Ainsi je fus créé: une longue histoire
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genres
وفي الغد كان القمر بدرا كاملا، فاتفقنا مع أصدقائنا الذوات على أن نوغل في الصحراء، وأن نجعل الاستراحة القائمة في منتصف الطريق بين القاهرة والإسكندرية غايتنا، وقضينا وقتا ناعما استمعنا فيه من «الجراموفون» أحلى الأغاني وأعذب الأنغام، وتناولنا من الأحاديث، كل جماعة في ناحية، ما أرضى هوانا وأمتع أرواحنا وقلوبنا، ألا ما أروح الصحراء في ضوء القمر! أنت منها في لجة تجمع السماء والهواء والأرض في غلالة من غمام مضيء، لا تعرف العين له بداية ولا نهاية، ولا تعرف أين منه مساكن الشياطين، وأين منه منازل الملائكة؟ كل شيء فيه مبهم أمام العين، واضح أمام البصيرة تقرأ سطور الغيب في لوحه المحفوظ، فأنت تشعر وأنت في هذا المحيط الباهر الوضاء كأنما كشف عنك غطاؤك، وكأنما اتصلت على موج الأثير بعوالم الكون جميعا وهي مع ذلك محجوبة عنك، لا ترى فيها الدقائق التي ترى في وضح النهار، وأنت مع ذلك معجب بما ترى، تحسب أنك استبطنت أسرار الكون، وعرفت منها ما كان وما يكون!
وعدنا أدراجنا حين تكبد القمر السماء، وإننا لننهب الطريق إلى القاهرة إذ وقفت إحدى السيارات، واندفع نفيرها يعلن نداء الاستغاثة، وفي لمح البصر اجتمعت السيارات كلها حول السيارة المنكوبة، ونزلنا جميعا رجالا ونساء نتساءل: ما أصابها؟ ولم يكن العطب فادحا، إنما هي عجلة انفجرت ويجب تبديلها، يكفي إذن أن يتعاون رجلان في هذه المهمة، وكان أحد الرجلين زوجي، وانصرفنا جميعا نستمتع من جديد بالهواء المنعش، والضياء الرقيق، والحديث العذب، والضحكات الناعمة تتأرجح على أرج النسيم فتنتشي بها أسماع الرجال نشوة تترجمها بسمات ثغورهم، وبريق عيونهم.
وكنا إذ ذاك في طريق الصحراء على بضعة كيلومترات من طريق الهرم، فلما استعادت السيارة المنكوبة مقدرتها على السير ركبت كل سيدة مع زوجها حتى بلغنا منازلنا.
لذ لي عيش هؤلاء الذوات، واستراحت نفسي للون حياتهم، وأعجبني فيهم ظرفهم وحسن ذوقهم في الحياة، ولطف مسلكهم فيها، وارتبطت لذلك معهم بأوثق صلة، ولقد كنا حين لا يسعفنا ضوء القمر بسهرات في الهواء الطلق نؤثر أن نجتمع في منزل من منازلنا نقضي فيه سهرة لا تقل عن سهرات الصحراء متاعا ومرحا، كنا نرقص ونغني ونستمع إلى الموسيقى تثير من ألوان الطرب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإذا عدت مع زوجي إلى منزلنا في الهزيع الأخير من الليل كان الجهد قد أخذ منا، فنمنا إلى الضحى، فإذا استيقظت علمت أن زوجي قد بكر إلى عمله كعادته، وأمر ألا يزعجني عن فراشي أحد.
