اشتد ضغط هذا الشعور على نفس الملك، وكاد يتحول كابوسا يخنقه، فخارت قواه، وكاد يغشى عليه، لولا أن انتبه إلى أن ما هو فيه لا يليق بالملوك، فوقف ثم اتجه إلى النافذة، يتنشق الهواء بقوة عله يملأ رئتيه فيدفع عنه أثر ذلك الضغط الشديد.
إنه العرش يضيع صواب صاحبه، ويضربه على صماخه إذا ما تعرض للخطر، ولا يزال صاحب العرش على غروره وغطرسته وصلفه، معتمدا على جبروته وقوته حتى يسمع صوت الشعب داويا صاخبا؛ فترتعد فرائصه وتنحني هامته، ويكسر بأسه؛ لأنه يدرك أن مانح السلطة يستطيع أخذها، وأن مصدر القوة يستطيع سلبها. وقديما انتبه عقلاء الملوك لهذه الحقيقة، فأوصوا عمالهم بهذه الحكمة الخالدة: «لا تدع الرعية تقول؛ فإنها إذا قالت فعلت»، ولا شيء يجرئها على القول مثل الظلم، الوخيمة عواقبه، ولكن أنى للملوك أن ينتبهوا إذا لم يكن للشعب رأي عام، يعرف كيف يعيد الغافل إلى وعيه، والغائب إلى صحوه، والضال إلى رشده، ويعلم الملوك أن الرأي العام إذا ما تكون يعرف كيف ينتقم من الظالمين، فهو صوت الحق، ينصف المظلومين، وصدق من قال: لا تهن الضعيف، فعلك أن تركع يوما والدهر قد رفعه.
نبهت كلمة وزير الميسرة حواس الملك وعقله وشعوره، فتمثل له الواقع شبحا مخيفا، فأخذ يتأمل في ما في نفسه، فتذكر أباه الملك الطاغية، ونقله خياله إلى عهد مضى، كان فيه وليا للعهد، وكان في مطلع العقد الثالث من عمره.
في هذه الحديقة ذاتها، وهو يطل عليها الآن من النافذة، في ذلك العهد من عمره ذاك، منذ ثلاثين سنة جلس بين يدي أستاذه، وكان حكيم ذلك العصر وفيلسوفه، واستمع إلى حديث كان له أعمق الأثر في نفسه، وإنه ليذكره، ويهتز له قلبه، وكأنه بين يدي ذلك الوقور في لحظته هذه. قال له ذلك الحكيم: يا بني، إنك موضع ثقتي، وأنت أمل الرعية، فيجب عليك أن تتصل بواقع الحياة، وأن تحاول إدراك الحقائق مجردة عن كل تغطية وتمويه، لا تخش الحقيقة، مهما كانت مرة المذاق، فإنها لا يخشاها إلا الجبان، وليس الجبن من شيم الملوك، إنني أرى أن الواجب يقضي علي بأن أصارحك بأمر شديد الخطورة، ولا أريد منك سوى وعد صادق بأن تكتمه، أعجبك أم لم يعجبك، وأنك تتحمله مهما آذاك في نفسك دون أن تحقد علي.
فارتبك الشاب آنئذ ارتباكا شديدا، وللوعد عنده قيمة، ولم يكن يوما ناكثا للعهد، فشبابه كان شبابا منطلقا متفتحا، وأستاذه هذا قد غذى نفسه بأروع الفكرات وأسمى المبادئ، وهو ما زال يعنى به منذ عشر سنوات، وما علم أنه احتاط معه يوما كل هذا الاحتياط، وبعد تأمل قصير، التفت إلى أستاذه سائلا: وهل أكتمه عن والدي صاحب الجلالة، وعن والدتي صاحبة الجلالة، وقد تعودت ألا أكتم عنهما شيئا؟
الحكيم :
نعم، وأريد أن تكتمه حتى عن نفسك إذا لم يرق لك، فتحاول ألا تعيد ذكره مطلقا.
ولي العهد :
وهل هو سر يتعلق بك شخصيا تريد أن تفضي إلي به؟ أم هو أمر يتعلق بشئون المملكة، أو بالملك الوالد خاصة أو بالملكة الوالدة؟
ح :
Page inconnue