مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
قصائد من 1914-1926م
حكاية حديثة (1914م)
حكاية البغي إيفيلين رو
أبدا لم أحبك مثل هذا الحب
أغنية عن حبيبة
ألمانيا أيتها الشقراء الشاحبة
إلى أمي
أغنية عن أمي (1920م)
من الواجب عدم المبالغة في النقد (حوالي 1922م)
السوناتة العاشرة (حوالي سنة 1925م)
تعال معي إلى جورجيا (حوالي 1925م)
عن الرجال العظام (1926م)
طقوس الأنفاس
حديث صباح إلى الشجرة جرين
سيد الأسماك
عن مودة العالم
عن المدن1
كورال الشكر العظيم
ذكرى ماري أ
حكاية المرأة والجندي
من أغاني ماهاجوني
أغنية بينارس1
كورال بال العظيم
الفتاة الغريقة1
خرافة الجندي الميت «ب. ب» برتولت برشت المسكين
قصائد من 1926-1933م عن كتاب مطالعة لسكان المدن
أخف الآثار1
أربع طلبات إلى رجل من جوانب مختلفة في أوقات مختلفة
كثيرا ما أرى في المنام ...
لفت نظر للمسئولين
غناء الآلات
نقش على شاهد لم يوضع بعد على قبر صاحبه
من لا يعرف كيف يقدم العون ...
عندما طوردت إلى المنفى ...
الذين لا يزال عندهم أمل ...
نقش على قبر (1919م)
من أغاني المهد
عن مسرحيتي الأم والقرار (1930-1931م)
قصائد من 1933-1938م
الشعراء المهاجرون
في الأزمنة السوداء
الشكاك
عن العقم
أشعار صينية1
من قصائد سفيندبورج
تاو-تي-كنج
زيارة للشعراء المنفيين
أمثولة بوذا عن البيت المحترق
فحم لميكي
خطاب فلاح إلى ثوره
كتابة على قبر جوركي
حريق الكتب
خواطر عن المنفى
إلى الأجيال القادمة
قصائد من 1938-1941م
من كتاب الحرب الثاني
قصائد من مجموعة «المسينج كاوف» (أو شراء النحاس) (1935-1940م)
قصيدتان على لسان هيلينه فيجل
قصائد من مجموعة شتيفين
قصائد من 1941-1947م
الإعصار
قائمة بأسماء المفقودين
جواب الجدلي على التهمة التي وجهت إليه بأن نبوءته بهزيمة جيوش هتلر في الجبهة الشرقية لم تتحقق
صيف 1942م
هوليوود
قناع الشر
طلوع النهار
في صباح اليوم الجديد
أنا الذي بقيت على قيد الحياة
كل شيء يتحول
قصائد من 1947-1956م
الأصدقاء
أنتيجون1
عندما رجعت إلى الوطن
إلى هيلينة فيجل1
ملاحظة
بيت جديد
إلى مواطني
مسرح العصر الجديد
عن بهجة العطاء
إلى ممثل يعيش في المنفى1
صوت عاصفة أكتوبر
الرجل الذي آواني
حادث سعيد
حادث غير سعيد
نقش على برج عال
أنت مرهق من العمل المستمر
خبز الشعب
من مرثيات بوكو
قصائد اقتبسها الشاعر أو أعاد صياغتها واستلهامها عن شعراء مختلفين من الشرق والغرب
من أغاني أوفيليا
العجائز الصغيرات
القبعة التي أهداها لي-شين للشاعر
الطريق الذي أمر المستشار أن يفرش بالحصى
الليلة التي لا تنسى
الشيطان
قصائد وأغاني مختارة من بعض مسرحياته
قصائد وأغاني من مسرحية «بعل» (بال) (1918-1922م)
عن مسرحية رجل برجل (1924-1926م)
عن أوبرا القروش الثلاثة (1928م)
ماكهيث يطلب الصفح والغفران
عن أوبرا مهاجوني 1928-1929م
عن مسرحية بادن التعليمية عن القبول (1929م)
عن مسرحية الإجراء (أو القرار) (1929-1930م)
عن مسرحية الاستثناء والقاعدة (1929-1930م)
عن مسرحية الأم (1931م)
عن مسرحية الرءوس المدورة والرءوس المدببة (1931-1934م)
عن مسرحية الأم شجاعة وأبنائها (1939م)1
عن مسرحية محاكمة لوكولوس (1939م)1
عن مسرحية «الإنسان الطيب من ستشوان» (1938-1940م)
عن مسرحية «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» (1940م)
عن مسرحية الصعود الذي يمكن أن يوقف ل «أرتورو أوي» (1941م)1
عن مسرحية رؤى سيمون ماشار (1941-1943م)
عن مسرحية شفايك في الحرب العالمية الثانية (1943م)
عن مسرحية دائرة الطباشير القوقازية (1943-1945م)
عن مسرحية من العدم يكون العدم (1929-1930م)
قصائد أخرى
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
قصائد من 1914-1926م
حكاية حديثة (1914م)
حكاية البغي إيفيلين رو
أبدا لم أحبك مثل هذا الحب
أغنية عن حبيبة
ألمانيا أيتها الشقراء الشاحبة
إلى أمي
أغنية عن أمي (1920م)
من الواجب عدم المبالغة في النقد (حوالي 1922م)
السوناتة العاشرة (حوالي سنة 1925م)
تعال معي إلى جورجيا (حوالي 1925م)
عن الرجال العظام (1926م)
طقوس الأنفاس
حديث صباح إلى الشجرة جرين
سيد الأسماك
عن مودة العالم
عن المدن1
كورال الشكر العظيم
ذكرى ماري أ
حكاية المرأة والجندي
من أغاني ماهاجوني
أغنية بينارس1
كورال بال العظيم
الفتاة الغريقة1
خرافة الجندي الميت «ب. ب» برتولت برشت المسكين
قصائد من 1926-1933م عن كتاب مطالعة لسكان المدن
أخف الآثار1
أربع طلبات إلى رجل من جوانب مختلفة في أوقات مختلفة
كثيرا ما أرى في المنام ...
لفت نظر للمسئولين
غناء الآلات
نقش على شاهد لم يوضع بعد على قبر صاحبه
من لا يعرف كيف يقدم العون ...
عندما طوردت إلى المنفى ...
الذين لا يزال عندهم أمل ...
نقش على قبر (1919م)
من أغاني المهد
عن مسرحيتي الأم والقرار (1930-1931م)
قصائد من 1933-1938م
الشعراء المهاجرون
في الأزمنة السوداء
الشكاك
عن العقم
أشعار صينية1
من قصائد سفيندبورج
تاو-تي-كنج
زيارة للشعراء المنفيين
أمثولة بوذا عن البيت المحترق
فحم لميكي
خطاب فلاح إلى ثوره
كتابة على قبر جوركي
حريق الكتب
خواطر عن المنفى
إلى الأجيال القادمة
قصائد من 1938-1941م
من كتاب الحرب الثاني
قصائد من مجموعة «المسينج كاوف» (أو شراء النحاس) (1935-1940م)
قصيدتان على لسان هيلينه فيجل
قصائد من مجموعة شتيفين
قصائد من 1941-1947م
الإعصار
قائمة بأسماء المفقودين
جواب الجدلي على التهمة التي وجهت إليه بأن نبوءته بهزيمة جيوش هتلر في الجبهة الشرقية لم تتحقق
صيف 1942م
هوليوود
قناع الشر
طلوع النهار
في صباح اليوم الجديد
أنا الذي بقيت على قيد الحياة
كل شيء يتحول
قصائد من 1947-1956م
الأصدقاء
أنتيجون1
عندما رجعت إلى الوطن
إلى هيلينة فيجل1
ملاحظة
بيت جديد
إلى مواطني
مسرح العصر الجديد
عن بهجة العطاء
إلى ممثل يعيش في المنفى1
صوت عاصفة أكتوبر
الرجل الذي آواني
حادث سعيد
حادث غير سعيد
نقش على برج عال
أنت مرهق من العمل المستمر
خبز الشعب
من مرثيات بوكو
قصائد اقتبسها الشاعر أو أعاد صياغتها واستلهامها عن شعراء مختلفين من الشرق والغرب
من أغاني أوفيليا
العجائز الصغيرات
القبعة التي أهداها لي-شين للشاعر
الطريق الذي أمر المستشار أن يفرش بالحصى
الليلة التي لا تنسى
الشيطان
قصائد وأغاني مختارة من بعض مسرحياته
قصائد وأغاني من مسرحية «بعل» (بال) (1918-1922م)
عن مسرحية رجل برجل (1924-1926م)
عن أوبرا القروش الثلاثة (1928م)
ماكهيث يطلب الصفح والغفران
عن أوبرا مهاجوني 1928-1929م
عن مسرحية بادن التعليمية عن القبول (1929م)
عن مسرحية الإجراء (أو القرار) (1929-1930م)
عن مسرحية الاستثناء والقاعدة (1929-1930م)
عن مسرحية الأم (1931م)
عن مسرحية الرءوس المدورة والرءوس المدببة (1931-1934م)
عن مسرحية الأم شجاعة وأبنائها (1939م)1
عن مسرحية محاكمة لوكولوس (1939م)1
عن مسرحية «الإنسان الطيب من ستشوان» (1938-1940م)
عن مسرحية «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» (1940م)
عن مسرحية الصعود الذي يمكن أن يوقف ل «أرتورو أوي» (1941م)1
عن مسرحية رؤى سيمون ماشار (1941-1943م)
عن مسرحية شفايك في الحرب العالمية الثانية (1943م)
عن مسرحية دائرة الطباشير القوقازية (1943-1945م)
عن مسرحية من العدم يكون العدم (1929-1930م)
قصائد أخرى
هذا هو كل شيء
هذا هو كل شيء
قصائد من برشت
تأليف
برتولد برشت
جمع وترجمة
عبد الغفار مكاوي
مقدمة الطبعة الثانية
يحتفل العالم في هذا العام (1998م) بالذكرى المئوية لميلاد برتولت برشت (ولد في مدينة أوجسبرج من منطقة شفابن بجنوب ألمانيا في العاشر من شهر فبراير سنة 1898م، ومات في مدينة برلين - الشرقية سابقا - إثر أزمة قلبية مفاجئة في الرابع عشر من شهر أغسطس سنة 1956م) وهو الشاعر، وكاتب المسرحية والأوبرا والفيلم السينمائي، والقصاص والروائي والمخرج والمنظر للمسرح الملحمي، والمناضل الاشتراكي ضد البربرية النازية وتجار الحروب، وفي سبيل العقل والحرية والسلام والأخوة البشرية، وصنع عالم جديد يتوقف فيه الاستغلال والاضطهاد والفقر والجوع والظلم والاغتراب ...
ولقد تصادف أن كان كاتب هذه السطور - على مبلغ علمه على الأقل! هو أول من قدمه إلى العربية بترجمة إحدى مسرحياته التعليمية - وهي الاستثناء والقاعدة - عن الفرنسية في سنة 1956م (نشرت آنذاك في مجلة الهدف قبل نشرها مع تمثيليته الإذاعية التي حولها إلى أوبرا، وهي محاكمة لوكولوس، في أوائل الستينيات)، وتقديم عدد من قصائده المشهورة سنة 1958م في مجلة المجلة (وكان يرأس تحريرها في ذلك الحين السندباد البحري والمصري العظيم المرحوم الدكتور حسين فوزي) وأضيف إليها بعد ذلك عدد آخر من عيون قصائده التي بلغت ما يقرب من ثمانين قصيدة صدرت في كتاب مستقل (قصائد من برخت، دار الكاتب العربي، 1967م)، ثم بعض مسرحياته (بعل، السيد بونتيلا وتابعه ماتي ، قائل نعم وقائل لا) التي كان آخرها هي أوبرا صعود وسقوط مدينة مهاجوني في ترجمة شعرية حديثة (تحت الطبع في المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة) وقد شعر الكاتب أن من واجبه، بعد هذه الجهود المتواضعة وعلى ضوء تلك الواقعة التاريخية التي لا يعلق عليها أية أهمية؛ لأنها كانت وليدة الصدفة المحضة كما ذكر قبل قليل، ثم على ضوء اهتمامه بمسرح برشت وتأثره به بصور مختلفة في عدد غير قليل من مسرحياته الطويلة والقصيرة، أقول إنه شعر أن من واجبه أن يشارك في الاحتفال بذكرى هذا الرجل الذي كان شعره ومسرحه - كما قال بحق ناشر أعماله وصديقه بيتر زور كامب - تاريخا فنيا لبلاده وجراحها الأليمة منذ عام 1918م إلى عام وفاته، والذي يقترن اسمه باسم أكبر شعراء بلاده (وهو جوته (1749-1832م)) من ناحية شهرتهما، وقوة تأثيرهما وتوهج إشعاعهما خارج حدود بلادهما أكثر من أي شاعر أو كاتب آخر من أبناء وطنهما، والذي تحتم تطورات الأحداث في هذا القرن العشرين الذي أوشكت شمسه على الأفول - لا سيما بعد الانهيار المدوي للتطبيق الاشتراكي وبعد تحقيق الوحدة الألمانية التي كان الشاعر نفسه يحلم بها ويعمل لها - ضرورة قراءته من جديد، والتعلم من واقعيته وعقلانيته وحكمته وكفاحه المستمر ومعاناته الطويلة في المنفى، ودفاعه الصامد عن الحقيقة والصدق في التعبير عن الواقع المتغير، وعن حقوق الرجل العادي أو الرجل الصغير الذي طالما وقع خلال التاريخ البشري ضحية الخداع والكذب والتزييف وتغييب العقل بالدعاوى الضخمة والباطلة، بجانب إحساسه المتزايد في أواخر عمره بمرارة الإحباط والعدمية والخيبة، دون التخلي أبدا حتى آخر نفس في صدره عن الإيمان بالجديد، والتمسك براية الأمل في مستقبل أفضل للإنسان والأرض والعالم «الذي يحتاج للتغيير» حتى يستقر فيه العدل والعقل والمودة والسعادة لجميع البشر ...
