أما المشدوه الذي شهق فقد كان مأخوذا بتقى الرجل، وبحسن سمعته وبرصانته وبجهورية صوته، وكان بعض رفاقه يوافقه ساخرا والبعض يبكته حانقا، ولم يكن بينهم من مخدوع غيره على ما ظهر، ولكن الراوي يؤكد: إن اشتداد المناقشة كشف عن أن هذا المشدوه كان أخبثهم، وكان يحاول أن يخدع رفاقه، حتى يتهيبوا الرجل فلا يطمعوا فيه، ليحتكر وحده نفوذ الأستاذ في مصالحه، إن هؤلاء الرفاق كانوا جميعا من رجال الأعمال، وقد أثروا عن طريق تملق رجال الدولة وأتباعهم وبإفسادهم، فهم يعرفون كيف تؤكل الكتف، وقد أسر كل من هؤلاء في نفسه خطة يستغل بها نفوذ ذلك الأستاذ الجليل عند سنوح الفرص.
ولم يكن رجل الزاوية أقل خبثا من المشدوه، فإنه ما كاد ينفرد برفاقه في الزقاق الثاني حتى قهقه طويلا قهقهات مختلفة الجرس، أتبعها بقوله: أتعرفون قصة الحق مع الباطل؟ فقالوا: وهل للحق مع الباطل قصة؟ فأجاب: نعم، هي قصة لا يفتأ الناس يشقون بتمثيل أدوارها المفجعة ما داموا في غفلتهم تائهين، وفي ضلالهم يعمهون، فاسمعوا إذا كانت لكم آذان البشر: كان الحق تائها في البيداء، فخطر له أن يقصد مدينة من المدن العامرة عله يستقر فيها، فامتطى حصانه الأبيض، وهو حصان مضمر لا شبيه له في الخيل قوة ونشاطا وجمالا، وبينما كان في الطريق صادف إنسانا أغبر أشعث ذا طمرين، يوشك الضعف أن يقعده، ويكاد البؤس أن يتمثل به، فرق قلب الحق لذلك الرجل العاجز الذليل المسكين، فسأله عن الجهة التي يقصدها، فإذا هي المدينة ذاتها التي يتجه إليها الحق، فنزل عن حصانه وساعد الرجل على امتطائه شارطا عليه، ولم يبق للوصول إلى المدينة سوى ساعتين، أن يركب ساعة واحدة، يترك بعدها الحصان لصاحبه، فشكره الرجل ووعده بإنجاز ما اشترط.
مرت الساعة، لم يشأ الرجل النزول عن متن الحصان مدعيا أنه حصانه، وأنه ورثه عن أبيه، واستغرب الحق أن يرى ذلك الرجل العاجز المسكين قد أصبح على ظهر الحصان قويا نشيطا متمردا، وقد آلمه أن يسمع منه كلمات جارحة، يتهمه بها بالبغي والعدوان، وأوجع الحق في صميم فؤاده أن ينهره الرجل طالبا إليه أن يرتدع عن محاولة اغتصاب ما ليس له.
تحير الحق في أمره، وسأل الرجل عن اسمه وعن حقيقته، فأجابه بزهو وكبرياء وصفاقة: أنا الباطل، أعيش في كنف إبليس وبحمايته ورعايته، وليس للحق أن يدعي ما دمت حاضرا أي وجود بله التملك، فما لك يا هذا تدعي أن هذا حصانك؟! إن الحصان لمن يمتطيه، خدعة حصل عليه أم اختلاسا، وعلى كل، ألا ترى هؤلاء الناس الجالسين تحت الشجرة عند مدخل المدينة؟ فمد الحق بصره وأومأ بالإيجاب، فصاح الباطل آنئذ: إنني رضيت بهؤلاء حكما بيني وبينك، فهل تقبل؟ ارتاح قلب الحق لهذا العرض آملا في الناس إنصافا وخيرا، فأعلن القبول، وما كادا يبلغان مجلس جماعة الناس حتى نادى الباطل بأعلى صوته: أفتونا أيها الناس المنصفون دون مواربة ولا محاباة، وما سمع الناس كلامه حتى رفعوا إليه رءوسهم بآذانها وعيونها منتظرين النص، فقال: من الذي يجب أن يمشي بين الناس؟ أهو الحق أم الباطل؟ فأجابوا جميعا دون تلكؤ ولا تمهل: الحق هو الذي يجب أن يمشي. - وهل يجوز أن يمشي الباطل؟
فأجابوا بلهجة قوية جازمة: لا يجوز للباطل أن يمشي مطلقا. فالتفت الباطل إلى الحق، وقال: أسمعت فتوى العادلين؟ لم يجد الحق للجواب مجالا، فصمت شاكيا إلى الله ظلم الناس، وتقصيرهم في البحث عن حقائق الأمور واستهتارهم بالحق أينما وجد، فابتسمت الحياة، وطيبت خاطره بقولها: سأنتقم لك فلا تحزن.
