وفي المحطة التالية صعدت الفتاة، واحدة من بنات هذه الأيام، نحيفة، قمحية، حتى ابتسامتها قمحية، شعرها ذيل حصان، وصدرها لم يبلغ بعد حب الرمان، ولكن «السوتيان» تكفل بإنضاج حب الرمان، وكانت تمسك في يدها مندوب العائلة؛ أخاها الصغير، الموفد - لا بد - لحراسة الحمل النحيف من قطعان الذئاب.
وأتوبيساتنا مزدحمة، ودائما مزدحمة، حتى ليخيل لي أننا لا نعتبر ازدحامها مشكلة، ولكننا نعده مفخرة قومية كالأهرام وأبي الهول، سنظل نحتفظ بها إلى أبد الدهر.
وكان الأوتوبيس مزدحما، ومزدحما بالرجال الكبار، كلهم يرتدون السترات الغامقة، وأربطة العنق الوقورة، الجالسون جالسون في أدب واتزان، والواقفون واقفون، رغم تلاصقهم وازدحامهم، في جد وحزم، حتى حين كان الأوتوبيس يهوي بالواحد منهم ويجعله يتأرجح كالدائخ ذات اليمين وذات اليسار، كان يفعل هذا في جد ووقار أيضا، وبوجه صارم الملامح والقسمات.
والسيد الجالس بجواري كان هو الآخر من هذا الصنف الوقور الحازم، بل كان واضحا أنه أكثر الركاب جدا ووقارا؛ إذ كان هو الوحيد الذي يرتدي بالطو فوق بدلته، مع أن الصباح كان جميلا مشرقا يغري الإنسان بالمشي عاريا تحت أشعة الشمس.
وحين صعد الشاب، صعد مبتسما، ولكن أحدا من الرجال الكبار لم يعبأ به أو بابتسامته.
وحين صعدت الفتاة، صعدت مبتسمة، ورمقها الرجال الكبار ذوو السترات بنظرات سيئة النية، ولكنهم اطمأنوا حين وجدوا أنها في أعمار بناتهم أو دون ذلك، وأنها لا تصلح للفراش، بل لا «يليق» أن ترى مع أحدهم في الشارع؛ ولهذا سرعان ما صرفوا النظر عنها وعن ابتسامتها!
ولكن جاري أعلن رأيه بصراحة، فقد شعرت به يتململ داخل البالطو حين صعدت الفتاة، وما لبث أن عقد ملامحه وقال في شبه غمغمة مستنكرة: «ودي إيه اللي يخليها تركب في الزحمة دي كمان؟! قلة أدب!»
وكدت أنا الآخر أصرف النظر عنها، لولا أن حدث شيء؛ نفس الشيء الذي يحدث كلما صعد إلى عربة الأوتوبيس راكب جديد، فقد تقلقلت صدور، واصطدمت بطون، واستعملت الأكتاف للمرور، وتبودلت كلمات الاعتذار بالإنجليزية والفرنسية والعربية والبلدية، وحدثت حركة تنقلات وترقيات بين أصحاب الأمكنة، وحاول كل منهم أن ينتهز الفرصة ويحتل المكان الذي طال حلمه به.
وكان من نتيجة تلك الحركة، أن جاءت وقفة الشاب الصغير بجوار الفتاة الصغيرة، وجاءت وقفتهما بجوار المقعد الذي أحتله أنا والسيد جاري.
ورمق كل منهما الآخر بنظرة سريعة لا هدف لها ولا معنى، لم تغير من الابتسامة التي صعد بها كل منهما، بل لم يلحظها أحد من ركاب العربة.
Page inconnue