ولقد شعر كاتب السطور أيضا بأن مشاركته في الاحتفال بذكرى الشاعر تعبر في نفس الوقت عن الامتنان والعرفان الذي يحمله له، كذلك عدد كبير من إخوانه الشعراء والكتاب العرب الذين تأثروا به بصور متفاوتة (ومن أهمهم: سعد الله ونوس، ومحمود دياب، ونجيب سرور، وعبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور - رحمهم الله - وألفريد فرج، ووليد إخلاصي، وفرحان بلبل، ويوسف العاني - مد الله في عمرهم - بجانب أسماء كريمة أخرى لعدد كبير من النقاد والباحثين والدارسين والمترجمين النابهين الذين لا يتسع هذا المجال المحدود لذكر أسمائهم وأعمالهم وجهودهم الطيبة، أو الوفاء بواجب الشكر والتقدير لهم، مثل الإخوة: نبيل حفار، وأحمد الحمو، وفاروق عبد الوهاب، ووجيه سمعان، ومحمد العيتاني، ونسيم مجلي، وكامل يوسف حسين، وأحمد كمال زكي، وجميل نصيف التكريني، وأحمد عتمان، ومنى أبو سنة).
ترك برشت وراءه تراثا ضخما يستوعب كل الأشكال الأدبية الممكنة: خمسين مسرحية، أكثر من ألفي قصيدة، كتابات نثرية متنوعة، وشروح نظرية مستفيضة لنظريته عن المسرح الملحمي وآرائه وتجاربه مع الإخراج والتمثيل والإلقاء والديكور والإضاءة والموسيقى، وسائر اللوازم المدعمة لذلك المسرح «الجدلي» الذي وضعه في مواجهة المسرح التقليدي أو «الأرسطي». وقد حقق في هذه المجالات الملحمية والشعرية الغنائية والدرامية إنجازات أثارت أسئلة وإشكالات كثيرة وأثرت تأثيرا كبيرا على ثلاثة أجيال من بعده. والنثر الذي كتبه يضم الرواية (كالقروش الثلاثة، وأعمال السيد يوليوس قيصر) والأقصوصة، والقصة القصيرة - التي تبالغ أحيانا في القصر حتى تتخذ شكل الطرفة أو النكتة، والحكمة المركزة المكثفة - كما نجد في القصص التي أطلق عليها تسمية مأثورة، وهي قصص النتيجة السنوية، أو في قصصه الرائعة عن السيد كوينر التي بدأها سنة 1926م وكتب آخر قصة فيها سنة 1956م ووصل عددها إلى تسع وثمانين قصة لا يزيد بعضها عن جمل قليلة أو حكم تعليمية لاذعة! وكثيرا ما تتجلى هذه الأعمال النثرية في صورة الحكاية الشعبية الخرافية، أو قصص الخوارق وقصص الأبطال، أو ترتدي بعض الأشكال التقليدية كالقصة الرعوية أو الملحمة أو الخرافة على لسان الحيوان أو الأمثولة أو المثل، مع الاستفادة والاقتباس من كل الآداب والأدباء على اختلاف البلاد والعصور والثقافات دون أي تحرج من أخذ مادته من أي مصدر، وصوغها وتفسيرها بأي طريقة تلائم موضوعاته وأغراضه، أو معارضتها والسخرية منها، كما فعل مع بعض آثار عدد من الشعراء الكلاسيكيين،
1
وأما الشعر الذي يهمنا أمره هنا قبل كل شيء فنجده ينسج أجنحته من جميع الأشكال الشعرية المعروفة: من الحكاية أو القصة الشعرية (البالاد) إلى المرثية، والقصيد الموجز (الأبيجرام)، ونشيد الجوقة (الكورال) وقصائد المناسبات، إلى الأغنية البطولية، والترنيمة، وأغنية المهد، وأغاني الحب، والأنشودة والمزمور والسوناتة، والثلاثية (الترسينة)، والرومانسة، وأغنيات (أو مواويل) المغنين الجوالين والشحاذين والصعاليك. كل ذلك مع السيطرة المقتدرة على جميع الأشكال العروضية والإيقاعية، سواء كانت تقليدية متقيدة بالأوزان والبحور والقوافي، أو كانت من الشعر الحر أو المرسل،
2
مع احتفاظ هذا الشعر على الدوام بطابع التشكك، والتساؤل، وإبراز المفارقة والتناقض، واستثارة القارئ للتفكير بنفسه ولنفسه، واتخاذ المواقف العقلانية والعملية مما يعرض عليه في القصيدة أو على خشبة المسرح، وتحريضه على عدم التسليم أو الاستسلام لما يصور له على أنه ثابت أو دائم أو مقدس، وكل هذا مع احترام حريته في قبول ما يعرضه الشاعر عليه من مقترحات لتغيير نفسه وتغيير الواقع.
عندما فرغت في منتصف الستينيات من اختيار هذه المجموعة وحتى صدورها بعد ذلك بسنتين، لم يكن تحت يدي في ذلك الوقت سوى مجموعة صغيرة منتخبة من قصائد برشت وأغانيه، بجانب بعض مسرحياته - في طبعتها القديمة تحت عنوان «المحاولات» - فاخترت منها حوالي ثمانين قصيدة وأغنية مما وجدته ملائما لذوق القارئ العربي ولما أملاه علي ذوقي وطبعي وميلي إلى الحكايات الشعبية والأغاني الجماعية والأشعار المقتبسة من الحضارات العريقة كالصين ومصر القديمة، والقصائد التي تنزف بدماء الإنسان العادي ومواجعه وتكشف عن بشاعة الحروب وفظاعة القتلة والسفاحين الذين يدبرونها ويتاجرون بها ويجرون «الرجل الصغير» إلى مذابحها. لم تكن الطبعة الكاملة لأشعار برشت قد ظهرت بعد، إذ كان على القراء أن ينتظروا ما يقرب من الثلاثين عاما قبل صدورها عند نفس الناشر - وهو زور كامب - في سنة 1990م في حوالي ألف وثلاثمائة صفحة.
3
وقد استقبلت «قصائد من برخت» (بعد أن رفضتها بعض دور النشر «التقدمية» في بيروت والقاهرة)
4
استقبالا حسنا من القراء، ولقيت صدى طيبا لدى عدد كبير من الشعراء والكتاب والنقاد، ثم دارت عجلة الأيام والأحداث فعكفت طوال الشهور الأخيرة على مراجعة تلك الطبعة القديمة مراجعة دقيقة (أدهشتني وأخجلتني كثرة الأخطاء التي وقعت فيها!) وأضفت إليها عددا كبيرا من الأغاني والحكايات الشعرية، والقصائد التي كتبها الشاعر خلال الخمسة عشر عاما التي قضاها في منفاه، أو بالأحرى في منافيه المتعددة من الدنمرك والسويد وفنلندا إلى لوس أنجيلوس في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية حتى رجوعه إلى منفاه النهائي في برلين الشرقية، حيث عاش سنواته الأخيرة في ظل التطبيق الاشتراكي الغبي والمتزمت لحكومة ألمانيا الشرقية السابقة وحزبها الواحد. ويكفي أن تنظر في الفهرس التفصيلي لهذه المجموعة الجديدة لترى كيف التزمت بالترتيب التاريخي الذي غاب عني الالتزام به في الطبعة السابقة، وكيف تتبعت المراحل والمجموعات الشعرية المختلفة التي نشرها الشاعر خلال حياته القصيرة، وحرصت على تمثيل كل الأشكال الشعرية والاتجاهات الفنية والفكرية والموضوعات التي استأثرت باهتمامه وحبه، وعرضت علينا جراحه وجراح بلده التي مزقتها حربان عالميتان شوهتا صورتها وقيمها وثقافتها في عيون العالم، وكيف انضمت إلى هذه القصائد المتنوعة الأشكال والأغراض قصائد وأغان وحكايات مأخوذة عن معظم مسرحياته التي أتمها أو التي بقيت شذرات ناقصة، مع مراعاة الترتيب التاريخي في كل الأحوال، بدءا بقصائده «التعبيرية» في المرحلة الفوضوية والعدمية التي وقع فيها تحت تأثير هذه الحركة الفنية والأدبية ذات المزاعم المطلقة والتهويمات الغامضة والصاخبة التي قاومها وحاربها بكل العنف والقسوة، حتى تلك القصائد التي سبقت وفاته المفاجئة وعبرت عن ضيقه بحياته وواقعه وخيبة أمله في آماله الاشتراكية والإنسانية التي رأى طيورها المتعبة تتخبط بأجنحتها في وحل الواقع الممل والتطبيق المتعثر في مهاوي الإرهاب الأيدلوجي والبوليسي.
ولما كان الشعر والدراما مرتبطين ارتباطا حميما في إنتاج برشت، وكان كلاهما مغروس الجذور في حياته وتاريخه الفردي وفي حياة بلاده وتاريخها الاجتماعي، فقد رأيت من الضروري أن أعرض عليك مراحل التطور المهمة التي مرت بها «أنا» الشاعر التي حرص دائما على مسافة البعد بينه وبينها، وكانت دائما بالنسبة إليه هي «نحن» بلاده والعالم والبشرية بأسرها، كما كانت - إذا جاز التعبير - أنا محايدة وباردة وموضوعية، بل ملحمية، لم تكشف عن هويتها وهمومها الشخصية والعاطفية إلا في عدد جد قليل من قصائد الحب وأغانيه التي يمكن القول أيضا بأنها تختلف في كثير من الأحيان عما ألفناه من شعر الحب الغنائي والذاتي، وأنها تحاول أن تخفي من عاطفيته الصادقة المتأملة أكثر مما تظهر (راجع على سبيل المثال ما يمكن أن نسميه قصائد الاعتراف مثل أشهر قصيدتين له وهما برت برشت (ب. ب) المسكين، وإلى الأجيال القادمة، وكذلك أغاني الحب القليلة مثل: أغنية عن حبيبة، وأبدا لم أحببك مثل هذا الحب، وذكرى ماري).
ربما كان أهم ما تعلمه برشت من الفلسفة الجدلية - سواء كانت مثالية هيجلية أو مادية ماركسية - هي فكرة التجدد والتغير التي تحولت عنده إلى دعوة مستمرة للتغيير لا يفتأ يوجهها إلى قارئ شعره ويطالب بها المتفرج على مسرحياته (راجع على سبيل المثال قصائده عن: الجدل، وسيولة الأشياء، وعجلة الماء، والشكاك، وكل شيء يتحول، وغير العالم فهو يحتاج للتغيير، وهكذا يربي الإنسان نفسه حين يغير نفسه). سئل ذات مرة عما يمكن أن يفعله في سبيل إنسان يحبه فقال: «أضع له مخططا نموذجيا وأبذل كل ما في وسعي لكي يكون مشابها له.» وعندما عاود السائل سؤاله وهو مندهش: من تقصد؟ النموذج؟ رد عليه بهدوء: بل الإنسان.
5
هذا الرد المفاجئ يعبر عن اقتناع برشت بأن الإنسان يستطيع دائما أن يبدأ من جديد حتى لو تحتم أن يجيء هذا التجدد مع آخر أنفاسه (راجع قصيدته البديعة يا لذة البدء الجديد) ولو قفزنا إلى اللحظة التي لفظ فيها أنفاسه الأخيرة لوجدناه يملي هذه العبارة على أحد الذين حضروا وفاته: «أكتب أنني كنت إنسانا غير مريح، وأنني أنوي أن أبقى كذلك بعد موتي ...» ثم يفتح عينيه قبل أن يغمضهما إلى الأبد؛ ليقول: «ولكن ستبقى ثمة إمكانات معينة.» وصدق التاريخ حدسه، فتقلبت مواقف الناس منه في بلاده وفي العالم كله بين التحمس الجارف له والإعجاب الشديد به - لدرجة تقليده تقليدا أعمى - إلى كراهيته واحتقاره والعداء القاتل لشخصه وإنتاجه الذي تغيرت كذلك المواقف منه ومن نظريته الشهيرة عن المسرح الملحمي وضرورة إحداث «أثر الإغراب» سواء في صياغة النص أو في طريقة عرضه وإلقائه أو في تأثيره الممكن والمطلوب على المتفرج لتغييره ودعوته لتغيير علاقاته بالواقع وعلاقات الواقع به، بحيث يمكن في النهاية أن نردد ما قاله عن نفسه في إحدى قصائده (عن الأسنان السيئة):
محتقر، شرير، وازداد برودي بمرور الأعوام،
فتركت كياني يستسلم للآفاق الميتافيزيقية ...
