فلما سمعت سمية كلام أمة الله أحست بانشراح صدرها وارتاح بالها وعادت إليها الآمال. والإنسان سريع الرجوع إلى الأمل لأن طبيعة الوجود تبعده عن اليأس، وحب ذاته يهون عليه الرجوع عن الانتحار حبا في البقاء، ويندر أن يرتكب أحد جريمة الانتحار بعد إعماله الفكرة والتبصر. وما لبثت سمية أن استحسنت رأي جاريتها فقالت لها: «افعلي ما بدا لك، فأنت تعرفين ما في قلبي، فعسى أن يأتيني الله بالفرج على يدك.»
فسرت الجارية لنجاحها في إقناع سيدتها، ولكنها شعرت بهول الموقف، وكانت ترجح موت حسن. على أنها عمدت إلى الصبر وخرجت إلى سيدها وكان واقفا مع عبده تحت نخلة. فلما رآها أومأ إليها أن تدنو منه، فمشت منحرفة عن موقفه ففهم أنها تريد الاختلاء به، فمشى وحده حتى التقيا. فقالت: «إني رأيت سمية مطيعة لك في كل ما تريد، لكنها استوحشت معاملة قنبر فلا تدعه يخاطبها أو يكلمها، ولا يخفى على مولاي أن من كان في حال سمية لا يؤخذ بالعنف، وقد خاطبتها الآن باللين فرأيتها لانت، ولا بد من جلسة أخرى أتمم بها المراد، فإذا كان لا بد من إرسالها إلى معسكر طارق اليوم فدعني أكن في خدمتها حتى نأتي الحجاج ولك علي كل ما يسرك.»
فاطمأن بال عرفجة وهان عليه إبعاد قنبر عنها، وأطاع أمة الله في إرسالها معها وقال لها: «لا بد من ذهابها إلى خيمة أعدوها لها في معسكرهم ولا آمن أن تسير وحدها، فاذهبي أنت معها وأكدي لها أني لم أفعل ما فعلته إلا رغبة في راحتها.»
فقبلت أمة الله يده وقالت: «بارك الله فيك، ولكن سمية تحتاج إلى إحضار ثيابها وأدواتها.»
فقطع عرفجة كلامها وقال: «كل شيء معد لها في خيمتها بالمعسكر وما عليها إلا الرجوع إليه.»
فقالت أمة الله: «ادخل الآن عليها في الخيمة، وكلمها كلاما لينا.» قالت ذلك ومشت فمشى عرفجة حتى دخل الخيمة فرأى سمية جالسة باكية، فدنا منها وأمسك بيدها وقال: «لقد ساءني ما ألجأتني إليه من الكلام الجافي، ولكني علمت من أمة الله أنك فعلت ذلك بالرغم منك، فانهضي وسيري معها إلى خيمتك في المعسكر، وقد أوصيتها بأن تكون في خدمتك.»
فنهضت سمية مطرقة، فأسرعت أمة الله إلى يد عرفجة وقدمتها إلى سمية وهي تقول: «قبلي يد أبيك ليتم رضاؤه عنك.» فقبلتها. وكان الهودج لا يزال معدا فقبلها وأركبها، وأمة الله معها، وركب هو بغلته وسار أمامهما حتى أوصلهما إلى المعسكر وسلم الجمل إلى عريف الجند، فتسلمه العريف وسار معهم إلى خيمة في بعض أطراف المعسكر. •••
كانت سمية في أثناء الطريق غارقة في هواجسها وقد زال أثر كلام أمة الله عن نفسها. ولما مرت بالمكان الذي كان الجمل المكسور فيه رأت بعض العبيد قد نحروه وأخذوا في سلخ جلده، فتصورت أنهم قتلوا حسنا ونحروا جمله، وعظم عليها الأمر ولكنها تجلدت، وكانت أمة الله تراقب حركاتها خلسة. وبعد هنيهة وصلوا إلى المعسكر، فتحققت سمية أنها وقعت في الشباك، وعز عليها أن تزف إلى رجل فظ غليظ القلب بدلا من حبيبها، فاستوحشت وزاد قلقها - والفتاة إذا زوجوها برجل تعرفه وترضاه لا بد من استيحاشها في أوائل أيامها، إلا إذا كان زواجها عن غرام متبادل، فكيف بسمية وهي ترجح قتل حبيبها ظلما، وترى أن أباها قد باعها لرجل لا تحبه والناس يتحدثون بقساوته وشدته وبأن أمره نافذ لا مرد له!
فلما وصل بعيرها إلى الخيمة المعدة لها أناخوه وأنزلوها وأمة الله معها، ثم دخلتا الخيمة، فرأت سمية صندوقها وفراشها وكل معداتها هناك، فجلست على بساط كانوا قد فرشوه لها، وجلست أمة الله إلى جانبها تحادثها وتلاطفها، وسمية تنظر إلى خارج الخيمة تتشاغل بما تراه من حركات الجند والعبيد والخيل والجمال وهي مستغرقة في الهموم. وكان أشد ما شغل ذهنها أن رأت كلبا ينهش خرقة سوداء ويلاعبها بين يديه فيقذفها ثم يعدو في أثرها عدوه إلى فريسة، وتلك عادة الكلاب إذا لم تكن جائعة، ثم اتفق أن قذف الكلب تلك الخرقة فوقعت بين يديها، فما كاد بصرها يقع عليها حتى أجفلت وخفق قلبها ومدت يدها إليها ففر الكلب من أمامها.
فأمسكت الخرقة بأنملتين ورفعتها وتفرست فيها فإذا هي ملوثة بالدم. وما لبثت أن قلبتها وصاحت: «ويلاه هذا هو القباء. هذا قباء أبي قتل حسنا به!»
Page inconnue