59

فخطر لبعض المستغلين على طراز العصر الحديث أن يستغلوا هذه القدرة فيما هو أنفع وأجدى، وأن يجربوا تدريب القدرة على تحريك أنوال النسيج وهو أسهل وأبسط من الحركات البهلوانية المعقدة التي تحذقها ولا تخطئ فيها بعد المرانة عليها، ففعلوا ونجحت القردة في إدارة مصنع صغير يشتمل على عدة أنوال ... ولكنهم لاحظوا أنها إذا اجتمعت معا في بقعة واحدة غلبت عليها طبيعة اللعب التي ركبت فيها فتركت العمل أو عبثت به وأفسدته، فعالجوا ذلك بالرقابة والإرهاب، ووكلوا بها حارسا يحمل سيفا مصلتا كلما ونى من القردة وان أو عبث عابث أهوى عليه بالسيف فطاح برأسه، فإذا هي قد نفضت عنها العبث وهرولت إلى العمل، وجدت فيه فلم تنزل جادة غاية الجد برهة من الوقت حتى تنسى الرأس الطائح فيعاد عليها الدرس المخيف من جديد. •••

لو علم كارل ماركس وأتباعه بقصة هذه القردة، وعلموا أن شيوعها مستطاع في معامل النسيج الحديثة وغيرها من المعامل التي تشبهها لما كان بعيدا منهم أن يعمموا الحقوق والمشابهات قليلا أو كثيرا حتى تنطوي فيها فصائل القردة، ولا تنطوي على نوع الإنسان وحده من العاملين والعاملات بين الرجال والنساء.

لأن المذهب عندهم ليس بحق لأنه حق، وليس بباطل لأنه باطل، ولكنه حق بمقدار ما يثبت من دعوتهم ويمهد لها، وباطل بمقدار ما ينقص من دعوتهم ويعترض في سبيلها، ولولا ذلك لما عموا عن الفوارق في الخلق وعن فائدة الإنسانية من تنويع هذه الفوارق وخسارتها بمحوها وتعفية آثارها. •••

ولقد سلكوا في نظرتهم إلى الأسرة مثل هذا المسلك فأنكروا فصلها في خلق الأواصر والعواطف وتوليد الحقوق والواجبات بين الأفراد من الأقرباء والبعداء، ولم يعرفوا لها إلا أنها أعانت الاستغلال في عصور الإقطاع خاصة، فارتبط بها نظام الميراث، وقامت عليها قواعد الملك والادخار والتوريث وتعاقب السادة من النبلاء والفرسان، وخلطوا كدأبهم بين كراهة الطبقة كأنها جزء من نظام الثروة العامة وبين كراهة الطبقة كأنها جزء من الإنسانية يعمل عمله في توليد تراثها وتزويدها بالقيم الأدبية، ويترك لها محصوله من هذه القيم، فيتعين عليها أن تصونه وتضيف إليه كما صانت المخترعات والآلات ولم تقل إنها تنبذها وتعفي على آثارها، لأنها من توليد عصور الإقطاع أو عصور المرابين والمستغلين.

فإذا كانت القرائح الذهنية قد أبدعت الصناعات والآلات التي أعانت على تسخير الضعفاء وطغيان الأقوياء، فمن الحسن أن تذهب السخرة حيثما أمكن ذهابها وليس من الحسن أن تذهب القرائح الذهنية ولا أن تذهب الصناعات والآلات أو تحتقر القدرة التي تسنى بها الإبداع والاختراع.

وإذا كانت عواطف الأسرة قد أخرجت للناس قانونا يضير أو سنة تعاب أو عادة تتخلف عن أوانها، فمن الحسن أن تذهب القوانين والسنن والعادات وليس من الحسن أن تذهب عواطف الأسرة ولا أن ترجع إلى مصادرها من فوارق الطباع والخوالج بين الأزواج والزوجات والآباء والأبناء، فننعاها ونسفه أحلام المعتزين بها ونبطل هذه الفوارق من معدنها ونقول: إن وشائج الرحم بين الأنوثة والذكورة فضول من بقايا عهد الإقطاع أو بقايا عهد الرعاة أو بقايا عهد الربا والاستغلال. فكل لون من ألوان الوشائج الإنسانية فهو قيمة نفسية نجمعها ونقتنيها ونضيفها إلى ذخائرنا الحيوية، ولا نفرط فيها كما لم نفرط في القيم الصناعية والقيم الذهنية، فليست كل ثروة الإنسان ثروة مصنوعات ومخترعات، وليس الزاد الإنساني - زاد الإحساس والعاطفة وأفانين الشعور والخلجات - هو الزاد الرخيص الذي يستوي أن يبقى أو يذهب من حيث جاء.

وستنال المرأة من حقوقها الصحيحة أو المزعومة كل ما تستطيع المرأة أن تأخذه، وكل ما يستطيع الرجال أن يمنحوه أو ينزلوا عنه.

ولكن الحقوق التي تقوم على محو الفوارق بين الجنسين في تكاليف الأسرة والحياة الاجتماعية هي من بداية الأمر ليست بحقوق كما يسميها المتحدثون بها؛ لأن الحقوق لا تناقض طبيعة التكوين.

وهي بعد هذا ليست مما يملكه الرجال لينزلوا عنه طائعين أو كارهين، وليست مما تأخذه المرأة لأنها لا تزيد في الخلق ولا تنقص منه ما تشاء، ومحو الفوارق قضاء بيد الطبيعة لا بأيدي الأمم أو أيدي الحكومات ومجالس التشريع.

وربما استقرت الحقوق الاجتماعية طويلا على ظلم المرأة؛ لأن ظلم الضعيف سنة معهودة في الطبيعة لم تبطل قط، ولا نخالها تبطل كل البطلان في حياة الحيوان ولا في حياة الإنسان.

Page inconnue