ونعود إلى الحب الذي بدأنا به لتصوير إيمانه بضرورة التغير والتغيير فنجده (أي الحب!) يعبر عن هذا الاعتقاد الراسخ - الذي غذاه اقتناعه الجذري بالاشتراكية، وقراءاته المستفيضة في شبابه لماركس، ويقينه الدائم بأن المستغلين والمضطهدين والجوعى والمظلومين والمخدوعين من العمال والفقراء والعامة هم الأداة الحقيقية للتغيير - فنحن في رأيه لا نحب إنسانا «جاهزا» ولا نحب «الصورة» التي نصنعها منه ثم نصاب بعد ذلك بخيبة الأمل لأنه لم يحققها أو لم يكد يقترب منها (كما هو الحال في مآسي العلاقة التي توصف عادة بصفة الحب بين فئات الطبقة الوسطى!) ذلك لأن الحب «فعل منتج» أو مبدع «يشكل» المحبوب ويساعده على إظهار قدراته وتنميتها، ويجعل منه إنسانا آخر غير ما كان عليه قبل أن نرتبط به بعلاقة الحب. ولعل هذا يفسر كثرة علاقات الحب في حياة برشت (على الرغم من أن المرأة المحبة والمحبوبة لا تقوم بدور كبير في شعره ومسرحه، على العكس من دور «الأم» المتميز المشحون بالعاطفة في أشعاره وفي العديد من مسرحياته، كالأم، وبنادق السيدة كارار، والأم شجاعة وأبناؤها، ودائرة الطباشير القوقازية، وقائل نعم وقائل لا، وانظر كذلك قصيدته إلى أمي وأغنية عن أمي) أو لعله يفسر أيضا كثرة زيجاته - وآخرها مع زوجته ومديرة فرقته المسرحية في مسرح الشفباور دام هيلينة فايجل، التي ارتبط اسمها بدورها الخالد في الأم شجاعة، كما أهداها هو نفسه عددا من أرق قصائده التي تجد بعضها في هذه المجموعة - ولعله يفسر أخيرا كيف كانت النساء اللائي صادفهن واستعان بهن في عمله «أدوات إنتاج» (بالمعنى الفني لا الاقتصادي !) تحثه على المزيد من الإبداع، وكيف كان «جريه» وراءهن نوعا من البحث عن «الأم» التي لا ينفك المبدعون يفتشون عنها سدى في الحبيبة والزوجة على أمل العثور عليها ثم يكتشفون في النهاية أنهم كانوا واهمين.
سيطرت مقولة «التغير» و«التغيير» على حياة برشت وتفكيره وأعماله منذ صباه وشبابه الباكر بحيث يمكن أن نجعل هذه العبارة شعارا له: حذار أن تبقى حيثما كنت وكيفما كنت. فأصوله تنحدر من الغابات السوداء (حيث عاشت عائلة أبيه في بلدة آخرن في المنطقة الجنوبية التي تعرف باسم الغابة السوداء) وأمه قد حملته إلى مدن الأسفلت (كما يقول في قصيدته عن برتولت برشت المسكين) وهناك ولد ونشأ في مدينة أوجسبرج التي كان أبوه يعمل فيها موظفا بسيطا في «شركة هايندل» لصناعة الورق قبل أن يترقى بالتدريج إلى منصب المدير التجاري وينقل أسرته من قاع الطبقة الوسطى الفقيرة إلى حياة «برجوازية» مريحة في مسكن واسع يسرته له الشركة وسط البيئة العمالية المحيطة. ويبدو أن احتقاره للبرجوازية وعداءه الاستفزازي لها قد بدأ يتملك وعيه منذ ذلك الحين، ثم وصل إلى حد مقاطعة أسرته تماما بعد موت أمه في اليوم الأول من شهر مايو سنة 1920م. وحاول بعد ذلك بوقت طويل أن يجد في أصوله نفسها مبررا تاريخيا لانتمائه إلى الطبقة الدنيا وانشقاقه المبكر عن طبقته، وذلك في قصيدته البديعة «العجوزة المهينة» عن جدته لأبيه التي تفرق أبناؤها وبناتها بعد موت الأب ورفضت أن يعيش أحدهم معها في بيت العائلة الكبير، مصممة على أن تعيش السنتين الأخيرتين من عمرها حرة طليقة بين أصدقائها الفقراء، مستمتعة بمالها القليل لتعويض شقاء العمر الذي قضته في عبودية الخدمة المضنية لأفراد أسرتها وأبنائها الذين قاطعتهم وضاقت حتى بسؤالهم عن أحوالها أو الإشفاق عليها والوقوف بجانبها.
ومع ذلك فقد عاش حياة صبي برجوازي عادي، وتزعم «شلة» الأصدقاء الفوضويين الذين دأبوا على إزعاج المواطنين في الشوارع بصخبهم وغنائهم وعزفهم على القيثارة، وعلى التجمع في أحضان الطبيعة الأم على ضفاف «نهر الليش» أو في أعماق الغابة السوداء. وخلد برشت هذه المرحلة الفوضوية المعبرة عن عدائه للبرجوازية في شخصية الشاعر التعبيري المتهتك والمستهتر بكل القيم والمواضعات الاجتماعية إلى حد العدمية في أولى مسرحياته الكبرى في شخصية «بعل» الذي يحيا حياة وحش طبيعي فاجر على حساب الآخرين. ويصعب في الحقيقة أن نقول إنه نموذج مطابق تماما لشخصية برشت في ذلك الحين مهما اتفق معه في نزعته العدمية المتمردة. والدليل على هذا أنه يسخر طول الوقت في هذه المسرحية - وفي المسرحيتين التعبيريتين التاليتين لها وهما: طبول في الليل، وفي أدغال المدن - سخرية فظيعة من التعبيرية التي عاصرها وتأثر بأساليبها الفنية، ولكنه رفضها من أعماقه وطفق يبحث عن بديل إيجابي يستطيع أن يغير الواقع الفاسد ولا يكتفي بالصراخ المطلق الأجوف احتجاجا عليه (راجع كورال بعل العظيم، وأغنية بعل والموت في الغابة، وغيرها من قصائد هذه المرحلة التي امتدت حتى أواسط العشرينيات). والغريب أن كراهيته الشديدة للحرب قد ظهرت بالفعل في القصيدة المشهورة التي كتبها سنة 1918 وهي «خرافة الجندي الميت» التي ضمنت له في العشرينيات مكانا مرموقا في القائمة السوداء التي أعدها النازيون للكتاب والشعراء الذين اتهموهم بعد ذلك بالخيانة والانحلال وأحرقوا كتبهم في ذلك الحريق الأسود المعروف (راجع نص القصيدة ضمن القصائد المختارة من إنتاجه الشعري بين سنتي 1916 و1926م). ويقال إنها كانت وراء تجريد النازيين له من الجنسية بسبب سخريته الفظيعة فيها من العسكرية الألمانية.
وتعثرت دراسة برشت - التي قطعها عمله كممرض في المستشفيات المتنقلة خلال الحرب العالمية الأولى - بين مدينتي أوجسبورج وميونيخ، وبين الفلسفة والعلوم الطبيعية وعلوم الأدب والمسرح، فلم ينتظم فيها ولم يتمها أبدا. ولكنه عوض عن ذلك الفشل بكتابة مسرحية «طبول في الليل» (1919م) التي حققت له أول نجاح باهر في حياته المسرحية عندما جلبت له جائزة كلايست الأدبية المرموقة في سنة 1922م (نسبة إلى الأديب والكاتب المسرحي العظيم هينريش فون كلايست (1777-1811م)). والجدير بالذكر أن الناقد هربرت إيهيزنج - الذي يعد بحق مكتشف برشت - قد كتب يقول في ذلك الحين بلهجة شديدة التحمس للكاتب المسرحي الناشئ: «إن برتولت برشت قد غير الوجه الأدبي لألمانيا.» وهذه المسرحية - التي تشرفت بمراجعة ترجمتها العربية في الستينيات - توجه النقد القاسي للطبقة البرجوازية التي تكونت في ظل جمهورية فيمار الضعيفة المتهالكة وحققت «إنجازاتها» على جثث الضحايا من الفقراء والعمال العاطلين والمهزومين العائدين من الحرب. هنا نجد نموذج الإنسان «المتكيف» في العشرينيات، كما نجد في مسرحية «رجل برجل» (التي كتبت بين سنتي 1924 و1926م) نموذج الإنسان «المتفاهم» مع الواقع الاجتماعي المتغير إلى حد الموافقة على أن يستبدل بشخصه شخصا آخر يمكنه أن يعايش الواقع الجديد. لقد تغير هذا الواقع وغير معه الإنسان تغييرا عميقا بإخضاعه لسطوة التقنية وإغراق فرديته في مجتمع «الجماهير» وتكريس عزلته واغترابه وفقدان «وجهه» وشخصيته. ولا يعني «التفاهم» الذي تدافع عنه المسرحيتان قبول المعطيات الجديدة قبولا أعمى، بل يعني ضرورة وضعها في الاعتبار كحقائق اجتماعية لا بد من الاعتراف بها إذا أردنا ألا يقف التغيير عند حدود الرغبة والتمني، وإذا حاولنا كذلك أن يستعيد الإنسان فرديته أو تفرده كجزء لا يتجزأ من الجماعة و«أنا» لا قوام لها إلا ب «النحن» ولا عمل حقيقيا إلا من خلاله. ولا تعني هذه المرحلة من حياة برشت وإنتاجه (من حوالي 1924م إلى 1931م) التي وصفت أحيانا بالمرحلة السلوكية (نسبة إلى المدرسة السلوكية الأمريكية المعروفة في علم النفس - أو بالأحرى علم السلوك!) أنه أذعن لأيديولوجية التكيف الرأسمالية أو أغمض عينه عن اغتراب الفرد وبؤسه في ظل العلاقات الاجتماعية البرجوازية أو توقف عن التمرد عليها، بل معناه أن هذه الحقائق والضرورات الجديدة قد أصبحت وقائع ينبغي أن يحسب حسابها؛ لأن الإنسان المغترب في هذا المجتمع لن يتخلص من اغترابه إلا بتغيير المجتمع، ولأن الفرد ليس معطى في فراغ وإنما هو نتاج العملية الاجتماعية نفسها. وتفهم هذه العملية - ولا أقول الموافقة عليها! هو الشرط الضروري لتغييرها وتغيير الإنسان «الاجتماعي» معها - وطبيعي أن نلمح هنا البدايات الاشتراكية التي ظهر معها إيمان برشت بدور «الجماهير» في المجتمع الطبقي، أي بدور الطبقة العاملة كقوة تاريخية قادرة على التغيير.
غير برشت مكان إقامته أيضا، وأخذ يهيئ نفسه للانتقال من ميونيخ - التي عاش وعمل فيها حتى سنة 1924م - إلى برلين التي سيعقد فيها أواصر صداقات عديدة، ويقدم بعض أعماله الدرامية للعرض على مسارحها (قدمت «طبول في الليل» على خشبة المسرح الألماني في شهر ديسمبر سنة 1923م. و«في أدغال المدن» على المسرح نفسه بعد مرور ما يقل عن العام، كما تعرف على هيلينة فايجل التي تزوجها بعد ذلك وجسدت أهم وأشهر شخصياته وهي الأم شجاعة، وتولت إدارة فرقته المسرحية بعد رجوعه معها من منفاه في سنة 1948). وتجلت شخصية برشت «الجماعية» التي لا يحلو لها العيش والإنتاج إلا مع الجماعة ومن أجلها، ولا تؤمن بالخرافة الموروثة عن الرومانسية والتعبيرية بأن الأديب كائن فردي متوحد؛ فهو يغوص في أدغال المدينة، ويوثق صلاته بالأصدقاء، ويستعين بالمساعدين والمساعدات (مثل مرجريته شتيفن وإليزابيت هاوبتمان التي لازمته حتى وفاته) في إعداد نصوصه وتعديلها ومناقشتها معهن ومع الممثلين والفنيين والنظارة أيضا في صبر وتسامح وقدرة نادرة على التعلم من الآخرين، وعلى الإنتاج الجماعي للمسرحية
6
والفيلم على السواء، وتغيير النظرة السائدة للعلاقة بين الفن والمجتمع؛ لأن الأصالة تكمن في الاعتراف بأن الأبنية العظيمة لا يستطيع أن يشيدها فرد واحد (على حد قوله في ختام إحدى قصصه اللاذعة عن السيد كوينر). ومن هنا ألصقت به أيضا تهمة السرقة الأدبية والتسبب في نهب التراث دون أي حرج (كما فعل معه الناقد ألفريد كير بعد عرض أوبرا القروش الثلاثة التي اقتبسها عن الكاتب الإنجليزي جون جاي، فرد عليه مبررا ذلك «بمرونته المبدئية» في المسائل الخاصة بالملكية الثقافية، وبحقه المطلق في معالجة أي مادة يراها ملائمة لتحقيق أغراضه الفنية ورسالته الأدبية والاجتماعية). وكم أخذ واقتبس - كما سبق القول - على طريقته من الكلاسيكيين القدماء - وبخاصة سوفوكليس وهوراس - ومن المحدثين - وعلى رأسهم شكسبير - وكم تناول من أفكار وقصص وحكايات شعبية بمجرد سماعها أو قراءتها، مع الحرص دائما على «رفع» هذه المادة - بالمعنى الذي يفهم من عملية الرفع في المثلث الجدلي المشهور عند هيجل! بحيث يتم تشكيلها وصياغتها من وجهة نظره الواقعية والكفاحية التي تهدف في النهاية إلى التغيير.
