ولم يفهم سعفان قوله ولكن الآخر كان يعيشه. كان يحمل الزمن على ظهره لحظة فلحظة ويعاني الصبر نقطة نقطة. وسرعان ما نسي تماما أنه رقي إلى السابعة أو أنه يعمل في إدارة الميزانية، كان يعمل بجنون في الوزارة، ويتبحر في المعرفة في حجرته الصغيرة. وبين هذا وذاك يقول بجزع: العمر يجري .. الشباب يجري .. الأيام لا تريد أن تستريح ..
وما زال في أول الطريق الطويل. وكان ولعه بالادخار يزداد مع الأيام، واستمساكه بمسكنه البدائي يقوى ويشتد. المال حصن، هكذا يشعر. وهو مهر عند الضرورة لعروس الأحلام. وعروس الأحلام هي التي تفتح مغالق الأبواب وتستنزل جوهرة المستقبل من معتصمها. وللموظفين في ذلك أقوال مأثورة وحكم وأمثال. العروس الجميلة إما أن تكون هدية مجد مبكر أو ذريعة إلى المجد المستعصي. والطريق يبدو شاقا وطويلا فهو في حاجة إلى إسعاف. وهم يقولون: سعادة المدير العام ارتقى إلى مركزه الفريد وهو شاب تقريبا بفضل السياسة والأسرة فتزوج من فتاة من أسرة تعد من ملكات الجمال.
ويقولون أيضا: أما الوكيل الأول للإدارة فترقى بفضل زوجته، أو أسرة زوجته وهو الأصح ..
وهو يزود نفسه بكل سلاح فلا عيب إذا استعان بعد ذلك بعروس كريمة، وإلا فكيف يقف ضد تيار الزمن المتدفق بلا رحمة؟! ولذلك راح يترجم للصحف والمجلات ليزيد من دخله ويزيد بالتالي من مدخراته. ونجح في ذلك نجاحا لا بأس به. ولم ينفق مليما جديدا للتخفيف من تقشفه. ولم يعرف من عالم اللهو إلا زيارته الأسبوعية لقدرية في الدرب وشرب قدح النبيذ الجهنمي بنصف قرش. قالت له مرة: أنت لا تغير هذه البدلة أبدا، هي هي صيفا وشتاء، أعرفها من سنوات كما أعرفك ..
فقطب ولم يعلق فقالت: لا تغضب، أنا أحب الضحك ..
فسألها بسذاجة: هل جمعت ما أعطيتك من نقود طيلة السنين الماضية؟
فقالت ساخرة: عشقت رجلا مرة فسرق مني مائتي جنيه، هل تعرف معنى مائتي جنيه؟
تخيل المصيبة فاستعاذ بالله وقال لنفسه إن كوارث الدنيا لا تعد ولا تحصى، وسألها: وماذا فعلت؟ - لا شيء، ربنا يحفظ صحتنا فهي الأهم ..
قال لنفسه إنها مجنونة بلا شك؛ ولذلك فهي بغي. ولكنها كانت الترفيه الوحيد في حياته الشاقة، ووهبته عزاء لا بأس به. وأحيانا كان يحن إلى الحب وأيامه وسحره الذي يغير مذاق الدنيا، ويتذكر سيدة وسلم السبيل المهجور والصحراء، ولكنه يستسلم في النهاية لدعابات الدنيا القاسية، ويرضى عن نفسه المعذبة لاختيارها الطريق العسير المكلل ببركة الله ومجده العالمي. وقالت له قدرية ذات ليلة: ألا تحب أن نمضي صباح الجمعة معا في نزهة؟
فدهش وقال: إني أجيئك كاللص متخفيا في الظلام .. - مم تخاف؟
Page inconnue