فتساءل عثمان بقلق: وكيف نفرق بين السام وغير السام؟ - عندك فراش المحفوظات؛ فهو أصلا من أبو رواش وهي بلدة الثعابين ..
وتناسى ذلك واعتده مزاحا. وراح يلوم نفسه: كيف فاته أن يرى بكل عناية حجرة صاحب السعادة المدير العام! كيف فاته أن يملأ عينيه من وجهه وشخصه! كيف لم يحاول أن يقف على سر السحر الذي يخضع به الجميع فيجعلهم طوع إشارة منه! هذه هي القوة المعبودة، وهي الجمال أيضا. هي سر من أسرار الكون. على الأرض تطرح أسرار إلهية لا حصر لها لمن له عين وبصيرة. إن الزمن قصير بين الاستقبال والتوديع، ولكنه لا نهائي أيضا. الويل للذي ينسى هذه الحقيقة. ثمة أناس لا يتحركون مثل سعفان أفندي بسيوني. الرجل الطيب التعس. إنه يترنم بحكمة لم يتعلم منها شيئا. كذلك كان أبوه عم بيومي. وليس كذلك من مست النار المقدسة قلوبهم. هناك طريق سعيدة تبدأ من الدرجة الثامنة وتنتهي متألقة عند صاحب السعادة المدير العام. هذا هو المثل الأعلى المتاح لأبناء الشعب، ولا مطمح لهم وراء ذلك. تلك هي سدرة المنتهى حيث تتجلى الرحمة الإلهية والكبرياء البشري. ثامنة .. سابعة .. سادسة .. خامسة .. رابعة .. ثالثة .. ثانية .. أولى .. مدير عام. معجزتها تتحقق في اثنين وثلاثين عاما، وربما تحققت في أكثر من ذلك. أما الساقطون في وسط الطريق فلا حصر لهم. إن النظام الفلكي لا يطبق على البشر وبخاصة الموظفون منهم .. والزمن يستكن بين يديه كطفل وديع ولكن لا يمكن التنبؤ بغده. إنه يشتعل، هذا كل ما هنالك. ويخيل إليه أن النار المتقدة في صدره هي التي تضيء النجوم في أفلاكها. نحن أسرار لا يطلع على خباياها إلا خالقها.
وقال له سعفان أفندي بسيوني: ستدرب أولا على الوارد؛ فهو أسهل ..
ثم وهو يضحك: على كاتب المحفوظات أن يخلع جاكتته وهو يعمل، أو أن تحيك لكوعه كمامة من القماش تقيه شر الغبار والإكلبسات.
كل ذلك يسير، أما العسير حقا فهو كيف نتعامل مع الزمن ..
3
في مسكنه - حجرة وحيدة ومرافق - يرى نفسه، يتجسد له معنى حياته. إنه يعيش متفتح الحواس مرهف الوعي ليتزود بكل سلاح. ومن نافذته الصغيرة يرى وطنه - حارة الحسيني - كأنها امتداد لروحه وجسده. حارة طويلة ذات منحنى حاد، مشهورة بموقف للكارو ومسقى للحمير. البيت الذي ولد ونشأ فيه تهدم. وقامت في موضعه باحة صغيرة لعربات اليد. قليل من مواليد الحارة من يبرحها بصفة نهائية إلا للقبر. يعملون في مواقع كثيرة، في المبيضة .. الدراسة .. السكة الجديدة .. أو فيما وراء ذلك، ولكنهم يرجعون إليها آخر النهار. ومن خواصها الحميمة أنها لا تعرف الهمس أو النجوى، أصواتها مرتفعة جدا، متوترة بين الحكمة والبدائية، ومن بينها صوت قريب قوي خشن لم يخلخله الكبر، صوت أم حسني صاحبة البيت. إن أحلام الأبدية جد مرهقة، ولكن ماذا كان بالأمس، وماذا يكون اليوم؟ خليق بمثله ألا يعرف المستحيل. وخليق به ألا يترك نفسه للتيار بلا خطة. وخطة محكمة. كثيرا ما يحلم أنه يبول ولكنه يستيقظ في اللحظة المناسبة، فما معنى ذلك؟ أم حسني كانت صديقة لأمه وزميلة ومرشدة، صديقة عمر طويل. كانت كلتاهما زوجة لسواق كارو، وعاملة كادحة، تكد بصبر النمل ودأبه سعيا وراء القرش، تسند به زوجها وترمم عشها. دلالة .. ماشطة .. خاطبة، وغير ذلك. ماتت أمه وهي تعمل، أما أم حسني فما زالت تعمل بهمة عالية. وكانت أم حسني أحسن حظا وأوفر رزقا فتجمع لديها من المال ما بنت به بيتها المكون من ثلاثة أدوار؛ مخزن أخشاب أرضي، وشقتين، تقيم هي في إحداهما وعثمان في الأخرى. وابنها حسني لم يخلف وراءه إلا اسمه أما شخصه فقد حملته أيام الحروب والمحن إلى بلاد نائية فاستقر فيها.
ألا يحق له أن يحلم؟ إنه يحلم بفضل الشعلة المقدسة التي تتقد في صدره، وبفضل حجرته الصغيرة يحلم أيضا. وألف أحلامه كما يألف الفراش والكنبة والسحارة والحصيرة، وكما ألف الأصوات الحادة والمنغومة التي تند عن حنجرته فتردد أصداءها الجدران الراسخة القاتمة.
ماذا كان بالأمس؟ أراد أبوه أن يجعل منه سواق كارو مثله ولكن شيخ الكتاب قال له: يا عم بيومي توكل على الله وأدخل الولد المدرسة الابتدائية ..
فذهل الرجل وتساءل: ألم يحفظ من القرآن ما يقيم به الصلاة؟
Page inconnue