وتأتي سنة 1926م بأهم «تحول» مثير في حياة برشت، وإن كان هذا التحول قد جاء نتيجة طبيعية لتصوره للواقع وتغلغله في حياة «الطبقة الدنيا» ومتاعبها ومآسيها اليومية، بحيث أصبح إنتاجه في هذه المرحلة بالذات (حتى سنة 1931م) وفيما بعدها مرآة لعصره، وتعبيرا عن تفاعله مع القضايا الواقعية والمشكلات الملحة، بعد أن بقي بصورة أو أخرى مرتبطا بحياته الشخصية (ولا أقول الذاتية!) قيل عنه إنه لم يكن يكف في هذه الفترة عن الاختلاط بالعمال، وأنه كان يتعمد أن يظهر بينهم بملابس عمالية فقيرة مبقعة وملطخة بالشحم والزيت، بل يزعم صديقه الحميم، فيلسوف الأمل والمستقبل «اليوتوبي» إرنست بلوخ (1885-1977م) أنه ابتكر آلة فضية معقدة لتلويث أظافره حتى يثبت انتماءه للعمال وانشقاقه عن طبقته البرجوازية. والمعروف أنه لم ينضم أبدا لأي حزب من الأحزاب «التقدمية» الكثيرة في العشرينيات، ولم يثبت أنه شارك بأي نشاط عملي في التنظيمات العمالية أو في الحياة السياسية والاقتصادية المضطربة قبل انهيار حكومة فيمار بعد سنة 1930م وزحف جحافل القطعان النازية السوداء على السلطة، وكل ما يمكن قوله هو أنه حرص على البقاء بالقرب من «العاديين» الذين نظلمهم عندما نصفهم بأنهم الدهماء والعامة والرعاع. ومن أهم معالم هذا التحول البارز أنه أقبل في هذه المرحلة على قراءة ماركس (وهيجل بطبيعة الحال!) وتعلم الكثير من الماركسية ومن كتاب رأس المال، لا سيما نظرية ماركس عن فائض القيمة والأزمات الدورية للرأسمالية والصراع الطبقي والحتمية التاريخية لانتصار الاشتراكية إلى آخر ما يعرفه القارئ، وكان وراء توجهه لكتب ماركس الأزمة الطاحنة التي عرضت بورصة الغلال للانهيار ولم يجد لها أي تفسير معقول (حاول أن يعالجها في صيغة مسرحية بعنوان جو فارم اللحم ولكنه لم يتمها أبدا ولم يبق من مشروعها سوى بعض الأغنيات).
ولا بد في هذه العجالة من القول باختصار شديد بأن اعتناقه للماركسية لم يرتبط بأي «أدلجة» للأدب والفن، وأن اقتناعه بها لم يبلغ أبدا حد التزمت الضيق أو التحجر المذهبي المغلق في إطار نظري فوقي يمكن أن يفرض على الواقع الذي علمته الماركسية نفسها أنه جدلي متغير، كما هدته بصيرته الشعرية وحاسته الفنية والدرامية إلى أن هذا الواقع هو الذي يفرض الشكل الأدبي أو الفني الملائم له ولا يصح أبدا أن يفرض عليه الشكل أو تفرض النظرية، حتى ولو كانت هي الواقعية الاشتراكية التي تحمس لها على طريقته.
كانت الماركسية بالنسبة إليه هي «المنهج» الذي يمكنه من فهم الواقع المتغير، وتحديد أسلوب الممارسة العملية والعقلانية الصحيحة، وإدراك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في سياقها التاريخي والإنساني إدراكا بعيدا عن الوهم والتزييف (الذي كانت ولم تزل تقوم به أجهزة الإعلام للتسلية وتغييب العقل النقدي وخلق المتلقي السلبي الذي لا يشارك فيما يتلقاه ولا يتخذ منه موقفا ولا يتحداه ...) والحق أن برشت قد اتجه إلى الماركسية كشاعر وفنان قبل كل شيء، وأنه حول هذه الفلسفة - التي لا يشك أحد في أنه أخذ منها رؤيتها المادية للوجود والمعرفة والتفكير، وجوهرها الإنساني كما نجده على الأخص في كتابات ماركس الشاب ومخطوطاته الشهيرة التي اعتمد عليها مجددو الماركسية (الذين لم تغب محاولاتهم عنه كما كان بعضهم من أعز أصدقائه مثل فالتربنيامين وبلوخ الذي سبق ذكره، إلى جانب اعتباره في نظر الاشتراكيين الفاشيين والستالينيين المتشددين أحد المنشقين عنهم
7 ... أقول إنه حولها إلى إطار نظري ومنهجي لرؤيته الشعرية. والأهم من ذلك كله أنه اعتمد عليها اعتمادا كبيرا في صياغة نظريته المعروفة عن «المسرح الملحمي» وعن أثر «الإغراب» المشهور وضرورة إحداثه في وجدان المتلقي وعقله ليزداد وعيا بما يدور أمامه على خشبة المسرح من متناقضات ومفارقات تستفزه للنقد والتحدي والتغيير (لاحظ بهذه المناسبة صلة القرابة - حتى في لغتنا العربية - بين اغتراب الإنسان أو تغريبه في ظل العلاقات الاجتماعية الرأسمالية كما تحدث عنه ماركس، وبين «الإغراب» البرشتي الذي يهدف إلى تخليص الإنسان - عن طريق الفن وفن المسرح بالذات - من ذلك الاغتراب الأساسي).
ومجمل القول إننا نظلم برشت إذا تصورنا أنه كان مجرد داعية للماركسية أو الشيوعية أو محرض على تبنيها، لا لأنه يؤمن أعمق إيمان بحرية القارئ والمشاهد تجاه ما يقدمه له في الشعر والمسرح من نماذج واقتراحات كما سبق القول، ولا لأنه - بمكره الفني الشديد! قد استطاع أن «يوظف» الماركسية في تفكيره الواقعي والعملي والعقلاني، وفي رؤيته للأحداث والظواهر الاجتماعية والتاريخية والأدبية رؤية جمالية وجدلية كما سبقت الإشارة لذلك أيضا، بل لأن أعماله نفسها - حتى في المرحلة التي توصف بالمرحلة التعليمية في حياته وإنتاجه والتي استمرت من حوالي سنة 1927م إلى حوالي سنة 1931م - لم تكن أعمالا تدافع عن قضايا معينة أو تدعو إليها، وإنما كانت في حقيقتها «تدريبات» فنية وجمالية في مواجهة الفن «البرجوازي» المتهالك والمبرر لمجتمع الظلم والاستغلال وتجارة الحروب، وفي مواجهة الإعلام والأدب المزيف والمغيب لعقل المتلقي وحريته واستقلاله كما سبق القول، وحتى مسرحياته التعليمية التي تتردد فيها لهجة المهيج أو المحرض على الثورة الجماعية للعمال والفقراء والمستغلين والمظلومين والمحرومين وتحثهم على التضامن لدرء الخطر النازي البادي في الأفق كما نرى في الاستثناء والقاعدة ومسرحية الأم - عن رواية مكسيم جوركي الشهيرة - ومسرحية القرار أو «الإجراء» التي سبق ذكرها وبقي أن أقول إنه في أواخر حياته كان يرفض عرضها على المسرح رفضا باتا، إلى جانب فيلمه الكروش الرطبة 1930م. أقول إن كل هذه المسرحيات التعليمية أو التحريضية التي لم يكتب لها النجاح لم تكن سوى تشخيص فني على خشبة المسرح لفلسفته الواقعية والعقلانية والعملية - إلى حد النفعية البرجماتية! ولم تكن بأي حال من الأحوال مسرحيات دعائية تروج لنظرية فلسفية محددة يعلم هو نفسه أكثر من غيره أنها كسائر النظريات - حتى الجمالية والفنية كما قلت - قابلة للتغير على ضوء الواقع الذي لا يجوز أبدا أن يحشر في قوالبها، وأنها قدمت له من مناهج التفكير والرؤية والفعل ما كان ملائما لطبيعته وحاجته، وأنه في النهاية قد استطاع أن يحول تلك الفلسفة التي انهار تطبيقها بعد رحيله إلى تجارب فنية وتدريبات مسرحية جماعية، وكان هذا الانهيار نتيجة طبيعية للتزمت المذهبي والغباء البيروقراطي والتجني الرهيب على حقوق الإنسان في حرية التفكير والاعتقاد والعمل، بالإضافة للتصفيات المستمرة وأعمال القهر التي ضاق بها وأعلن احتجاجه عليها في أواخر حياته كما يشهد على ذلك خطابه الشهير لأولبرشت حاكم ألمانيا الشرقية السابقة بعد تمرد العمال المشهور في شهر يونيو 1953م وقصيدته الشهيرة «الحل» التي تجدها في هذا الكتاب). ومع اعتقادي بأنه بقي على اقتناعه وإيمانه بالاشتراكية وبقدرتها على التجدد في المستقبل طبقا للإمكانات الإنسانية والمعرفية الكامنة فيها ولإمكانات الواقع المتجدد، فالمهم في هذا السياق أنه حول «النظرية» أو المذهب إلى فلسفة حية على المسرح وفي الشعر، وأنه وظفها فيما يمكن وصفه بفلسفة رجل الشارع - الفقير والجائع والضحية الدائمة لكل الجلادين - وأنه - ككل إنسان وفنان حقيقي - مطلق الحرية في أن يتبنى النظرية أو الفلسفة التي يشاؤها، بشرط أن يجسدها في فن صادق حي لا يموت بموت النظرية أو الفلسفة - كما تشهد على ذلك أعمال الشعراء والأدباء والفنانين الكبار التي لا تزال خالدة رغم التغير الحتمي للنظريات والآراء والفلسفات التي جرفتها أنهار التغير والتحول عبر العصور والحضارات.
وصدق حدسه وبعد نظره عندما تنبأ بالكارثة قبل وقوعها؛ فقد أحس مع غيره من المثقفين في العشرينيات بأن جمهورية فيمار (1818-1933م) الهشة آيلة للسقوط، وأن العصابات النازية التي افتضحت نواياها وجرائمها تواصل زحف الوحوش للاستيلاء على الحكم تمهيدا لإشعال نيران الحرب. ولم يكن «التحول» الماركسي ولا المسرحيات التعليمية والثورية التي سبقت الإشارة إليها سوى محاولات يائسة لفتح الأعين على الخطر القادم لا محالة، ودعوة للعمال والفقراء والغافلين المخدوعين من أبناء الطبقة الدنيا للتضامن والمواجهة، ولكن هذه الأعمال لم يكن لها صدى يذكر، ولم تحدث التأثير الذي توقعه منها. كانت الساحة السياسية والاقتصادية كالبحر العاصف المضطرب الذي لا تستطيع حتى ربات الفنون أن تعيد إليه السكينة أو تقيم في ظلماته منارة العقل. وبقي «البرجوازي» العادي غبيا لا يتعلم ولا يحاول تجاوز الماضي والحيلولة دون أن تتكرر مآسيه.
