وما بلغ الحديث هذا الحد مع ما فيه من انجذاب وغيبوبة وتواجد، حتى أوشك التلميذ وهو من الشبان الواعين أن يختنق من الغيظ والغضب، وقد اشتد حنقه لدرجة انقلب معها في نفسه سخرية حانقة كادت تتفجر ضحكا هازئا صاخبا، لولا أن دخل الأستاذ على سمت خاص ووضع مفتعل، فأنقذ الموقف وأوقع الرهبة والوقار في نفوس الجميع، فوقف الجميع إجلالا وكادت انحناءات بعضهم تبلغ الركوع أو السجود، وما أشد ما يتقن هؤلاء المراسيم الملكية، وما أعظم مهارتهم في تحقيق شكلياتها على أتم وجه.
أما التلميذ الحانق فقد اغتنمها فرصة خرج فيها لوقت قصير فثأ فيه عن نفسه حدتها، وعاد ليقدم إلى أستاذه هؤلاء الذوات بأسمائهم يعاونه بذلك أكبرهم منصبا، مبينا رتبة كل منهم وعمله.
كان هذا التلميذ شابا لم يتجاوز العشرين، وكان ذكيا واعيا وفطنا، صحب الساحر منذ سنوات بأمر والده، وقد كان مأخوذا بعلم الأستاذ وفضله، فأراد أن يفيد ولده من مهارته وخبرته وقوة عارضته. اطلع هذا التلميذ النشيط بفطنته ووعيه على أسرار المشعوذ ومآسيه، وأدرك أساليب الشعوذة وأضرارها، وكاد يترك أستاذه حانقا ثائرا لولا أن هذا قرر الانتقال إلى العاصمة ليتصل بالملك، فأراد الشاب أن يشاهد أدوار هذه المأساة الجديدة علها تكون مصدر ثورة للإصلاح.
إن هذا التلميذ يعرف إذن حقيقة أستاذه، وهو يعلم أن مزج الشعوذة بمظاهر الدين وشكلياته، وهي الطريقة التي يستخدمها هذا الساحر، هو من أشد أنواع الشعوذات ضررا وخطرا، إنه واثق أن أستاذه لا يصلي ولا يتعبد الله إلا رياء ونفاقا أمام الناس، فهو إذن لم يدخل غرفته للصلاة كما ادعى، بل لاستكمال عناصر طريقته في شعوذته؛ لتتخذ شكلها الديني ذا الأثر العميق في نفوس السذج من الناس وغيرهم على ما شهدنا في الفترات السابقة، ولكن هل تأثر هؤلاء الكبار والكبار الكبار بشعوذة هذا الدجال؟! أم هم شعوذوا عليه بدورهم؟! هذا ما ستظهر لنا حقيقته في ما سيأتي.
أما الآن، فإن الراوي يؤكد أن الساحر حين دخل إلى غرفته لم يقم بأي واجب في عبادة الله، إنما انتقل منها إلى غرفة صغيرة أخرى بجانبها، وهي غرفة خاصة حرام، لا يدخلها غيره حتى ولا تلميذه، وقد اصطنع فيها وسائل تمكنه من مشاهدة ما يجري في القاعة ومن سماع ما يقال، وإنه كان يود أن يستمر الحديث لولا ما لاحظه من تميز تلميذه من غيظه، فوجد من الحكمة أن ينقذ الموقف، ففعل.
الفصل الخامس
قال الراوي: وقف الجميع إجلالا عند دخول الأستاذ الجليل - هذا هو اللقب الذي أطلقه عليه الشمامون من الأعيان فلا مرجع عنه بعد الآن - وسبحته الطويلة في يده، ثم حيوه بالطريقة المألوفة في مراسم ذلك الزمن، ولا سيما في تحية الرجال العظام، وهو قد أصبح في نظرهم من هؤلاء، فأسدل كل منهم يده اليمنى إلى الأرض، وهي منفرجة الأصابع انفراجا طبيعيا بارتخاء وأناة، مفتوحة إلى فوق مع شيء من التقعير ومع انحناءات تختلف باختلاف مكانة المنحني وحاجته؛ فمنهم من اكتفى بإحناء الرأس، ومنهم من ضم في انحنائه أعلى الجذع، ومنهم من بلغ درجة الركوع أو السجود، ومنهم من أسدل مع انحنائه اليدين معا، أما الأستاذ الجليل فرد عليهم التحية شأن العظماء، وقد أبدع في تمثيل الدور برفع يده قليلا مبسوطة إلى جهة الصدر نوعا، ومضمومة الأصابع ما عدا الإبهام مع إمالة رأسه إمالة خفيفة كادت ألا يشعر بها أحد، وأنعم عليهم - مع تحية العظمة - بابتسامة ناعمة هي علامة الرضى عن دهشة الإجلال والإعجاب، وقد أخذوا بها في تحيتهم له حين دخل على تلك الهيئة المهيبة الرصينة.