وهنا التفت رجل الزاوية إلى رفاقه وقال: أكنا في مجلسنا الأخير سوى ممثلين لوقائع هذه القصة الفاجعة؟ ألم نؤخذ باللعب على الكلمات حين حكمنا على ذينك الشابين بالجنون، وعلى ذلك العالم الناهض الباذل ذاته بالشعوذة والدجل تبعا لأستاذنا الجليل، صورة الباطل المجسمة؟
فاغتاظ الرفاق، وقالوا له: إنك تعلم أننا موظفون من أرباب المناصب، لا نستطيع إغضاب من ينتمي للسلطان، ونحن إنما جئنا نزور الأستاذ الجليل لنتملقه طمعا باستغلال نفوذه، ولكنك أنت أيها الواعظ العبقري ما لك سكت ولست من الموظفين؟ فابتسم ابتسامة صفراء وقال: إنني أحاول أن أجد منصبا أعين فيه أحد المقربين.
الفصل السابع
قال الراوي: كانت هذه الزمرة - زمرة الموظفين وأرباب المناصب - أوفر الزمر عددا؛ لأن أصحاب المصالح من الناس يدورون في فلك الموظف، ويتملقونه نفاقا ورياء ما دامت لهم مصالح ترتبط به، أو ما داموا يتوهمون إمكان الاحتياج إليه يوما، إنهم شمامون بارعون، لا تفوتهم الروائح مهما لطفت، فيتجهون إلى حيث تقودهم روائح تلك المصالح، لا يلوون على شيء، ولا يراعون للحياة ناموسا ولا للمجتمع حقوقا، إنهم يهزءون بالحقوق وبالنواميس وبالمثل وبالقيم، فلا غرابة إذا ما كثر العدد في هذه الزمرة.
وقد كان بين هؤلاء رجل كهل ممن تعودوا الدوران في فلك الموظفين، ظل هذا الكهل صامتا كل الوقت في مجلس الأستاذ الجليل، وفي أثناء المناقشة في الشارع، ولكنه لم يسمع تعليل رجل الزاوية لسكوته باهتمامه بتعيين أحد المقربين، حتى ظهرت عليه بوادر الحدة، وقال: إنك تشبه في موقفك هذا أبا حمشو، ذلك المرائي المداهن لا يفتأ محاولا استغلال سذاجة الناس، هنا حملق الجميع بالرجل الكهل وقالوا: من هذا الأبو حمشو؟ فاستدرك أحدهم قائلا: يظهر أن لهذا الرجل قصة، تشبه قصة الحق والباطل، فليروها لنا الصديق العزيز إذا شئتم وأراد، فأنصت الجميع واقفين، وبدأ الرجل الكهل يروي القصة عن ابنه الشاب، عن أستاذه الحكيم، وهو الفيلسوف العالم الذي ألصق به الأستاذ الجليل نعت الشعوذة وصفة التدجيل على الوجه الآتي: يحكى - والله أعلم - أنه كان في إحدى القرى فلاح اشتهر بالتحمس والشهامة، وبالشجاعة والكرم، وبالغيرة والنجدة، لكثرة ما يروي عن نفسه من حوادث غريبة ومن أفعال عجيبة، وكان يفتعل أوضاع الفتيان (القبضايات) وطرق أحاديثهم، ويصطنع لهجاتهم وحركاتهم برشاقة ومهارة وعنفوان، فهاب أهل تلك القرية، وكلهم من السذج البسطاء، الذين يصدقون كل شيء، ويؤمنون بكل شيء، أبا حمشو هذا، وخشوا سطوته، ورجوا نجدته وكرمه، فاختاروه شيخا للضيعة، لم يكن أبو حمشو غنيا ولكن الاعتقاد السائد في القرية هو أنه لو كان غنيا لكان أكرم الناس.
Page inconnue