32
وتم الزواج في اليوم التالي مباشرة. ولم تذهل المرأة لقراره كما توقع. رمقته بنظرة متفحصة لتتوكد من صدقه، فلما تبين لها صدقه أحنت رأسها بالقبول. وقال لنفسه: لعلها تعده الطرف الرابح في الصفقة بسبب الخمسمائة جنيه! وقال لها بعجلة: لنذهب إلى المأذون توا.
فقالت وهي تضحك في سعادة: أفق أولا وانتظر طلوع النهار.
وبات الليل في شقتها الصغيرة بعطفة الشماشرجي. وفي الصباح قال لها: نعد بيتنا الجديد ثم نتزوج.
ولكنها قالت بإصرار نهائي: بل نتزوج ثم نعد بيتنا.
وجيء بالمأذون إلى البيت. واقتضت الإجراءات شاهدين فلم تجد إلا قوادين ممن كانوا يعملون معها. وجرت المراسم البسيطة وهو يتابعها بذهول. ما هذا الذي يجري؟ واجتاحه شعور ممزق بالقلق بلغ حد الرعب فتمنى لو يقع حادث من عالم الغيب فيبدد سحابات الكابوس الذي يعاني. ثم اجتاحته موجة من الاستسلام بلغت حد الاستهتار. ولما أدلى باسمه وعمله وقع ذلك من المرأة والقوادين موقع الذهول. قال لنفسه إنهم سيتهمونه بالجنون كما يتهمه الآخرون. ولعله من الإنصاف أن يعترف - بدءا من اليوم - بأنه مجنون مجنون. كهلة نصف سوداء في ضخامة بقرة مكتنزة تحمل فوق كاهلها نصف قرن من الابتذال والفحش. هكذا تحققت الأمنية التي تاق إلى تحقيقها بجنون، فأصبح زوجا، كما أصبحت قدرية - رفيقة شبابه - زوجة له. ترى ماذا فعل بنفسه؟! وقال: علي أن أبدأ حياة جديدة ..
ولإعجابه بروض الفرج - الذي رآه وهو يعود حمزة السويفي - استأجر به شقة من ثلاث حجرات وصالة، ومضيا يؤثثانها معا بعد أن ألزمها بالحجاب، باسم الحشمة في الظاهر، وفي الحقيقة خوفا من أن تقع عليها عين زبون قديم أو حديث. ابتاعا حجرة للنوم وثانية للسفرة وثالثة للمكتبة والجلوس والاستقبال، وثيابا لها وله، وراديو وغير ذلك. وقد أسهمت في التجهيز بمائة جنيه ورصد هو لها بمثلها. وبدافع من الاستهتار الذي ركبه مال إلى تغيير سياسته نحو «النقود» فأنفق - كلما دعا الداعي - باستسلام يائس غطى على الألم المعتاد في مثل تلك الأحوال، وتملكته رغبة قوية في الاستمتاع بطيبات الحياة التي طالما حرم نفسه منها. وودع أم حسني وداعا مؤثرا. فذهلت العجوز لقراره وبكت قائلة: لا تهجر منبتك فليس في ذلك خير.
ولكنه هجره بلا أسف، ولم يكن مما يصح التفكير فيه أن يجيء بقدرية إلى حارة الحسيني، ونظر إليه بصفة عامة كرمز للبلى والحرمان والضياع والذكريات المحزنة. أغرق آلامه الظاهرة والخفية في المتع المتاحة، وأصر على تذكير نفسه - وإقناعها - بأن قدرية هي المرأة الوحيدة التي أحبها حبا حقيقيا، وإلا فكيف عاشرها ذلك العمر الطويل كله؟! وها هي لا تألو جهدا في لعب دور ست البيت في الوسط الجديد «الراقي» الذي يعد الانتقال إليه من «الدرب» وثبة خيالية. ودعا الله ألا تراها العيون التي عرفتها. ونصحها قائلا: تجنبي الاختلاط بالجيران. - فسألته: لم؟ - الناس أخلاقها لا تسر!
وكان يخشى أن يقع خلاف بينها وبين إحدى الجارات فتنسى تحفظها وتنفجر براكين الفحش الكامنة في أعماقها. عدا ذلك فإنه لا يجحد اجتهادها الصادق في إسعاده وحرصها على النجاح في حياتها الجديدة. وبمضي الأيام اطمأن إلى الحياة الجديدة، سلم بواقعها، ونعم بما وفرته له من أنس وراحة ونظام ونظافة، وها هو يصلي بلا قلق ولا حرج، بل ها هو يتقرب إلى ربه بما أنقذ من روح ضائعة، ولعلهما روحان لا روح واحدة.
واعتقد أن حياته الدنيا قد كملت بالمقسوم له وأنه آن له أن يفكر في آخرته. قال: واجب علي أن أشيد لي مدفنا!
Page inconnue