ولم أكن أحسب أن هذا اللون من حياة الذوات باهظ النفقة، لكني سرعان ما تبينت خطئي، فالولائم والأزهار النادرة والحلي والثياب وما يتصل بذلك من ملحقاته لا ينتهي حين يبدأ، ولا تنتهي نفقاته، ونحن نعيش من قبل عن سعة اضطرت زوجي للاستدانة سدا لنفقات سفرنا إلى أوروبا، وليس في مقدورنا الآن وقد عرفنا هذه الألوان الجديدة من الحياة، وتعرفنا إلى أصحابها أن نرتد عنها، حتى نترع منها ويفيض بنا كأسها، ولم يدر بخاطر زوجي أن يخالفني في ذلك حذر المستقبل، ولعل عقله الباطن هو الذي صده عن أن يفعل مخافة كلام الناس، إنه يحسب أنه انتقل بي إلى مصاف الذوات، ومن العار عليه أن يرتد بي عن هذه الصفوف خشية إملاق، فالله يرزق من يشاء بغير حساب، أليس صاحبه المليونير كان إلى بضع سنوات متواضع الثراء، وكان يقترض منه ثم يرد له ما اقترضه، فما ضره وقد أصبح الرجل مليونيرا أن يقترض هو منه في انتظار أن يسد الله عنه دينه؟
ولكن كيف يحتال لذلك من غير أن يجرح إباءه الذاتي؛ دعا المليونير إلى وليمة فاخرة عندنا، وأوصاني أن أبالغ في اللطف معه، والتودد إليه، وحسن اللقيا لزوجه، ولم أجد في تنفيذ الوصية مشقة؛ فقد أعجبتني هذه الزوج، وحلت أجمل مكان من نفسي، فبالغت في تحيتها عن رضا مني، واطمئنان إليها، وكان المليونير قليل الكلام، كثيرا ما يغيب بذهنه عن المجلس، وكأنه يفكر في مشروعاته وحساباته، وقد بذلت جهدي لاستدراجه إلى الكلام في الشئون الجارية مما تنشر الصحف أو تتداوله المجالس، فكان يحصر ذهنه ليحسن الإصغاء إلي، ثم يحييني في عبارات موجزة جدية محكمة.
وزرنا الرجل بعد ذلك وتردد علينا، لقد طالما سمعت عنه من رجال ذوي ثقافة أنه محدود الأفق لا يستطيع أن يسمو بعقله فوق الماديات، وفوق ما يتناول الناس من منافع الحياة، وقد أردت أن أسبر غوره لأعرف مبلغ ما في هذا الكلام من دقة وصدق، فدلني ما شهدت على صحته، لكني رأيت ذلك التفكير المادي الذي ينسبونه إليه واسع المدى إلى غير حد، إذا تكلم في أحد مشروعاته تناول تفاصيله في دقة غاية الدقة، وقص ما أنفق للحصول على هذا المشروع من جهد ومال قصصا يستهوي اللب، ويكاد يذكر الإنسان بالقصص البوليسية، وهو يؤمن بالمال إيمانا لا حد له. وقد ذكرني إيمانه هذا بغني آخر نعرفه جعله الإيمان بالمال شحيحا غاية الشح، إلا أن يكون له من وراء السخاء منفعة مادية، هنالك ينفق عن سعة ولكن بحساب، عابه أحد أصحابه يوما لعبادته المال وحرصه عليه، وكان صاحبه هذا مولعا بالتحف والصور الزيتية ينفق في اقتنائها الشيء الكثير، وكان جواب الغني الشحيح على ما عابه به صاحبه صريحا واضحا، قال: «أوتستطيع أن توضح لي سبب اقتنائك هذه الصور التي تزين جدران بيتك، وهذه التحف الكثيرة المنشورة في أرجائه، وهي تكلفك الألوف؟!» ودهش صاحبه وقال: «عجبا لك يا أخي! ألا تعرف شيئا اسمه الجمال وذوق الجمال والمتاع به، إنني إذ أقف أمام هذه الصور وهذه التحف أتأملها أشعر بمتاع يتضاءل المال إلى جانبه، ويهون في سبيله، إنما المال يا أخي وسيلة للمتاع بالحياة وجمالها، فإذا نحن لم ننفقه واكتنزناه لم نعرف للجمال قدرا، ولم نسغ للحياة طعما.» قال المؤمن بالمال: «إني أوافقك على كل ما قلت، ولا أخالفك إلا في استنتاجك الأخير، أنت تعشق الجمال، وترى في اقتناء الصور والتحف - وإن كلفتك من المال ما كلفتك - وسيلتك إلى المتاع بالحياة، وأنا أرى في المتاع بالحياة رأيا آخر؛ إني حين أتناول كشف حسابي من البنك آخر كل شهر وأرى رصيدي فيه يزداد، أشعر بمزيد من العزة والسلطان يضاعف متاعي بالحياة، ولا تثريب علي ولا عليك إذا اختلف ذوقنا في المتاع بالحياة، واختلفت وسيلتنا إلى هذا المتاع.»
