وبينما هو يفكر في ذلك إذ سمع لغطا وراء الستار أعقبه ضحك كثير وصوت يقول: «قد أطلقنا سراحه، اذهبي يا بنانة وأخرجيه، قبحه الله ما أخبثه.» فأدرك أن سكينة هي المتكلمة، ولكنه ظنها تريد إخراجه هو فاضطرب، ثم ما لبث أن رأى ليلى خارجة وهي تشير إليه أن يتبعها، فسار في إثرها حتى خرجا من القاعة، فدنت منه وقالت: «لا تخف، إنها لم تأمر بإخراجك ولكنها أمرت بإخراج أشعب الطماع؛ لأني أوصيتها به عملا بإشارتك.»
فقال: «بورك فيك، ولكن أين سمية.»
قالت: «ليست هنا، كانت في المجلس وخرجت قبل أن أراك.»
فاستعاذ حسن بالله وانقبضت نفسه ثم قال: «هل أنت على يقين مما تقولين؟»
قالت: «لقد تحققت خروجها، فلعلها خرجت إلى بيت أبيها؛ لأنها لا تستطيع الغياب طويلا عنه.»
وفيما هما يتكلمان رأيا أشعب مهرولا نحوهما، فلما بلغ مكانهما هم بتقبيل يد حسن وقال: «جزاك الله عني خيرا فقد أنقذتني من عذاب طويل؛ لأن البيض لم يكن ليفقس قبل بضعة أيام، فأسأل الله - تعالى - أن يقدرني على مكافأتك. هل أستطيع خدمتك في شيء؟»
قال حسن: «إني لم أفعل ما يستحق هذا الثناء.» ثم التفت إلى ليلى كأنه يريد الرجوع إلى الموضوع، فتنحى أشعب قليلا وقال حسن: «أستودعك الله يا ليلى، وأرجو أن أراك في خير.» فقالت: «أسأل الله لك السلامة والنجاح.»
وعجل حسن بالخروج لعله يلقى سمية في الطريق أو في البيت أو في مكان آخر. فلما خرج وجد خادمه عبد الله في انتظاره ومعه الجمل، فركب والشمس قد أذنت بالمغيب وبان الشفق الأحمر، وما زال يحث جمله حتى بلغ بيت عرفجة، فأحس بشيء استوقفه بغتة، وما هو إلا عامل الحب أوقفه بجانب منزل الحبيب، فلم يتمالك أن نادى عبد الله، فجاء هذا ووقف بين يديه وهو يقول: «هل أسأل عن سمية فلعلها عادت؟»
فأعجب حسن بنباهته ودقة شعوره، وابتسم ولم يجب، فأسرع عبد الله إلى البيت ثم عاد وهو يقول: «إنها لم تعد يا سيدي.»
فتنهد حسن، وخيل إليه أن سمية باقية هناك في بيت سكينة ولكن ليلى لم ترها، أو أنها رأتها وأخفت أمرها. وتكاثرت عليه الهموم وتراكمت الظنون - والمحب سيء الظن كلما اشتد حبه كثرت هواجسه وزاد سوء ظنه بحبيبته وأكثره من قبل الغفلة، فإذا رأى حبيبه يخاطب أحدا مهما يكن من شأنه أو مقامه أو قرابته تبادر إلى ذهنه أنه يغازله أو يسر إليه أمرا، وإذا أبطأ عليه بالزيارة سبق إلى فهمه أنه في موعد مع آخر أو لا يحبه أو يحب سواه، وقد يخيل له أن أهل الحبيب كلهم ضده وأنهم يمنعونه منه فإذا تخاطبوا همسا أو قصروا معه في شأن خيل له أنهم يريدون به سوءا أو هم ينصبون له أحبولة؛ فالمحب كثير الهواجس سيء الظنون.
Page inconnue