استولى النازيون على السلطة، ولم يخالج برشت أي شك في أن «هتلر» هو الحرب، وقوي يقينه باستحالة الحياة والعمل تحت سقف القمع والإرهاب المظلم بعد الحريق المشهور للبرلمان الألماني (الرايشستاج) في السابع والعشرين من فبراير سنة 1933م، فصمم على الهرب من بلاده بأقصى سرعة ممكنة. واتجه إلى الدانمرك عن طريق براغ وفينا وباريس حيث استقر مع عائلته ومساعدته الوفية مرجريت شتيفين في منفاه بالقرب من ميناء سفندبورج الصغير ما يقرب من سبع سنوات كانت من أطيب وأخصب سنوات حياته وحبه وإبداعه (يكفي القول بأنه استطاع أن ينجز ثلاثة من أهم مسرحياته تعد من أهم المعالم البارزة في الإنتاج المسرحي في القرن العشرين، وهي الأم شجاعة وأبناؤها، والإنسان الطيب من ستشوان، وحياة جاليليو جاليلي في صيغتها الأولى، بالإضافة إلى عدد كبير من القصائد التي تعرف بقصائد سفندبورج، وتجد مختارات منها في هذه المجموعة المنتخبة وتدل على اتجاه شعره إلى الملحمية واستفادته من التراث الشرقي في تعبئة كل أسلحته الفنية ضد الحرب). تحول إنتاج برشت في غربة المنفى التي استمرت قرابة الخمسة عشر عاما تحولا تاما إلى مكافحة الفاشية، وجند لذلك كل موضوعاته وإمكاناته اللغوية والشعرية على أمل تقوية العناصر المناهضة للرعب النازي داخل بلاده وخارجها، ومن الاتجاهات اليمينية واليسارية على حد سواء، لعل الجميع يتعاونون - بعد القضاء على النازية التي لم يشك لحظة في هزيمتها الحتمية - لخلق ألمانيا أخرى موحدة وحرة وأكثر إنسانية. وكان أشد ما غاظه في تلك الفترة العصيبة هي تلك التيارات السياسية التي لم ير أصحابها في النازية سوى البربرية المعادية للثقافة أو الحضارة التي ينبغي توجيه النضال لإنقاذها من براثنها، وكأن الانتصار على الوحش البربري الأشقر كفيل باستقرار قيم الحق والعدل والعقل والسعادة والسلام! ولكن الأمر في نظره كان أكثر تعقيدا وأعمق جذورا؛ إذ لا مفر لتحقيق ذلك «الحلم الممكن» من تغيير العلاقات الاجتماعية وعلى رأسها علاقات الملكية تغييرا يلغي أي فرصة لعودة الظلم والاغتراب واستغلال الإنسان للإنسان وتنشيط التجارة القذرة المدمرة بإشعال فتيل الحروب الكبيرة والصغيرة كلما خبت نيرانها. يدل على هذا أنه دعي سنة 1935م لحضور المؤتمر الدولي للكتاب الذي عقد في باريس للدفاع عن الثقافة - أو الحضارة - وإنقاذها من مخالب الفاشيين. كانت الجبهة الموحدة من الرأسماليين الليبراليين والبرجوازيين المسيحيين والاشتراكيين الديمقراطيين والشيوعيين وراء الدعوة لهذا المؤتمر وتنظيمه، وكان من بين المشاركين والمتحدثين فيه شخصيات أدبية وفكرية مرموقة: مالرو وباربوس وجيد وهينريش مان وه. ج ولز وإرنست بلوخ وروبرت موزيل وبرتولت برشت الذي سارع بالحضور من منفاه الدنمركي «تحت سطح من القش». كان هو الوحيد الذي لم يتكلم عن الكلمة (التي نامت عندما صحا ذلك العالم الفاشي على حد تعبير صديقه النمسوي كارل كراوس)، ولا عن ضرورة إنقاذ القيم الثقافية الرفيعة من الغرق في الدم والتلوث برماد الخراب؛ لأن الذي يخنق تحتبس الكلمة في رقبته على حد قوله في إحدى قصائده. لذلك كان هو الوحيد الذي أثار سخط الجميع واستهجانهم عندما خاطب المؤتمرين قائلا : «أيها الزملاء والرفاق، فلنتكلم عن تغيير علاقات الملكية.»
عرف برشت - كما سبق القول - أن وصول هتلر إلى الحكم معناه الحرب. ولم تتركه الحرب ليواصل حياته السعيدة المنتجة تحت سطح القش الدنمركي (الذي كان في الحقيقة فيلا جميلة ذات حديقة واسعة هيأت له ولأسرته سنوات عامرة بالهدوء والحب والإنتاج الخصب بفضل صديقاته وأصدقائه الدنمركيين!) واضطر أمام الزحف النازي على الدنمرك والنرويج أن يهرب مرة أخرى إلى السويد ثم إلى فنلندا (1940م) حيث أقام فترة قصيرة واستخرج جواز سفر إلى الولايات الأمريكية المتحدة التي سافر إليها عن طريق الاتحاد السوفيتي (لم يخطر على باله أن يلجأ إليه كما فعل غيره بسبب اعتباره ماركسيا منشقا في نظر الستاليين المتشددين كما سبق القول).
حمل معه مخطوطات قصائده ومسرحياته التي كان قد بدأها وأنجز معظمها في المنفى الدنمركي. وكان من أهمها مسرحيته التي دعمت شهرته العالمية وهي «الأم شجاعة وأبناؤها» التي تؤكد أن الحرب تجارة، وأن الإنسان العادي لا يتعلم منها إلا بقدر ما تتعلمه النملة من علم الحشرات! لم تكن هذه الأم شخصية تراجيدية يمكن أن تؤثر علينا بسقطتها النبيلة أو بالخطأ أو الذنب الذي تقع فيه دون ذنب كما تشهد التراجيدية القديمة والحديثة وكما عرفها أرسطو بالاستناد إلى شخصية أوديب. لقد جاء تأثيرها الجارف على النظارة والقراء من كونها امرأة عادية غبية لم تتعلم أي شيء من سقوط أبنائها الثلاثة ضحايا للحرب التي يديرها ويمولها علية القوم. والدليل على هذا أنها تجر عربتها في النهاية لتقديم المزيد من الضحايا الذين ستدوسهم عجلة الحرب! (أتيح لي أن أشاهد عرضها الرائع وتمثيل هيلينة فيجل (1900-1971م) لدور الأم على مسرح فرقة برشت في سنة 1960 فأثرت علي أنا أيضا وجعلتني أتشكك منذ ذلك الحين في إمكان التطبيق العملي لنظرية برشت الشهيرة عن أثر الإغراب).
وفي فنلندا تعرف على قصة شعبية عن رجل فاحش الثراء، كلما شرب وغرق في السكر امتلأ قلبه بحب البشر وبالكرم والعطف والإحسان البالغ على الخدم والأتباع الفقراء، حتى إذا أفاق من سكره ارتد إلى القسوة والبخل والفظاظة والظلم المعروف عن الرأسمالي الجشع، وأثبت استحالة التصالح بين طبقتي الملاك والمعدمين، والمستغلين والمستغلين، كما أكد إصرار برشت في هذه المسرحية الشعبية المرحة أيضا على أن ألف باء التغيير الحقيقي هو تغيير علاقات الملكية.
8
ويؤكد بعض النقاد أنه استفاد في هذه المسرحية من قراءاته السابقة لديدرو ومن أفكاره التي طرحها على لسان الخادم جاك «القدري» - في روايته المعروفة بهذا الاسم - عن سيده الأرستقراطي، كما انتفع بالفقرة الشهيرة في «ظاهريات الروح» لهيجل عن جدل السيد والعبد، لا سيما بالعبارة التي تقول إن العبد هو حقيقة السيد. ولعله قد ردد في نفسه أثناء العمل في هذه المسرحية ذلك السؤال الحاسم: «من ... من؟» أي من يضطهد من، ومن المنتصر ومن المهزوم؟
وقد كثف هذا كله تكثيفا شعريا في أغنيته عن نهر المولداو، وهي إحدى أغنيات مسرحيته «شقايك في الحرب العالمية الثانية» (1943م): في قاع المولداو تجري الحصى الحجرية، وفي براغ دفن ثلاثة قياصرة، لا الكبير يبقى كبيرا ولا الصغير صغيرا، الليل يدوم اثنتي عشرة ساعة ثم يطلع النهار. الأوقات تتغير وتتحول. المشروعات الضخمة للحكام الأقوياء تتوقف في النهاية حتى لو تبختروا في مشيتهم كالديوك الدموية، فالأوقات تتحول وتتغير، والقوة لا تجدي شيئا. في قاع المولداو تتجول الحصى الحجرية، وهناك ثلاثة قياصرة مدفونون في براغ. لا الكبير يبقى كبيرا ولا الصغير صغيرا. والليل يدوم اثنتي عشرة ساعة ثم يطلع النهار ...
ووصل مع عائلته إلى كاليفورنيا حيث تنقل بين لوس أنجيلوس وسانتا مونيكا وهوليوود بالولايات المتحدة الأمريكية بعد رحلة برية وبحرية شاقة. وفي السوق الذي تشترى فيه الأكاذيب وتباع، تحتم عليه أيضا أن يقف في الصف ليعرض أكاذيبه على صرافي الوهم وغسل المخ في هوليوود (بعض الحوارات وسيناريوهات أفلام صور منها بإخراج فريتز لانج فيلم الجلادون أيضا يموتون عن مقتل الجلاد النازي هيدريش في براغ). هنا كتب مرثيات هوليوود التي تدل على إحساسه بأنه وجد نفسه يعيش في جحيم أرضي، كما كتب حكاية شعرية عن المذنبين في الجحيم - وهي حكاية يؤكد فيها بسخريته اللاذعة أن الجحيم لا يوجد على الأرض فحسب، ولا في لندن كما قال شيللي شاعر الرومانسية الإنجليزية، وكما قال هو نفسه قبل ذلك بكثير في أوبرا مهاجوني، وإنما هوليوود هي الجحيم نفسه. صحيح أنه اختلط بكثير من المهاجرين الألمان الذين سبقوه إلى العيش في ضاحية سانتا مونيكا، وكان من بينهم بعض أعلام الأدب والموسيقى والفن التشكيلي بجانب اثنين من أقدم أصدقائه وأقربهم إليه (الكاتب ليون فويشتفنجر والملحن هانز آيزلر) ولكنه وجد كذلك بعض المهاجرين الذين لم يرتح إليهم أبدا، مثل تيودور أدورنو وهور كهيمر وبولوك من الأعضاء البارزين لمدرسة فرانكفورت النقدية الاجتماعية الذين لاذوا بمعهدهم الشهير للبحوث الاجتماعية إلى أمريكا، واستطاعوا بكتاباتهم أن يضخموا عقدة الذنب الألماني عن محارق النازي لأبناء ملتهم من اليهود، وهو ما استغلته إسرائيل بعد ذلك أبشع استغلال في صورة تعويضات بالمليارات! كما ضاق بوجود توماس مان الذي لا أشك في أنه ظلمه عندما تصور أنه أحد «المتعهدين» بتقديم الأدب المعبر عن الرأسمالية للرأسماليين، وأنه هو الذي أوحى إلى الحلفاء بمعاقبة الشعب الألماني لمدة عشر سنوات - وهكذا وجد نفسه محاصرا في الجحيم: مسرحياته شبه ممنوعة أو مشبوهة (باستثناء جاليليو) - وسيناريوهاته للسينما شبه مرفوضة، وجيرانه الذين يختلط بهم لا يشاركونه آراءه وأحلامه عن ألمانيا أخرى موحدة وحرة ومسالمة يعيش فيها شعب يضع يده في أيدي جميع الشعوب، بدلا من معاقبته وتضخيم عقدة ذنبه التي أسيء استغلالها أسوأ استغلال ومن كل النواحي كما سبق القول.
كانت الحرب قد انتهت وبدأت شقة الخلافات والشكوك في الاتساع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي الذي لم يخف أطماعه التوسعية تحت قبضة ستالين، مما حمل الأمريكيين على الخوف من كل ما هو «أحمر»، وملاحقة كل نشاط يتوهمون أنه معاد لهم. واستدعي برشت إلى الإدلاء بشهادته أو لتبرئة نفسه أمام لجنة التفتيش الشهيرة (التي سمت نفسها لجنة النشاط المعادي لأمريكا ولم تستثن بعض الكتاب الأمريكيين والفنانيين اللامعين مثل تشارلي شابلن وآرثر ميللر وليليان هيلمان). وأعد برشت مرافعة دقيقة وأمينة لم يعط الفرصة لإلقائها أمام اللجنة في الثلاثين من أكتوبر 1947م، ولكنه أكد فيها أنه لم يشارك أبدا في أي نشاط حزبي، وأنه كتب ما كتبه من شعر ومسرح ضد هتلر وعصابة القتلة من حوله بدافع أدبي خالص وانطلاقا من ضميره الحر كشاعر وكاتب حر. ولم تجد اللجنة فيما تحت يدها من ترجمات إنجليزية لأشعاره ومسرحياته أي تهمة محددة يمكن أن تدين قلما نذره صاحبه للدفاع عن الحرية والعدل والسلام فأطلقت سراحه.
وبدأ برشت في اليوم التالي مباشرة في الاستعداد للرجوع إلى بلاده هربا من المنفى ومن الجحيم.
