فقالت بحدة: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!
فقال الرجل برجاء: البيوت السعيدة تقوم سعادتها على الأصل والأخلاق.
فقالت بسخرية: والمال! ... آه يا ناري!
وأفضى سرور أفندي باستيائه إلى شقيقه، وراح يفسر الأمر فيما بينه وبين نفسه برغبة أخيه الجامحة في التعلق بأذيال أقاربه الأغنياء، وبأن محمود عطا اختار بنفسه عريسا لابنته كحامد لشعوره العميق بتفاهة ابنته، وبأنه إذا لم يظفر لها بشخص بسيط مكبل بأفضاله فلن يتقدم لها إلا بلطجي ممن يطمعون في مالها واستغلالها ونهبها. ولما اتهمت ست زينب راضية بأنها لا تحب لهم الخير، قال لها سرور: المسألة أكبر من راضية، إنها صفقة يبدو حامد في ظاهرها هو الرابح، والحقيقة أن الرابح الحقيقي هو المراكيبي وابنته التي ما كانت لتجد عريسا يجبر الخاطر، وأخي رجل طيب ومغفل.
ولم تسر واحدة من بنات عمرو، وقالت صدرية معلقة على الخبر: سيتزوج أخي من رجل كامل الرجولة!
ولما قامت ثورة 1919 كان حامد في السنة النهائية، وقد مال قلبه إليها بمجامعه، واتهم بالتحريض على الإضراب، وحوكم، وأنزل إلى السنة الأولى من جديد، وكان الجميع يستبقون في بذل التضحيات، فلم يحزن عمرو أفندي كثيرا، وحمد الله على أنه لم يفصل ويلق به في الطريق. ولما تخرج ضابطا، كانت مكانة محمود بك قد ارتفعت بإعلان ولائه للملك، فأمكنه أن يلحق حامد بالمراكز الرئيسية في الداخلية مع ابنه حسن، وسرعان ما زفت إليه شكيرة دون مطالبته بأي تكاليف فعلية، فانتقل من البيت القديم ببيت القاضي إلى سراي ميدان خيرت ليحتل هو وعروسه جناحا صغيرا في الطابق الأوسط الخاص بآل محمود.
نقلة ثورية بلا شك، ربيب الحواري في زواياها الكاسدة يجد نفسه بين يوم وليلة في سراي سامقة، تحيط بها حديقة غناء، وتزينها التحف والتماثل والأثاث الفاخر، وتطربها لغة الهوانم الرفيعة بأعذب ألحانها، وتحفل موائدها بأطيب الأطعمة، وتعبق إلى جانب ذلك بمناخ ديني مهذب لا أثر فيه لغيبيات راضية الخارقة. وجد حامد نفسه في قفص يحرسه رجل جبار هو محمود عطا المراكيبي وهانم غاية في العذوبة والجمال هي نازلي هانم، أما شريكة حياته وقريبته فكادت تكون صورة من أبيها في تكوينه الصلب ونسخة من أمها في التهذيب والورع. ولم يكن بوسعه أن يغير من طبعه، فقد تعامل في صباه مع البلطجية وها هو يواصل تعامله معهم كضابط شرطة كلما تمادوا في انحرافهم! ولم يكن من الممكن أن يولد حب في خليته الصغيرة، وما جرب في حياته سوى اللذة العابرة، ومنذ الأسابيع الأولى في حياته الزوجية أسفرت طبيعته عن حقيقتها في الكلمة والفعل. أجل لم ينس القفص والحارسين، كان يهاب محمود بك أكثر من أبيه، ويقف أمامه كما يقف أمام رؤسائه العظام بالداخلية، فكبح جماحه، على قدر استطاعته، وروض نفسه على الرضا بواقعه، لكن العادة قاهرة واللسان خائن. وقد ارتعبت العروس وهمست لأمها: إنه غاية في الابتذال، أكله وشربه وحديثه .
وكانت الهانم ست بيت بالمعنى الكامل؛ طالبتها بالحكمة والصبر، وقالت لها: كل ذلك لا يمنع من أن يكون رجلا صالحا.
كانت خير وساطة بين الطرفين ولم يدر أحد شيئا عما يدور في الجناح الجديد. سرعان ما اعترضت الهانم مشكلة جديدة نشأت عن الكراهية المتبادلة بين راضية وشكيرة. لم تكن راضية تدري كيف تداري عواطفها، وكانت شكيرة لا تمارس النفاق. وكانت المودة بين نازلي هانم وراضية كاملة، ولكنها كانت في أعماقها تؤمن بخطورتها، وقالت لابنتها: حذار، حماتك عليمة بفنون السحر وأسرار الأولياء، وأنا أصدق ما يقال من أنها مؤاخية للعفاريت، أعطيها حقها الكامل من الاحترام والمجاملة.
وكانت تتوسل إلى راضية قائلة: من أجل عشرتنا وحبنا اصفحي عن ابنتي وامسحي أي خطأ منها في وجهي.
Page inconnue