ولم تخف عنها انتقادها الثابت لخالها ولسائر أسرتها، قالت: إنهم يعبدون المال والجاه ولا كرامة لهم.
فقالت لها رشوانة بارتياع: ما أقساك في حكمك، إنهم أناس طيبون ويتقون ربهم.
فقالت لها برقة: أنت طيبة وتحكمين عليهم بطيبتك، ومن هنا الخطأ.
وراحت تبث قلقها للجميع ... لأخيها عمرو، وراضية، ولنازلي هانم وفوزية هانم، وفريدة هانم حسام حرم عبد العظيم داود، فلم يوافق أحد على كبرياء البنت، وتنبئوا لها بالندم حيث لا ينفع الندم، أما راضية فتساءلت: ومن الكافر الذي حرم الزواج على المعلمات؟!
وكانت رشوانة تلاحظ ابنتها بقلق، محاولة النفاذ إلى أعماقها، متسائلة عن أفكارها وعواطفها وعن المخبأ لها في زوايا حياتها الغريبة التي تشبه حياة الرجال.
وكلما توترت لها أعصاب أو شكت شأنا من شئون العمل فسرت رشوانة الحال بدواع أخرى مستقرة في أعماق تلك الحياة الشاذة السقيمة، وتراها وهي تزداد بدانة وتفقد طلاوة شبابها وجمالها يوما بعد يوم، وتتطبع بطابع الجدية والخشونة كأنما يحولها العمل - وهي لا تدري - إلى رجل. وتخلو إلى أخيها سرور أفندي في بيته بميدان بيت القاضي وتقول له: فيك الخير يا أخي، لماذا لا تخطب دنانير لابنك لبيب؟
فيقول سرور متهربا: لكنها لا تريد أن تتركك تحت رحمة الغير. - أستطيع أن أقنعها إذا سعدت بعريس لقطة كابنك.
فقال لها بصراحة: الحق أني لا أرحب بزواج لبيب حتى تتزوج جميلة وبهيجة وزينة؛ أنا رجل لا أملك سوى مرتبي الصغير ولا غنى عن مساعدته لتجهيز البنات.
وترجع بغصة لتجتر همومها التي لا تتخلى عنها إلا أويقات صلاتها. وتنظر فترى الشباب يختفي تماما وتحل محله صورة كئيبة موسومة بالخشونة والجفاف، فلا يشك أحد أنه خيال عانس تعكر لها الدهر، وتتراكم الهموم برحيل الأحبة واحد في إثر آخر، ذهب أحمد وعمرو ومحمود وسرور، وإذا بقلبها يخونها بالمرض بعد أن خانها بالحزن الدائم. وتستوطن الفراش على كره، وتسهر ليالي من الألم، وتشعر بأن الموت يأخذ أهبته ... ويعودها آل المراكيبي وآل داود ويتردد عليها آل عمرو وسرور، وتوصي كل فرد بدنانير، وقالت لابنتها وكأنما تلقي إليها بوصيتها الأخيرة: تزوجي في أقرب فرصة!
وساعة الاحتضار وثبت دنانير إلى الفراش، وأسندتها إلى صدرها، وراحت تتلو ما تيسر لها من الآيات، حتى لفظت المرأة أنفاسها، وأصبحت هي وحيدة بكل معنى الكلمة.
Page inconnue