61

وخلاصة ما يقوله العلم اليوم: إن الحياة التي لا جنس لها سابقة للحياة التي انقسمت إلى جنسين ذكر وأنثى، وإن صفات الجنسين موزعة بينهما في أصولها الأولى، وإن هذا التوزيع في أرفع الأنواع الحية لم يبلغ من الحسم مبلغه الذي يمنع كل تماثل ويدفع كل التباس.

وقديما لمحت الأساطير إلى هذه المعاني برموزها التي تطوي الحقائق لينشرها من يريد كما يريد.

في أسطورة من أساطير اليونان القديمة أن الذكر والأنثى كانا بنية واحدة فشقها الآلهة شقين لأنهم أوجسوا خيفة من تمردها وعصيانها، وأنها لا تفتأ منذ انشقت نصفين يبحث كل منهما عن صاحبه ليتم به ويرجع معه إلى أصله.

وفي أسطورة أخرى هي أعمق الأساطير في معناها إشارة إلى اختلاط الصفات الجنسية على نحو لا يقال في لغة الرموز ما هو أصدق منه ولا أبين عن الحقيقة. وفحوى هذه الأسطورة أن ربا من الأرباب وكل إليه أن يصنع جمهرة من الذكور وجمهرة من الإناث، ثم دعي إلى وليمة في الأولمب فسكر وعربد، وذهب إلى مصنعه مخمورا لا يعي من الخمار وأمامه عمل النهار ولم يصنع منه شيئا وليس له أن يرجئه إلى غده ؛ لأن الأقدار تصنع كل شيء بميعاد لا يختلط بغيره. وكان قد أعد الأعضاء والجوارح والخوالج والأحاسيس ونوى أن يميزها ويقسمها قسمين قبل أن يضعها في أهبها وتراكيبها، فلما أعجل عن التمييز والتقسيم؛ إذا هو يتناول الإهاب فيلقي فيه بما اتفق له من الأعضاء والخصائص والطباع، فيقذف قلب رجل في إهاب امرأة ويضع رأس امرأة على عنق رجل، ويمنح فتاة عضلات فتى أو يمنح فتى أعطاف فتاة، فلم يأت الموعد الموقوت حتى كان قد فرغ من عمله وصنع كل ما عنده من الذكور والإناث، ولكنها هذه الصنعة المختلطة التي يلتبس فيها النظر وتختلف فيها الأسماء والمسميات، فلا يندر أن ترى امرأة لها صلابة رجل أو رجلا له رقة امرأة، ولا يتفق لك دائما أن ترى رجلا بحتا كله رجولة أو امرأة بحتا كلها أنوثة، ولا أن توافق المسميات ما أطلق عليها من الأسماء أو ما أودعته من الجوارح والأعضاء.

وجاءت الفلسفة في القرن الماضي فأعادت هذه الأسطورة بالصيغة الفلسفية التي اختارها النابغة الألماني «أوتوفيننجر» في كتاب «الجنس والأخلاق»، ومجمل رأيه كما لخصناه في كلامنا على حب المرأة من كتابنا «ساعات بين الكتب»: «أنه لا ذكورة ولا أنوثة على الإطلاق، وإنما هي نسب تتآلف وتتخالف على مقاديرها في كل إنسان، ولا عبرة فيها بظواهر الجوارح والأعضاء، فإذا فرضنا مثلا أن صفات الذكورة مائة في المائة فأين هو الرجل الذي تتم له المائة جميعها بلا زيادة ولا نقصان، وتتآلف ذرات تكوينه واحدة واحدة بلا نشوز ولا انحراف؟ وكيف تجتمع له هذه الصفات المتفرقة بحيث لا تتخلف صفة ولا تحل واحدة محل أخرى؟ وكذلك النساء أين منهن المرأة التي هي مثل أعلى لجنسها جامع لكل ما هو نسائي في الجمال والعقل والعاطفة والأعضاء والهندام؟ إن هذا الاتفاق لا يجيء به الواقع؛ لأن التمام من وراء ما يبلغه الإنسان أو كائن سواه في هذه الحياة، ولكنها أمور نسبية تدخل فيها صفات الرجولة والأنوثة كما تدخل فيها صفات سائر الأشياء، فليس في الدنيا رجل هو الرجولة كلها وليس في الدنيا امرأة هي الأنوثة كلها، وهيهات أن تقع على إنسان فيه كل صفات جنسه في جميع أخلاقه وأطواره كما تقع كل يوم على قطرة ماء فيها كل صفات المائية التي لا بد منها لتكوين كل قطرة؛ فإن العناصر هنا مقيدة محدودة، أما عناصر الطبائع والأخلاق والمواهب والأجسام فمما لا يقيده الحد ولا يحده التقدير.»

وعلى هذا «يحب الرجل المرأة أو تحب المرأة الرجل على حسب ما بينهما من التوافق والتباين في تلك العناصر والصفات؛ فالرجل الذي فيه ثمانون في المائة من الرجولة وعشرون في المائة من الأنوثة تتممه امرأة فيها ثمانون في المائة من الأنوثة وعشرون في المائة من الرجولة، ويجوز على هذا أن توجد امرأة ليس لها من جنسها إلا ظواهره، فتكون هي التي فيها الثمانون في المائة من الرجولة وهي التي تنشد الرجل الذي فيه عشرون في المائة من صفات جنسه؛ ومن هنا تنشأ الميول الشاذة في الجنسين وتنبو الطبائع عما خلقت له في سواء التكوين ...».

والعلم الحديث يعرف هذه المعالم الجنسية ويعرف هذا الاختلاط في توزيعها بين الجنسين، ولكنه يعرف ذلك على نهجه لا على نهج الشاعر في أسطورته ولا على نهج الفيلسوف في حدسه وتقديره ... وسينتهي إلى الحقيقة الممحصة حيثما بدأ من البداهة النافذة والواقع المشاهد، وهما لا يأذنان له بالضلال عن سواء النهج وإن تشعبت مسالك الناهجين عليه.

ومن الثقات الراسخين في علم الحياة اثنان يعتمد على ذكائهما كما يعتمد على تجربتهما في هذا الموضوع، وهما سير آرثور ثومسون

Arthur Thomson

وسير باتريك جيدس

Page inconnue