لطفي عبد العظيم داود
هو بكري عبد العظيم داود وفريد حسام، كان في الجمال صورة من أمه وشقيقته فهيمة كما حظي بذكاء أبيه وجده داود. وفي صباه ومراهقته توثقت أسباب المودة بينه وبين آل عمرو وخاصة عامر، كما هام بالحي العتيق وأطوار راضية الغريبة الخارقة للمألوف، وفتنه جمال مطرية كما فتنها جماله، فنشأت قصة حب حيية في تقاليد ذلك الزمان. وتفتحت القلوب وربت لاستقبال أمطار الأنباء السعيدة. ولكن ما كاد لطفي يشير من بعيد إلى رغائبه حتى كأنه فجر قنبلة في فيلا آل داود بشارع السرايات. تناسوا القربى، وحب عامر وعفت، وأخوة عمرو وعبد العظيم، واعتبروا الإشارة زلة ذوق ضل الهدى وتردى في هاوية الانحطاط. وحوصر لطفي حتى خطبت مطرية وتلاشى الخطر. وغضبت راضية وصبت لعناتها على من لا أصل لهم، وتوجع قلب عمرو واحتقن وجهه بالدم، وحرض سرور أخاه قائلا: ما ينبغي لغضبك أن ينطفئ.
غير أن صداقة فريدة حسام تكفلت براضية، وأحسن عمرو - كالعادة - الحوار مع انفعالاته. وغلبت رابطة الأسرة طوارئ نزواتها. ما أكثر ما يقول بنات داود في بنات عمرو وسرور وما أكثر ما يقول بنات عمرو وسرور في بنات داود، وما أفظع ما يتهكم به آل داود على آل عطا، وما أقسى ما يتندر به آل عطا على آل داود، ولكن متانة الأساس كانت تصمد للزوابع والأعاصير التي تهب على البيت الكبير. وفي تلك الأيام الغريبة كان الحب ينسى في مواعيده المعقولة. وسرعان ما انشغل لطفي بدراسة الطب حتى حصل على إجازته. وسافر في بعثة إلى ألمانيا ثم رجع ليستهل حياته العلمية الفريدة في وزارة الصحة، وأثبت نبوغه في الإدارة والعلم، وظفر بمكانة مرموقة بين الأحزاب المتخاصمة رغم انتماء أسرته المعروف، ولكنه كان أدنى إلى الاستقلال منه إلى الحزبية، ولم يتردد في إعلان ولائه للعرش كموظف كبير أمين، وبذلك ظفر بالبكوية ثم الباشوية، وهو ما بين الشباب والكهولة، وقد لعب عمرو دورا تاريخيا في تزويج لطفي؛ ذلك أنه كان صديق صبا لرجل أصبح رئيسا للقومسيون الطبي هو بهجت بك عمر. ورأى كريمته آمال خريجة الميردي دييه، وذات الجمال الفريد، فخطر له، انسياقا مع طبيعته الدمثة، وحرصه على كسب القلوب أن يخطبها للطفي؛ فسعى سعيه الجميل بين آل عبد العظيم وآل بهجت، وتمت على يديه زيجة من أسعد الزيجات، وأصبح بها صاحب الفضل المعترف به في الأسرتين. ونشأت الأسرة الجديدة في فيلا بالدقي، ولم تتردد تلك الأسرة المصرو-أوروبية عند زيارة منشئها عمرو أفندي في بيته العتيق بميدان بيت القاضي. وفتنت آمال بالحي العريق وبراضية، وأضافت إلى زوار البيت الكبراء أمثال آل عطا وداود وآل بليغ معاوية وردة جديدة فواحة بعبير إفرنجي وسحر من نوع جديد فتن الأهل والجيران بمثل الجذبة الصوفية، وقد أنجبت له فريدة وميرفت وداود، وعاشوا - عقب المراهقة - في الخارج، فريدة وميرفت زوجتين لرجلين في السلك السياسي، وداود طبيبا في سويسرا وتزوج من سويسرية. ولما قامت ثورة يوليو كان لطفي من القلة التي لم يمسها سوء من طبقته حتى أحيل إلى المعاش وهو وكيل وزارة. ولكنه خسر جل مدخراته الموظفة في أسهم وسندات عند التأميم، وقد توفي عقب وفاة أبيه في السبعين بسرطان المعدة، وهي سن تعتبر من الشباب في أسرة عبد العظيم المعمرة.