جلس الأستاذ الجليل، فجلس الجميع، وساد المجلس سكون رهيب بانتظار التحية الثانية تحية الجلوس، يبدأ بها الأستاذ الجليل، لتكون بعد الرد عليها مفتاحا للحديث، فكأنها كناية فعلية عن الإذن بإدارة الحديث في حضرته، فسبحان ربي الحكيم ما أكرمه وما أحلمه! فقد أراد لحكمة خفية عنا أن يمر البشر بهذه الترهات من الشكليات في تقدم الحياة، وكأني بنا لا نزال ننخدع بها أو نحاول أن نخدع، وسيستمر البشر على الاهتمام بمثل هذه الترهات ما دامت التربية عاجزة عن استئصال جراثيم السخف والحمق من النفوس، فإن هذه الترهات ليست أصيلة في طبيعة الإنسان وفطرته، وإنما هي من مستحدثات المجتمع وبدعه، تدخل في النفوس على الشكل الذي تتسرب به إلى الجسم جراثيم الأوبئة والأمراض، اللهم احفظ شبابنا واحمهم من جراثيم الترهات، آمين آمين.
وأخيرا، وبعد صمت عميق وقور استمر بضع لحظات، التفت الأستاذ الجليل رافعا رأسه وابتسامته الماكرة تتغامز فيها عيناه بارزة على ثغره، ورحب بهم رافعا يده على الصورة التي سبق وصفها، وقال: أهلا بكم، شرفتم. فتهللت الوجوه ، وانطلقت الألسنة تردد: تشرفنا يا سيدي الأستاذ الجليل، زدتنا عزا وشرفا يا مولانا، أهلا بكم أيها الولي القديس، أهلا بالتقي الورع، أطال الله عمر مولانا صاحب الفضل والمنة، أهلا بالعلم والدين يجتمعان، متع الله الأمة بحكمتكم وحسن تصرفكم في الأمور، نفعنا الله بمكانتكم السامية وببركة قداستكم، ولعل هذا كان أصدق الداعين لما في قوله من صراحة الرغبة في الانتفاع، فكان أقل تغطية من غيره، ولكن، أكان ذلك لسذاجته أم لذكائه وخبثه؟! لم يستطع الراوي التحقق من واقعية إحدى الحالتين، فكلتاهما تصلحان سببا لمثل هذه التورية القريبة من التصريح.
وعلى كل فما استنفد الحاضرون هذه العبارات في تزلفهم وتملقهم، حتى تضرع الأستاذ الجليل إلى الله العلي القدير أن يحفظ الملك العظيم العادل، ويكلأه بعين عنايته وينصره على أعدائه أجمعين، وقد عبر عن ذلك بدعاء طويل، ألقاه بخشوع خادع بعد أن نهض قائما، ووقف الجميع، وما استقر بهم الجلوس ثانية حتى بدءوا يستفسرون عن راحته وعن حصوله على جميع حاجاته، وكل يعرض نفسه لخدمته مظهرا استعداده القوي للتضحية بوقته وبما يملك في سبيل رفاهية الأستاذ الجليل وراحته؛ لأن رجال الله جديرون بأن يضحى في سبيلهم بكل غال ونفيس، وهنا أتم العبارة أحدهم، ويظهر أنه كان من الخبثاء الأذكياء بقوله: لا سيما إذا شملتهم بالعناية والرعاية عين المليك الساهرة، فشكرهم الأستاذ جميعا مؤكدا لهم بأن رعاية جلالة الملك وعنايته لم تتركا مجالا لأية حاجة لأي شيء، فكرروا جميعا الدعاء بطول حياة الملك العظيم، وباستمرار إقبال الخير عليه، فإنه خير للجميع.
Page inconnue