ولم يكن للمليونير كذلك إيمان عميق بغير المال، فكان غرامه بالنساء هوى طارئا لا عمق فيه، وكان تعلقه بمتع الحياة سطحيا لا يعنيه منه إلا المظهر البادي للناس يرضي به غرور نفسه وكبرياء سلطانه، كان لكاتب صحفي دالة عليه، ولقد زاره يوما وأخذ يتحدث وإياه في أمور جارية لا نتيجة لها، ودخل السكرتير وأخبر المليونير أن أحد أصحاب الدولة السابقين يستأذن عليه، وكان صاحب الدولة السابق هذا عضوا منتدبا لإدارة شركة من شركات المليونير، وأجاب الرجل سكرتيره: «قل له فلينتظر فلي حديث معه»، فلما انصرف السكرتير قال الصحفي: «ليس بيننا حديث ذو شأن حتى تنظر رجلا في مقام صاحب الدولة هذا»، وكان جواب المليونير: «بالله عليك خبرني، أتحسب أني - ولي من الثراء ما لي - آكل خيرا مما تأكل، أو ألبس خيرا مما تلبس، أو أنام في فراش أوثر من فراش نومك؟ لا شيء من كل هذا، فأي قيمة للثراء إذن إذا لم أشعر أني أستطيع بفضل سلطانه أن أدع صاحب الدولة هذا وأمثاله ينتظرونني إن أمرت، ويدخلون علي إن شئت؟»
كنت قد سمعت هذه القصة، وخشيت أن ينال زوجي ما نال صاحب الدولة يوم يعلم المليونير أنه يطمع منه في قرض، على أن زوجي لم يخبرني من ذلك بشيء، ولم أسأله أنا عن شيء، لكني لاحظت بعد أن تم القرض أن المليونير قل تردده علينا، وكان أكثر مجيئه حين يكون زوجي في عمله، وكنت ألقاه متلطفة في مودة، فإذا عاد زوجي من عمله أخبرته بمجيئه، وقصصت عليه ما دار بيننا من حديث، فلا يعلق على ذلك بكلمة، وكأن رجلا لم يقابل زوجه، ولم يقل لها عبارة مجاملة.
أدهشني هذا الجمود من زوجي؛ فلا تحركه أية غيرة علي، أنا التي فعلت ما فعلت لغير شيء إلا لعنايته بميراث صديقتي وأطفالها، أتراني أحبه وهو لا يحبني؟ أم أنه طراز من الرجال لا يعرف كيف يعبر عن حبه برغم تعلقه بي؟ أنا لا أطلب إليه أن يكون شاعرا يتغزل في، ولكني أريد منه أن يتحدث إلي ويصغي لحديثي في إعجاب كما يفعل صديقنا، وكما يفعل غيره من الرجال الذين يقضون الساعات مصغين وعيونهم تناجيني في صمت وإذعان، ألا تعسا ليوم ربط الزواج بيني وبينه فيه! ولكن ماذا عساي أن أفعل وهذان الطفلان يوثقاننا في رباط يتعذر الفكاك منه؟
Page inconnue