القتل أو الزواج بالحجاج
عادت سمية إلى هواجسها بعد أن دخلت الخيمة، فأخذت تفكر في حسن وجمله، وتصورت وقوع ما تخشاه عليه من القتل فازداد بلبالها. ثم خرجت أمة الله لمساعدة بقية الخدم في إعداد الأطعمة وظلت سمية في الخيمة وحدها.
وفيما هي على تلك الحال سمعت سعال أبيها، ثم رأته والعبد قنبر قادمين نحو خيمتها، فاستعاذت بالله من شر ذلك القدوم، ثم رأت العبد يبطئ بينما أسرع أبوها حتى وصل إلى الخيمة، فنهضت للقائه، فقال لها: «كيف رأيت هذا النهار؟ إنه جميل أليس كذلك؟»
فتظاهرت بالابتسام وقالت: «إنه نهار جميل، ولكنني سمعتك تقول إننا ذاهبون إلى العقيق، وأرانا ما زلنا بباب المدينة!»
قال: «إن العقيق بعيد فأحببت أن نستريح قليلا ثم نستأنف المسير إلى العقيق. وما أريد إلا أن تكوني مسرورة فرحة وألا أراك منقبضة النفس وقد تهيأت لك أسباب السرور وإنك لتعلمين حبي لك، وأني انقطعت عن العالم لأجلك ... ولا أدخر جهدا في سبيل راحتك وسعادتك.»
فلما رأت مبالغته في التلطف خافت ما وراء ذلك وظلت ساكتة، فعاد هو إلى إتمام حديثه فقال: «ولقد سرني منك انصياعك إلى مشورة أبيك في شأن ذلك الشاب، ورجوعك إلى ما هو جدير بأمثالك. ويسرني أيضا أن أبشرك بسعادة قد وفقك الله إليها، ويندر أن تنالها فتاة من فتيات المدينة بل هن يغبطنك عليها.»
فازداد قلقها وأحست من وراء ذلك الكلام نذير سوء يزيد في اضطرابها، فظلت ساكتة وقلبها يخفق، ومالت إلى استطلاع ما في نفس أبيها ولكنها خافت أن يكون في علمها بذلك ما يسوءها، فلبثت صامتة لا تدري ما تقول. وكان هو ينظر إلى وجهها خلسة، ويتشاغل بالعبث في لحيته، فتوقع أن يسمع منها استفهاما، فلما بقيت صامتة دنا منها وهي مستندة إلى عمود الخيمة ووقف أمامها وأسند يده إلى العمود وجعل يده الأخرى على كتفها. فاضطربت وازداد قلقها فلم تعد تصبر على السكوت، ثم إذا هو يقول لها: «لماذا لم تسأليني عن تلك السعادة التي أعددتها لك، ألا يسرك أن تعلمي بما يبذله أبوك في سبيلك؟ إنك ستصيرين عما قليل سيدة نساء هذا الجيش.» قال ذلك وأشار إلى المعسكر.
فلما سمعت قوله علمت أنه يعرض بخطبتها لأحد كبار رجال الجيش، فتحققت سوء ما أضمره لها بالأمس وأنها مقبلة على خطر شديد، فارتبكت وحارت في أمرها ولم تدر بماذا تجيب، ولكن الاضطراب بدا على وجهها. ولو أنه تفرس في قرطيها لرآهما يرتعشان ارتعاشا يحاكي خفقان قلبها - وما ارتعاشهما إلا من رجع ذلك الخفقان - واحمرت وجنتاها، فتشاغلت بإصلاح دمالجها في معصميها والنظر إليها في حين أنها لم تكن ترى شيئا لأن الدمع غشي بصرها ثم تساقط كاللؤلؤ على معصميها. فلما رآها تبكي تحقق أنها ما زالت عالقة القلب بحسن، فأراد أن يقطع أملها منه فقال لها: «ما بالك لا تجيبين؟ ألم يعجبك ما دبرته لك من أسباب السعادة؟ أم لم تفهمي مغزى كلامي؟ إنك ستكونين سيدة نساء هذا الجند وجند بني أمية المحاصرين مكة الآن، وإذا أشكل عليك فهم مرادي فاعلمي أنك ستزفين إلى الحجاج بن يوسف كبير أمراء مولانا الخليفة عبد الملك بن مروان، وهو من ثقيف مثلنا، وله ما لا أزيدك بيانا عنه من علو الشأن.»
فلما سمعت تصريحه لم تعد تتمالك نفسها، فغطت وجهها بكمها وأسندت رأسها إلى العمود وظلت صامتة وقد حبست نفسها عن البكاء أو التنهد حتى كادت تختنق وهي لا تدري بماذا تجيب، مخافة أن يفتك بها، فلم تر سبيلا غير البكاء. فلما رآها تبكي أمسك يدها وأبعدها عن العمود بلطف فطاوعته وهي تبالغ في الإطراق فقال لها: «أحسب صورة ذلك الغلام في ذهنك، مع أنه قد مضى وانتهى أمره فلم يبق لك سبيل إليه. فإذا كان في قلبك بقية أمل فيه فانزعيها واطرحيها جانبا.»
فأجفلت سمية، ورفعت رأسها ونظرت إلى أبيها وعيناها تقطران دمعا وكأنها في شك من قوله، فابتدرها قائلا: «صدقيني إنه لم يعد لك سبيل إلى حسن، ولا سبيل له إليك أيضا؛ لأن أمره قد انقضى وأصبح في عداد الأموات.»
Page inconnue