عجيبة، كأنها أزهار المرج ونباته تزدحم في العين ألوانها وأشكالها ، وماؤها واحد، وترابها واحد.» ثم يقول: «... لقد تحول الشعر الفارسي كله، إلى شعر صوفي، فلا يخلو شاعر فارسي من نزعة صوفية تظهر في شعره، لشد ما سيطر شعراء الصوفية على الشعر الفارسي.»
وبقيام الدولة العباسية، انتقل النفوذ السياسي، والثقل المادي، وترف الحضارة ونعيمها وجلالها إلى فارس، فغدت محور الحياة الإسلامية السياسية والعلمية، بل غدت فارس أفقا عالميا تتشابك فيه وتتصارع التيارات الفكرية والقلبية، وتلتقي فيها وجها لوجه ثقافات الأمم شرقية وغربية.
ويصف لنا المؤرخ الكبير ياقوت المكتبات العلمية العامة بمدينة مرو، إحدى مدن فارس التي لا تبلغ مرتبة العواصم، فيقول:
3 «يوجد بها عشر خزائن للكتب لم أر في الدنيا مثلها، منها خزانتان في الجامع. إحداهما يقال لها العزيزية، وفيها اثنا عشر ألف مجلد للناس كافة، وكانت سهلة التناول لمن يريد. ولا يفارق منزلي مائتا مجلد، وأكثرها بدون رهن. ثم يقول: وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الصحب والولد، وأكثر فوائد كتبي من تلك الخزائن.»
ويصف الإمام الجويني أرض فارس فيقول: «مطلع السعادة والمبرات، وموضع المراد والخيرات، ومنبع العلماء، ومجتمع الفضلاء، ومرتع العظماء.»
أما ابن خلكان، فيحدثنا في كتابه «وفيات الأعيان» عن فارس حديثا يحلق على أجنحة حبها وتقديرها، حتى يصفها بأنها الجنة التي وعد بها المتقون، فيها متاع الأعين والعقول، أو كما يقول: «إنها أنموذج الجنة بلا مين، فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وتزكو به القلوب والعقول.»
وفي جو تلك الحضارة العلمية الشامخة، وفي عنفوان هذا الترف الثقافي والحضاري، كان قلب فارس، يخفق بالتصوف سلوكا ومعرفة، وكان أبناء فارس ينظرون إلى التصوف نظرة الإجلال والإكبار والتقديس، ويجدون في مناهجه القلبية والروحية، صدى لما يضطرب في أعماقهم من أشواق وأذواق، وما يتلألأ في معارفهم من إشراقات وإلهامات. بل يرون في التصوف وجه القرآن وعلومه وأنواره، وأسرار هذه العلوم والأنوار، ويرون فيه فوق هذا وذاك، مجالا ومسرحا للقلوب المتعلقة بعرش ربها، القلوب التي تقتات بذكره وحبه، وتتلقى من إلهامه وفيضه.
فجر التصوف وضحاه
ومع مكانة التصوف الكبرى في الفكر الإسلامي، وما قدمه للحياة الإسلامية في شتى مراحلها، من مناهج في المعرفة والأخلاق، والسلوك الاجتماعي، وما أفاض على الثقافة الإسلامية من معان مشرقة عالية، في كل ما يتصل بالروح والقلب، وصلة الإنسان بخالقه، وسيره إلى محبته ورضوانه، وما أبدع في هذا السير من أحوال ومقامات وأذواق ومشاهدات وإلهامات، أسهمت في تعميق المعاني القرآنية واتساعها وشمولها، كما أسهمت في تكوين تلك الحياة الروحية التي أصبحت من أكبر العناوين المتلألئة في جبين الدعوة الإسلامية، وفي أفق رسالتها العالمية.
Page inconnue