حرف الميم
مازن أحمد عطا المراكيبي
أعذب من الورود التي تتلألأ في الحديقة الكبيرة بسراي آل المراكيبي، ازدهرت في شخصه دماثة أبيه أحمد بك وجمال أمه فوزية هانم، وكان من أحب الشخصيات إلى قلوب آل عمرو، بل وسرور وداود. ومنذ صباه أحب ابنة عمه نادرة وأحبته؛ ولذلك كان أشقى الناس جميعا بالخلاف الذي مزق الأسرة، وتعرض لذلك إلى غضب شقيقه عدنان مفجر الثورة. وكان متعثر الخطوات في دراسته، ولكنه اختار الزراعة ليستثمر دراسته في حياته العملية كي لا تتكرر المأساة مرة أخرى في المستقبل. ورغم حداثة سنه النسبية سعى سرا لدى قريبه عمرو أفندي ليبارك محاولاته للتوفيق بين الشقيقين الغاضبين، وحث خفية حبيبته وابنة عمه على حفظ حبهما بمنجاة من العاصفة حتى تهدأ. ولما مرض أبوه الطيب مرض الوفاة، وانقشعت غيوم الأحزان لم يمنعه الحزن على أبيه من الترحيب القلبي بعودة السلام إلى أركان الأسرة. وقرر أن يعلن خطبته عقب انقضاء عام الحداد، وكان يطوي العام الأخير من دراسته. وفي مطلع الربيع سافر مع بعثة من الطلبة إلى الإسكندرية في رحلة دراسية، وخطر له أن يستحم في الشاطبي مع بعض الصحاب، فخانه الموج فغرق. حقا لقد أحدث موته هزة عنيفة في الأسرة، ولكنه ترك في أعماق نادرة جرحا لم يقدر له أن يندمل أبدا. وورثه عدنان، وصار بذلك أثرى آل عطا، ولكنه كان أيضا الوحيد الذي طبق عليه قانون الإصلاح الزراعي بعد قيام ثورة يوليو.
ماهر محمود عطا المراكيبي
ولد ونشأ في سراي ميدان خيرت، وكإخوته تلقى التربية الجادة والرفيعة معا. وكان طويلا رشيقا وسيما وذا كبرياء طبقية ملموسة. ولم يكن يزور أهله إلا في المناسبات، وتجنب آل داود بصفة خاصة، ولم تكن حياته الدراسية تبشر بخير؛ فاختار الكلية الحربية هدفا لحياته التعليمية. وشغف بالحياة الأرستقراطية في جميع مظاهرها؛ من إيثار العرش على الأحزاب، ومصادقة أبناء طبقته، واستثمار جماله في عشق الغواني. وأزعج أباه بمطالبه المالية، وكان محمود بك يحب أن ينشئ أبناءه على الانضباط من غير حرمان، فأزعجه ذلك الابن الخارج عن الخط المرسوم. وفي الوقت نفسه كان يحبه ويعجب به، فتغافل عن تحيز زوجته له وإسعافه بما يحتاج إليه، وكان الكبر قد ألان عريكته، وكذلك المرض. والتحق ماهر بالكلية الحربية وتخرج في مطلع الحرب العالمية الثانية، وبحكم الصلات الشخصية وبتأثير شقيقه عبده انتظم في سلك الضباط الأحرار، مرتكزا إلى عواطف سطحية وغير مؤمن إيمانا جديا بما يقال عن آلام الشعب وصراع الطبقات. ولما قامت الثورة وجد نفسه من المقربين، ووثب دون عناء إلى منزلة لم يستطع أن يبلغها بخطواته