وصل مع أسرته، بجواز سفر نمسوي، إلى زيوريخ في سويسرا حيث كان في انتظاره مدير مسرحها وصديقه (كورت هيرشفيلد) الذي سبق له تقديم ثلاث من أهم مسرحياته وبدأ معه في العمل لعرض «السيد بونتيلا وتابعه ماتي». وجاءته دعوة من الشاعر ووزير الثقافة في حكومة ألمانيا الشرقية السابقة (يوهانيس بيشر) لحضور مؤتمر ثقافي. وحاول في الطريق أن يزور أوجسبورج مسقط رأسه وميونيخ التي درس فيها في شبابه فمنعته من ذلك سلطات الاحتلال الأمريكية. وفي برلين الشرقية التي احتفلت به وببعض المهاجرين العائدين في بيت الاتحاد الثقافي للتجديد الديمقراطي بقي صامتا لا يفتح فمه بكلمة واحدة (كما قال بعد ذلك في مذكراته )
9
ولكنه التقى في برلين بعدد كبير من أصدقائه ومعاونيه القدامى من الأدباء والموسيقيين ورجال المسرح، كما انهالت عليه العروض لتكوين فرقته المعروفة بفرقة برلين وتقديم عروضها بصورة مؤقتة على بعض المسارح المتوفرة ريثما ينتهي العمل في إعداد مسرحه الشهير في المكان والمبنى الذي صمم على اختياره دون غيره (وهو مسرح الشيفباوردام الذي شغله مع فرقته بعد ذلك بثلاث سنوات وتولت الإشراف عليه زوجته وممثلته الأولى «الأم شجاعة» هيلينة فيجل)، وهكذا حسم تردده وبقي مع «شعبه» وجمهوره وأصدقائه في برلين. وتوالت صور التكريم والاحتفاء: عدد خاص عنه من المجلة الأدبية الشهرية في ذلك الحين، وهي مجلة المعنى والشكل، مجلد يضم مائة قصيدة مختارة من شعره، جائزة الدولة من الطبقة الأولى (1951م). وأهم من ذلك كله فرصة البداية الجديدة في التمرينات والتجارب الجماعية لتحقيق مشروعه المسرحي وتطبيق نظريته التي طال الجدل حولها عن المسرح الملحمي أو الجدلي الذي يستفز المشاهد لاتخاذ مواقف نقدية ويحول بينه وبين الاندماج الوجداني فيما يدور أمامه على الخشبة، ويحفزه - كما هو معروف وكما سبق القول - على مراجعة ثوابت حياته وواقعه والعمل على تغييرها.
10
ولا يمكننا في هذا الحيز المحدود أن نتابع عمله الجماعي الشاق والعروض التي أعدها (ومنها أوبرا محاكمة لوكولوس التي حققت نجاحا ساحقا جعل بيروقراطيي الحزب الواحد الموحد يتراجعون عن قرارهم بمصادرتها!) والنصوص الكلاسيكية ل (موليير وسوفوكليس وشيكسبير وغيرهم) التي اقتبسها وصاغها في لغة وشكل ومضمون مختلف يلائم نزعته الاشتراكية والإنسانية الحرة، ويساهم في التخلص من أعباء الماضي ومراجعة قيمه «البرجوازية» الفاسدة. وسطع إشعاع مسرحه وعاش أزهى وأمجد فترات ازدهاره طوال السنوات العشر التي استمرت منذ افتتاحه مع بداية الخمسينيات وحتى إقامة سور برلين الشهير (1959-1960م) بعد وفاته بحوالي ثلاث سنوات، وذلك قبل أن يتعرض للأزمات التي تلاحقت عليه حتى هدم ذلك السور مع تحقق حلم الوحدة الألمانية في أواخر الثمانينيات. ويؤسفني القول بأنه لم يبلغ إلى علمي شيء عن المصير الذي انتهى إليه الآن.
ولا بد قبل أن نختم هذا التقديم من وقفة قصيرة أمام «أزمة» الوجود المغترب التي مر بها ذلك اليوم المرعب العصيب الذي اشتعلت فيه ثورة العمال في برلين الشرقية في السابع عشر من شهر يونيو سنة 1953م وسحقتها القوات الروسية المحتلة بالدبابات. والمشكلة شائكة والآراء حولها لا تزال مختلفة ومتضاربة حتى يومنا الحاضر، وما فتئت بعض الأصوات تردد الاتهامات السابقة بالسلبية والضعف والخوف من اتخاذ الموقف المنتظر من كاتب وشاعر مثله حيال تلك المحنة التي كشفت عن فشل حكومة «دولة العمال والفلاحين» والأخطاء والإجراءات القمعية التي ارتكبتها وهددت بإلقاء التجربة الاشتراكية برمتها والعمال والفلاحين أنفسهم في نيران السخط العاصف والغضب الجارف. والثابت اليوم أن برشت لم يقف موقف المتفرج ولم يقصر في توجيه اللوم إلى الحكومة والحزب؛ فقد سارع في اليوم نفسه بإرسال خطابين إلى رأس النظام الحاكم (وهو فالتر ألبرشت) ورئيس وزرائه أوتوجرو تيفول لم ينشر منهما في الصحف الرسمية غير العبارات التي يؤكد فيها الشاعر تضامنه مع الحزب الاشتراكي الموحد، مع إسقاط الفقرات التي اتهم فيها الحكومة والحزب بإملاء الاشتراكية من أعلى وإرهاق العمال بحصص الإنتاج المضاعفة والتضييق عليهم بدلا من إشراكهم بالاقتناع الحر في الإصلاح والبناء، ومع السكوت التام عن مطالبته الصريحة بإجراء حوار عام حول الأوضاع المتردية والوسائل الكفيلة بإنقاذ المنجزات التي تحققت من أيدي العناصر الفاشية المخربة التي تسللت إلى صفوف العمال بتحريض من الرأسماليين والنازيين الذين أعادوا تنظيم أنفسهم والإعداد لحرب ثالثة. وكان هذا أيضا هو مضمون الخطاب الذي أرسله إلى ناشر أعماله «زور كامب» ردا على الاتهامات التي راحت مختلف الدوائر الغربية تلقيها على رأسه.
وبغض النظر عن التفصيلات الكثيرة المعقدة عن هذا الموضوع الذي لا يزال الغموض يحيط به، ومع التسليم بأن جذوره العميقة تتوغل في أسئلة ومشكلات أعم وأشمل (كعلاقة الأديب والفنان بالسلطة، والعلاقة بين الفن والسياسة وطبيعتها وحدودها، وموقف الكاتب من الحقيقة نفسها وطرق تصورها والبحث عنها ... إلخ) فيبقى علينا أن نوجه سؤالين أخيرين ونحاول الإجابة عليهما: هل صحيح أن برشت لم ينظر إلى أحداث ذلك اليوم المرعب المضطرب - شأنها في ذلك شأن سائر الأحداث السياسية والوقائع اليومية - إلا من حيث هي في صميمها - أو على الأقل بالنسبة إليه - مجرد تجارب فنية وجمالية؟ وهل أثرت فظائع ذلك اليوم على شخصيته وإنتاجه واعتقاده الأساسي بضرورة التغيير؟
أما السؤال الأول فيأتي الرد عليه من جانب الروائي الأشهر جنتر جراس. وربما لا يخلو هذا الرد - في تقديري على الأقل - من الإجحاف أو الاختلاق الذي لا يقوم على أساس ثابت من الواقع الفعلي، أو يقوم على أحسن الفروض على الخيال الفني غير المنزه عن الغرض.
فقد نشر جراس في أوائل السبعينيات مسرحية بعنوان «العامة يجربون التمرد» (والتجريب هنا بمعنى تقديم بروفاتها على خشبة المسرح) وعرضت المسرحية وأثارت موجات عارمة من الضجيج والأخذ والرد، فهي تصور برشت مع معاونيه وأعضاء فرقته أثناء العمل المشترك في إعداد النص الذي اقتبسه عن مسرحية كريولان لشكسبير، ويندفع إلى المسرح عدد من العمال من مختلف الحرف كأنهم جنود مهزومون يائسون قد لجئوا إليه وعلى وجوههم وملابسهم وفي أصواتهم الغاضبة آثار المعركة الدامية التي ما تزال مشتعلة اللهب. لقد جاءوا يستنجدون بالكاتب والشاعر المرموق في عيون الدولة والشعب للتوقيع على بيان يستنكرون فيه الأحداث البشعة ويطالبون بإيقاف المذبحة والبدء الفوري في التهدئة والإصلاح. ويدرك برشت بحساسيته المسرحية أو بمكره الفني أنه أمام حريق يتطلب العمل على إطفائه ولا تجدي معه البطولات الفردية الصارخة. ويستدرجهم شيئا فشيئا لعرض الأحداث والتجارب التي مروا بها وعاناها كل واحد منهم على حدة وكيف وصل الأمر إلى ما وصل إليه. ويكتشف قادة العمال بعد كل هذه «البروفات» أنهم قد خدعوا ووقعوا في فخه فيخرجون وهم يلعنونه بأفظع الشتائم ويتهمونه بالجبن والانتهازية وإخفاء رأسه في الرمال المسرحية.
وتتواصل الأحداث وتمتد ألسنة اللهب، ويهدد الحريق الشامل المدينة وأهلها وإنجازاتها التي تحققت بالكفاح والعرق والدموع، وتدور العجلة الجهنمية دورتها التاريخية المعروفة فتتدخل دبابات السلطة المحتلة وتسدل الأستار على النيران المطفأة والجراح النازفة. ويرجع العمال مرة أخرى - إذا لم تخني الذاكرة - فيتواصل الحوار ويوقع الشاعر على البيان وينصرفون. هل كان في وسع برشت أن يفعل أكثر مما فعل؟ أيمكن أن نحمله أوزار السلطة الغبية الطاغية وهو الذي لا يملك إلا سلطة ضميره الفني والإنساني؟ وهل نلومه أخيرا على عكوفه - حتى في ذلك اليوم الفظيع - على عمله الجاد على أمل تحقيق شيء من التغيير في الميدان الذي وهبه حياته وكفاحه وعذابه في المنفى وفي الوطن؟
أسئلة تتصل كما ترى بالأسئلة التي طرحناها قبل قليل.
وأما عن السؤال الثاني فقد عرفنا كيف انكب على عمله المسرحي منذ عودته إلى برلين وتأسيس فرقته وتخصيص مسرح خاص به وتعاونه مع أصدقائه وزملائه وأبنائه من الأجيال الشابة على إتقان العروض المسرحية من تأليفه أو إعداده. لقد دأب هنا أيضا على إحداث التغيرات الهامة في فن التأليف الدرامي الملحمي وفن التمثيل والإلقاء بما يطابق نظرياته، وتجديد فن الفرجة أيضا لإحداث التغير المنشود لدى المتلقي أو المشاهد. ثم داهمته أحداث السابع عشر من يونيو فكادت أن تقتلعه من جذوره وتشده إلى هاوية العدمية واليأس واللامعنى، لولا إصراره على مواصلة كفاحه في سبيل التغيير في كل مجال يمكن أن يتناوله قلمه ويؤثر به على القراء والمستمعين والمشاهدين.
تخيل معي رجلا ينحو من أزمة صحية ليقع ضحية أزمة أخرى،
11
ويعاني في يقظته ونومه من كآبة الليل وملل النهار، وتحمله أمواج الحكمة الممزوجة بالأسى فيكتب بعد ذلك اليوم الفظيع مجموعة قصائده التي سماها «مرثيات بوكو» (نسبة إلى بقعة هادئة في سويسرا أقام بها عدة شهور في سنة 1952م متفرغا تمام التفرغ لكتاباته). إنه يلتقط فيها مشاهد صغيرة ودالة من حياته اليومية، والمتع البسيطة التي يقبل عليها راضيا مسرورا، والمناظر العادية للناس العاديين الذين يمارسون حياتهم بلا انقطاع، وحديقة الورد المنسق المزدهر التي تقع على شط البحيرة ويحوطها السور وأشجار الصنوبر والحور ويجلس فيها قبل طلوع النهار وهو يتمنى لنفسه أن يستطيع في كل الأوقات والأجواء أن يقدم للناس هذا الشيء الذي يسرهم أو ذاك (راجع قصائد الدخان، وتغيير العجلة، والمتع، بالإضافة إلى القصيدة الهامة وهي الحل، التي ينصح فيها المسئولين الفاشلين باختيار شعب آخر ليحكموه) آملا من وراء ذلك كله أن يواصل ويتشبث براية الأمل في التغيير، إن لم يكن في حياته فبعد موته (تذكر الوصية التي أملاها وهو يحتضر وأكد فيها أن المستقبل حافل بالإمكانات). والمرجح عندي أنه اقتنع في السنوات الثلاث الأخيرة التي داهمه فيها المرض وعاوده الحزن والاكتئاب أنه حاول أن يغير بقدر ما استطاع، وأننا ما دمنا زائلين وفانين بحكم طبيعتنا فلا يمكننا أن نغير كل شيء؛ إذ لا بد أن يبقى الكثير مما وجدناه أمامنا على حاله القديم، وأن تواجهه أجيال أخرى من أبناء الغد وتحاول تغييره بما لديها من إمكانات جديدة، وأن كل هذا أدعى إلى الرضا والقناعة اللذين ربما كساهما الحزن، ولكنه الحزن الأعمق الذي يتعلق «بشروط» بشريتنا المحدودة، ولا يمكنه أن يمنعنا من الفرح بكل لحظة نعيشها. تشهد على هذه المشاعر قصيدتان قصيرتان من «مرثيات بوكو» الرائعة المؤثرة، يقول في إحداهما: لو كنا سنبقى إلى الأبد، لتغير كل شيء، لكن لأننا زائلون، يبقى الكثير على حاله القديم. ويقول في الأخرى: كنت حزينا حين كنت شابا، وأنا الآن حزين بعد أن شخت. متى سيمكنني إذن أن أفرح؟ الأفضل في أسرع وقت.