الدراسية المتعثرة. ولم يكن مقتنعا بقانون الإصلاح الزراعي رغم أنه لم يطبق في أسرته إلا على ابن عمه عدنان، ولكن مجال الطموح انفسح أمامه إلى آفاق غير محدودة. واستأجر شقة في الزمالك لغرامياته، وعلا نجمه فعين في الحرس الخاص للزعيم. وظل في مكانه بعد النكسة وحتى وفاة عبد الناصر. وأحيل إلى المعاش بعد ذلك بقليل؛ فتفرغ لشقة الزمالك، وطيلة ذلك العمر لم يكن الزواج يخطر على باله قط. ولما هلت طلائع الانفتاح أقنعه بعض الأصحاب بالعمل في الاستيراد، فباع أرضه وانهمك في عمله الجديد، وأثرى من ورائه إثراء عظيما. وجمعت السراي عبده وماهر ونادرة على عقم من ناحية الذرية ومال يتدفق، وكأنما يعدونه للآخرين .
محمود عطا المراكيبي
أول ثمرة لزواج عطا المراكيبي من الأرملة الثرية هدى الألوزي، ولد ونشأ وترعرع في أحضان العز والفخامة، ما بين سراي ميدان خيرت وسراي العزبة في بني سويف، ودون أن يعلم شيئا عن حياة أبيه الأولى. ولكنه خالط أقاربه - أخته نعمة وذريتها رشوانة وعمرو وسرور - منذ سنيه الأولى وتشرب قلبه بحب الحي العتيق. ومنذ نشأته وضحت معالم شخصيته الإيجابية القوية وزادت معالمها بروزا بالمقارنة بشخصية أخيه الأصغر أحمد الوديعة الدمثة. غير أنهما في التعليم كانا على مستوى واحد لا يبشر بالاستمرار، فاكتفيا كابني أختهما عمرو وسرور بالابتدائية، ثم ركن أحمد إلى حياة أبناء الذوات، على حين لازم محمود أباه، تلميذا فطنا ومريدا صادقا ومساعدا قويا. وتجلى بنيانه مثالا للقوة والفظاظة بقوامه الربعة ووجهه الغليظ الحسن القسمات ورأسه الكبير القائم على عنق قصير مليء، وشفت هيئته ونظراته المقتحمة ومتانة هيكله عن التحدي والصراع والبطش. ولم يجد أبوه ما يؤاخذه عليه في شبابه الأول سوى نزوات مما يجري في الحقول، فخطب له ولأخيه شقيقتين مهذبتين من آل بكري جيرانه، فبدأ محمود حياته الزوجية الموفقة مع نازلي هانم، ولم تنحرف عينه إلى امرأة أخرى طوال حياته، ونجحت الحياة الزوجية بفضل تعلقه بإلهام، وبفضل تربية المرأة الرفيعة وتقديسها التقليدي للزوج والحياة الزوجية، وأنجبت له مع الزمن حسن وشكيرة وعبده ونادرة وماهر. ومن بادئ الأمر وبدهاء فريد قرر محمود الاستحواذ على قلب أبيه. عرف فيه البخل فمثل بين يديه دور البخيل، وإن كان في ذلك معتدلا لا هو بالبخيل ولا بالكريم. أما في العمل فقد حاز إعجابه بمثابرته ودقته وحسن تقديره مع مغالاة في العنف في معاملة الآخرين ورفض التساهل كأنما هو جريمة أو خيانة. وأبوه نفسه كان يساوره الجبن أحيانا فيقول له: من الحكمة أيضا ألا نخلق لنا عدوا كل يوم!
Page inconnue