وعلى الرغم من كل الشكوك والتناقضات التي تثيرها حياة برشت وأعماله ولم تزل تثيرها إلى اليوم، فلا بد من القول أيضا بأن حكمته العدمية التي عاودته في تلك السنوات الأخيرة لم تفقده الثقة أبدا في إمكان التغيير والتجديد حتى مع آخر نفس يخرج من صدر الإنسان. والواقع أن الغرور لم يخالجه أبدا إلى الحد الذي يتصور معه أن أعماله خالدة أو صالحة لكل العصور؛ فقد عبر عن شكه في قصيدة أعاد فيها صياغة عبارة لشاعر الرومان الأثير لديه «هوراس» وقال فيها: حتى الطوفان لم يدم إلى الأبد، فذات يوم تسربت المياه السوداء. حقا، ما أقل المياه التي استمرت وقتا أطول من ذلك.
وقد علق برشت نفسه على هذه الأبيات القليلة بقوله: «من أراد أن يقفز قفزة كبيرة فلا بد له من أن يتراجع عدة خطوات. إن اليوم يتغذى من الأمس ويواصل مسيرته نحو الغد. ربما ينظف التاريخ المائدة من كل ما عليها، ولكنه يتخوف دائما من المائدة الخالية.»
وأخيرا فإذا كانت بلاد هذا الشاعر ومعها العالم المثقف يحتفلان في هذا العام بالذكرى المئوية لميلاده، فالمغزى الباقي لهذا الاحتفال هو أن يقرأه الناس قراءة جديدة على ضوء الحاضر الذي يعيشونه والتغيرات المدوية التي تمت بعد موته (راجع ما سبق قوله). لا شك أن بعض إنتاجه لن يحتفظ إلا بقيمة تاريخية، لكن الكفاح المستمر من أجل «التغيير» الذي وضعه نصب عينيه ووضعته هذه المقدمة في بؤرة الاهتمام هو الذي يمكن أن يستفزهم للمزيد من التفكير النقدي الحر لتحقيق ما يمكنهم تحقيقه من تغيير (راجع قصائده عن الموقف النقدي والشكاك والجدل وسيولة الأشياء، وسائر القصائد التي تلح على ضرورة العمل على التغيير والتجديد وسبقت الإشارة إليها). ومع أن التطبيق الاشتراكي قد سقط لأسباب يصعب حصرها، فإن الاشتراكية الإنسانية الحرة - بعد أجيال من المجددين لها والمحتجبين على مختلف تطبيقاتها الستالينية والفاشية السابقة - لا يمكن أن تموت كمنهج ورؤية للوجود، بل إنها تحاول اليوم أن تجدد نفسها في أماكن كثيرة من العالم لتواجه أكاذيب المهيمنين الجدد على أقدار البشر. وأحسب أن الكفاح الطويل لهذا الكاتب والشاعر في سبيل السلام والوحدة والأمن والسعادة والتقدم لشعبه ولكل الشعوب، وتكريس قلمه لقضايا واقعية محددة - كالنضال ضد الحرب والاستبداد، وتوعية الرجل العادي وتنويره وتغييره ... إلخ مع بقاء شعره شعرا وفنه فنا - يمكن أن تعلمنا الكثير. لقد كان يسأل نفسه على الدوام ويطالبنا بأن نسأل أنفسنا: من أنا؟ ولمن أكتب؟ بماذا ينتفع القارئ مما أكتب؟ هل سيساعد ما أكتبه على إيقاظ الوعي؟ هل هو مرتبط بالواقع الراهن؟ كيف يكون سلوك الناس عندما يصدقون ما نقوله لهم، ثم كيف يمكن أن يتصرفوا بشكل عملي وعقلاني حر؟ (راجع قصيدة الشكاك وغيرها من القصائد الجدلية والقصائد الموجهة إلى الرجل العادي مثل: امتداح التعلم، وعامل يسأل أثناء القراءة، وولدي الصغير يسألني) وهي أسئلة ينبغي أن نذكر أنفسنا بها ونذكر التائهين في غيبوبة التجريب الجامح الملغز، والثرثرة الخادعة المتعالية بما يردده غيرنا (من المترفين البعيدين عن قضايانا ومحننا وأوجاعنا) - عن موت المؤلف وغياب «الرسالة»، عن الأدب والفن وتقديس النص إلى آخر ما يتردد على بعض الألسنة والأقلام. ولو نجحت هذه القصائد المختارة في حفز القارئ على إعادة التفكير في تلك الأسئلة والعمل على التغيير والتطوير والتنوير كل في ميدانه وبقدر استطاعته، فسوف أكون راضيا عن جهدي القليل الذي لا يخلو بطبيعة الحال من الخطأ والسهو والتقصير.
12
أحمده سبحانه إن كنت قد وفقت، وأسأله العفو والصفح إن كنت قد أسرفت وتعثرت، فإليه ألجأ، وإليه المصير.
عبد الغفار مكاوي
القاهرة في شهر يوليو 1998م
مقدمة الطبعة الأولى
حياة برتولت برشت وأعماله
ولد برتولت برشت (أويجن برتولت فريدريش برشت كما يدل اسمه الكامل) في اليوم الثاني من شهر فبراير عام 1898م في مدينة أوجسبرج الألمانية، كان أبوه برتولد برشت (الذي ولد في آخرن في الغابة السوداء في عام 1869م) قد حضر في عام 1893م إلى مدينة أوجسبرج ليعمل في مصانع الورق هناك، وظل يتدرج بجده ونشاطه في سلم الوظيفة حتى أصبح مديرا تجاريا لها في عام 1914م. نشأ برشت في ظروف اجتماعية ميسرة، كفلت له الرخاء والأمان، وكان كل شيء يوحي بأن حياته ستسير في مجراها العادي، على نحو ما سارت عليه حياة شقيقه الأوحد فالتر الذي عمل أستاذا لصناعة الورق في كلية الهندسة وفي مدينة دارمشتات - فقد عمد على المذهب الإنجيلي، ودخل المدرسة الابتدائية والثانوية في مسقط رأسه، وغادرها في عام 1917م إلى جامعة ميونيخ ليدرس الفلسفة والطب. ولكن يبدو أن برشت - الذي ظهرت طبيعته الغربية المتمردة والمتفتحة منذ صباه - كان قد صمم على أن يستبدل بالحياة البرجوازية المتطلعة إلى المظهر والغنى حياة الأديب المتحررة من كل قيد.
فها هو ذا في طفولته يهتم بمسرح العرائس اهتماما غير عادي، ويمثل ويخرج مع رفاق صباه مسرحيات كاملة، ويجد لذته الكبرى في الاستماع إلى المغنين المتجولين في الشوارع والأسواق. ويظهر لأول مرة في العالم الأدبي وهو لم يتعد السادسة عشرة من عمره؛ إذ ظهرت أولى قصائده في اليوم السابع عشر من شهر أغسطس عام 1914م في جريدة «أحدث أخبار أوجسبرج».
وكان لتجربة الحرب العالمية الأولى أكبر الأثر على تطوره الفني، فقد دأب في السنوات الأولى من هذه الحرب على كتابة أشعار وطنية صرفة، ما لبثت نغمتها ابتداء من عام 1916م أن تغيرت تغيرا ملحوظا (كتب وهو في المدرسة الثانوية مقالا «انهزاميا» باللغة اللاتينية موضوعه «ما أحلى وما أجمل الموت في سبيل الوطن!» كاد أن يتسبب في طرده من المدرسة).
واضطر برشت إلى قطع دراسته التي كان قد بدأها في عام 1917م في جامعة ميونيخ، فقد جند في عام 1918م واشتغل في مستشفى عسكري في مدينة أوجسبرج، وانطبعت آثار المآسي البشعة التي كان يقابلها كل يوم انطباعا عميقا في نفسه، فأصبح إلى نهاية حياته من أعدى أعداء الحرب. والسخرية المرة التي يجدها القارئ في قصيدته «حكاية الجندب الميت» تقدم الشهادة الصادقة والمفزعة على هذا العداء. واندلعت الثورة الألمانية لعام 1918م وبرشت على هذه الحال، والمرجح أنه انضم لفترة من حياته إلى الحزب الاجتماعي الديمقراطي المستقل. وفشلت الثورة الاشتراكية الأولى، وعاد يدرس الطب بغير حماس، وما أكثر ما كان يهرب من محاضراته ليشترك في حلقات البحث التي كانت تعقد في جامعة ميونيخ عن المسرح، ويتعمق في قراءاته للشاعر الثائر الموهوب جورج بوشنر
1
وللكاتب المسرحي فيد يكند اللذين ظلا مثله الأعلى إلى آخر حياته، ويقضي سهراته البوهيمية الصاخبة في المقاهي والحانات، ويوسع من دائرة معارفه من الشعراء وكتاب المسرح والمشتغلين به.
في هذا العالم نشأ عمله المسرحي التعبيري الأول «بعل» أو «بال»
2
الذي يصور في لوحات شاعرية منفصلة حياة شاعر صعلوك يقضيها في السكر والانطلاق الغريزي، مستسلما لإحساسه العدمي القاتم بالأرض والليل والحياة (راجع قصيدة «كورال بال» في هذا الكتاب). وبرزت في هذه المسرحية عبقرية برشت اللغوية، وتأثره بالحركة التعبيرية التي كان لها السيادة في ذلك الحين، وقدرته على أن يصدم القراء والمتفرجين بتعبيراته المثيرة المفزعة. ثم كتب عمله المسرحي والتعبيري الثاني «طبول في الليل» في خمسة فصول، وهو يسجل بداية اهتمامه بمشكلات عصره، ويصور فيه قصة جندي من جنود المدفعية عاد إلى وطنه بعد انتهاء الحرب، فوجد خطيبته قد ارتبطت برجل آخر وحملت منه، ودفعه اليأس إلى الانضمام إلى جماعات الثوريين الذين يتخلى عنهم بعد أن تعود إليه خطيبته. وترجع تسمية هذه المسرحية - التي سماها برشت في الأصل سبارتاكوس وتأثر فيها بثورة المحرر الأول للعبيد - إلى الكاتب الروائي والمسرحي ليون فويشتفانجر الذي تعرف برشت عليه في عام 1918-1919م في ميونيخ وظل صديق عمره وزميله في العمل طول حياته. كما تعرف في تلك السنوات على الرسام ومصمم الديكور المسرحي المشهور كاسبارنيهر، والمخرج إريش أنجل والشاعر الاشتراكي يوهانس بيشر.
ماتت أم برشت في شهر مايو عام 1920م وكانت أقرب الناس إليه وأبعدهم أثرا على حياته (راجع قصيدة أمي في هذه المجموعة ). وبموتها بدأت صلاته بأسرته تضعف شيئا فشيئا. وانتقل إلى ميونيخ، وظل يكتب في صحيفة «إرادة الشعب» التي كانت تظهر في أوجسبرج حتى قطع صلته بها في أوائل عام 1921م. وبذلك انتهت أعوام أوجسبرج (التي كان من ثمارها أيضا ولد غير شرعي لم يلبث أن توفي في صغره). وانقطعت صلته بأبيه وأسرته، وبدأت سنوات الاضطراب التي مهدت لاستيلاء النازيين على الحكم في عام 1933م.
لم يكد برشت يستقر في ميونيخ حتى راح يتردد على برلين محاولا أن يضع قدمه فيها، فهو يتفاوض مع الناشرين، ويتعرف على الحياة الفنية، ويرتبط بروابط الصداقة بالممثلين والكتاب، ويزداد عدد فضائحه ونوادره، ويقف على مسرح الحياة الأدبية وكأنه الطفل المفزع الرهيب في الأدب الألماني الجديد!
ومثلت «طبول في الليل» في سبتمبر عام 1922م لأول مرة في ميونيخ، ونجحت نجاحا كبيرا كان بداية شهرته في عالم المسرح، وفوزه بالجائزة المعروفة باسم الشاعر المسرحي الكبير كلايست، حتى لقد كتب ناقد يقول: «لقد استطاع برشت البالغ من العمر أربعة وعشرين عاما أن يغير وجه الأدب الألماني في يوم وليلة.»
وفي عام 1921م بدأ مسرحيته التعبيرية الثالثة «في أحراش المدن» كما كتب أربع مسرحيات من فصل واحد، تأثر فيها بالأدب الشعبي تأثرا قويا، وحذا فيها حذو الممثل الهزلي الشعبي الشهير كارل فالنتين. وهذه المسرحيات «التي نشرت بعد وفاته ضمن أعماله المسرحية الكاملة» هي الشحاذ أو الكلب الميت، يطرد الشيطان، نور في الظلمات، والزفاف.
وفي شهر نوفمبر عام 1922م تزوج برشت الممثلة ماريانه جوزفينه توف التي أنجب منها ابنته هانا ماريانه التي اشتهرت بعد ذلك بدور جان دارك في مسرحيته «جان دارك السلخانات» عندما مثلت لأول مرة في هامبورج عام 1959م.
وفي عام 1923م مثلت مسرحية «في أحراش المدن» في ميونيخ، وهي تعبر عن عزلة الإنسان المطلقة، وغربة الناس عن بعضهم في مدن الأسفلت غربة لا تسمح لهم حتى بأن يعادوا بعضهم بعضا.
وكلف برشت لأول مرة في عام 1924م بإخراج ماكبث، ولكنه تردد عن القيام بالمحاولة؛ إذ بدا له الإقدام على عمل من أعمال شكسبير مخاطرة غير مأمونة ، واستعاض عنه بكرستوفر مارلو، فاقتبس بمعاونة ليون فويشتفنجر مسرحيته «إدوارد الثاني» التي مثلت لأول مرة في ميونيخ في شهر مارس عام 1924م وبدأت تظهر فيها بذور نظريته المسرحية التي ستتطور فيما بعد إلى الشكل الذي نعرفه اليوم باسم «المسرح الملحمي».
وفي عام 1924م انتقل برشت نهائيا إلى برلين، وعمل حتى عام 1926م في «المسرح الألماني» مع المخرج العظيم ماكس رينهارت إلى جانب الكاتب المسرحي كارل تسوكماير. وسرعان ما ألف الحياة في برلين، وجمع حوله كعادته عددا من الأصدقاء والأتباع المتحمسين، من شعراء ورسامين وممثلين وملاكمين.
وقضى برشت عام 1925م في كتابة مسرحيته «رجل برجل» التي مثلت لأول مرة في دارمشتات في عام 1926م. وهذه المسرحية تستهل مرحلة جديدة في حياته الفنية والفكرية، فعندها تبدأ سلسلة مسرحياته (التي ستدعمها فيما بعد عقيدته الاشتراكية) التي يؤكد فيها أن الإنسان يتحدد بالظروف الاجتماعية المحيطة به. وبطل هذه المسرحية إنسان عادي يتحول إلى أداة جهنمية من أدوات الحرب، ويقيم الدليل على أن الإنسان في المجتمع الحديث يمكن أن يستبدل بغيره وأن يشكل على الصورة التي تراد له. وكان برشت قد بدأ يهتم بالنزعة الأمريكية وما تمتاز به من موضوعية ونفعية وعنف وجنون بالرياضة والضجة والتنافس، ويبدي إعجابه بالسلوكية (مذهب واطسون في علم النفس الذي يقتصر على بحث مظاهر السلوك فحسب وينكر ما يسمى بالنفس أو الشعور) كما كان قد بدأ في دراسة الماركسية دراسة منظمة، وحضور الفصول المسائية التي كانت تنظمها مدرسة العمال في برلين، والاهتمام بمسائل المال ومناورات البورصة. وظل حتى عام 1930م يتابع دراساته الاشتراكية، ويتعمق في قراءة هيجل وماركس لتعزيز إيمانه بضرورة الثورة التي تصور أنها ستغير العالم (راجع قصيدته غير العالم فهو يحتاج للتغيير).
تعرف برشت في ذلك الحين على المخرج المسرحي الكبير إرفين بسكاتور وتوثقت صلته بمسرحه السياسي الذي توسع في إدخال الوسائل التقنية عليه وفي تفسير الأحداث من جانبها الاجتماعي والتاريخي. وقد كان لتعاون برشت معه أكبر الأثر على تطوره الفني، حتى ليقال إن تعبير المسرح الملحمي أو الدراما الملحمية يرجع إلى بسكاتور أو هو الذي ساعد على الأقل على نشره والترويج له.
وكان عام 1927م هو عام المجموعة الشعرية الأولى لبرشت التي تعرف باسم «تبتلات البيت» والتي دلت على أنه شاعر أصيل بقدر ما هو كاتب مسرحي موهوب. والحق أن قصائده الغنائية كانت تسير دائما جنبا إلى جنب مع مسرحياته، إن لم تكن أقدر منها على الكشف عن طبيعته الشاعرية الحقة. وقد تأثر في هذه المجموعة بأشعار فرانسوا فيون (الذي طالما اتهم برشت بالسرقة عنه!) ورديارد كبلنج ورامبو، وعبر فيها بلغة قوية نفاذة الطعم والرائحة عن الإحساس بالتشرد والضياع، والشعور الغريزي الحيواني الغارق في بهجة الوجود وعذابه، والآلام التي تعانيها الخليقة الممزقة «على هذا الكوكب غير المأمون».
وانفصل برشت في ذلك العام عن زوجته الأولى، وتعرف على زوجته الثانية هيلينيه فيجل، وهي الممثلة التي ارتبط اسمها باسمه، وقامت بأداء معظم أدوار النساء في مسرحياته، حتى إن أغلب هذه الأدوار كتب تحت تأثيرها أو فصل على قدها (وأشهر أدوارها هو دور الأم شجاعة في المسرحية المعروفة بهذا الاسم). وسجل هذا العام نفسه (1927م) أول عمل مشترك لبرشت مع الموسيقي كورث فيل - الذي ارتبط اسمه به فيما بعد، وأصبح ملحنه الأول غير منازع - إذ قام بتلحين بعض الأغاني المختارة من «تبتلات البيت» وعرضت باسم «مهاجوني» في الاحتفالات الموسيقية السنوية في بادن - بادن، ثم تطورت فيما بعد إلى أوبرا «سقوط وازدهار مدينة مهاجوني» التي يجد القارئ بعض أغانيها في هذه المجموعة. على أن الانتصار الحقيقي الذي أحرزاه معا كان بعرض أوبرا القروش الثلاثة في 31 أغسطس من العام التالي (1928م) على مسرح الشفباوردام الذي أصبح بعد ذلك بأكثر من عشرين سنة هو المقر الدائم لفرقة برشت المعروفة باسم فرقة برلين. وقد اقتبس برشت هذه الأوبرا عن «أوبرا الشحاذ» التي ألفها الإنجليزي جون جاي في عام 1728م وترجمتها إلى الألمانية مساعدته إليزابيث هاوبمتان وحشدها بأغنيات من تأليفه ومن تأليف الشاعر الفرنسي الشريد فرانسوا فيون.
حاول برشت في هذه الأوبرا أن يسخر سخرية مرة من العادات الشائعة في المجتمع الرأسمالي، وأن يصوره عالما من اللصوص والآفاقين والشحاذين، كما حاول أن يهاجم الأوبرا التقليدية. وهكذا بدأ النقد الاجتماعي يسير جنبا إلى جنب مع النقد الفني، كما بدأت تظهر ملامح الشكل المسرحي الجديد الذي دعمته الكتابات النظرية فيما بعد.
وبدأ برشت في عام 1930م نشر مسرحياته في كراسات متتابعة تحت عنوان «محاولات» زودها بملاحظات وتعليقات يغلب عليها الطابع التعليمي والتجريبي الذي أراد به أن يستبدل الدرس والتعليم بالمتعة الفنية. على أنه ما لبث في المرحلة الأخيرة من حياته الفنية أن تراجع عن هذا الموقف المتطرف، وربط ربطا جدليا حيا بين الاستمتاع والتعليم. وقد ظهرت أولى هذه المسرحيات التعليمية في الاحتفالات الموسيقية السنوية في بادن - بادن، عام 1929م، وهي طيران لندبرج، وتكاد أن تكون تمجيدا للإنسان في العصر الصناعي، وتأكيدا لانتصاره على الطبيعة. وكانت ثانيتها هي مسرحية بادن التعليمية عن التفاهم، وهي تؤكد دور المجتمع كما تحبذ زوال الفرد في مجتمع لا اسم له. كما بدأ العمل في ذلك العام نفسه في مسرحية من أهم مسرحياته وهي «جان دارك قديسة المذابح» (أو السلخانات)، وتدور حول صراع فتاة من متطوعات جيش الخلاص مع رجال الأعمال في بورصة شيكاغو لإنقاذ مصير عمال السلخانات، وبدلا من أن ترتفع إلى السماء كالقديسين والشهداء تهبط إلى الأرض لتدعو الإنسان إلى الخلاص من مضطهديه ومستغليه.
وكتب برشت مسرحيته التعليمية الثالثة التي تدور حول التضحية بالفرد في سبيل المجموع، وهي مسرحية «قائل نعم» التي اقتبسها عن الترجمة الإنجليزية التي قام بها «آرثر آلي» لمسرحية النو اليابانية «تانيكو» وتدور حول التضحية بصبي صمم على الاشتراك في رحلة مضنية في الجبل، ولكنه سقط مجهدا في الطريق ووافق على أن يلقى به في الهاوية حتى لا تتوقف الرحلة عن سيرها. وقد عرضت المسرحية لأول مرة في برلين باسم «أوبرا مدرسية» ولحنها كورت فيل، وأضاف إليها برشت، بعد مناقشتها مع تلاميذ المدارس، مسرحية مضادة سماها «قائل لا» عدل فيها عن وحشية التقليد القديم الذي كان يقضي بتضحية الصبي.
3
وتصل المسرحيات التعليمية إلى غايتها كما تبلغ التضحية بالفرد في سبيل المجموع ذروتها القاسية الرهيبة في مسرحيته المعروفة باسم «الإجراء» التي وضع ألحانها هانز أيزلر، وهي تروي حكاية جماعة من الدعاة الثوريين في إحدى مناطق الصين يقتلون زميلا لهم فشل في أداء المهمة التي كلفه بها الحزب نتيجة لتغلب النزعة العاطفية عليه، فقتلوه بعد أن اعترف بأخطائه ورضي هو نفسه بأن يضحي به في سبيل المجموع. وقد تراجع برشت بعد ذلك عن تزمته المذهبي في هذه المسرحية التي ضاق بها ورفض عرضها رفضا مطلقا في سنواته الأخيرة.
وفي عام 1930م كتب برشت مسرحية تعليمية أخرى هي الاستثناء والقاعدة، أثناء إقامته في المصيف الفرنسي لا لافاندو على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وتبين المسرحية (التي مثلها مسرح الجيب بالقاهرة في فبراير عام 1964م) كيف أن الفعل الخير يصبح هو الاستثناء من القاعدة في مجتمع يسوده الشر ويحتدم فيه صراع المصالح والطبقات. حتى إذا قدم الضعفاء والفقراء الخير أسيء فهمه من جانب المستغلين والأقوياء، وراح القانون أيضا يبرر سلوك هؤلاء. وقد نشرت المسرحية لأول مرة في عام 1937م، كما مثلت لأول مرة كذلك في فلسطين في أغسطس عام 1938م على مسرح جيفات حاييم.
وفي عام 1931م أعد برشت مسرحية هاملت للإذاعة واشترك مع كاسبارنيهر في إخراج أوبرا «ازدهار وسقوط مدينة مهاجوني» التي سبقت الإشارة إليها على مسرح «كورفور ستتدام» في برلين، كما راح يعمل في «مسرحة» رواية الأم المشهورة لماكسيم جوركي وحولها إلى مسرحية تعليمية (يتعلم منها ممثلوها قبل كل شيء!) تصور تطور الأم العاملة التي تقتنع بالمبادئ الماركسية.
ونشر برشت كذلك - إلى جانب ملاحظاته النظرية العديدة عن المسرح الملحمي التي علق بها على أوبرا القروش الثلاثة وأوبرا مهاجوني - مجموعة صغيرة من قصائده تحت عنوان «من كتاب سكان المدن» التي يجد القارئ مختارات منها في هذا الكتاب. وقد استغنى الشاعر في هذه المجموعة عن القافية والإيقاع المنتظم، وغلبت عليه الدقة في الأداء، والموضوعية في التعبير. كما نشر كذلك في سلسلة «المحاولات» قصصه المعروفة «بحكايات السيد كوينر» وكتابا للأطفال تحت عنوان «الجنود الثلاثة» قال برشت عنه إن الغرض منه هو أن يحفز الأطفال على طرح الأسئلة، وهي عبارة تنطبق على كل أعماله التي تستهدف إثارة الدهشة والسخط لدى القارئ والمتفرج، ودفعهما إلى تغيير الواقع الاجتماعي المحيط بهما بالثورة والعنف إذا اقتضى الأمر؛ ولذلك وجهها لجميع الأطفال من سن الثامنة إلى الثمانين.
أقبل عام 1933م وراح هتلر يعد العدة للاستيلاء على السلطة. وبدأت نذر الإرهاب تتلبد في سماء ألمانيا وتنذر بالوقوع على رأس برشت؛ فقد منع تمثيل مسرحية جان دارك في دارمشتات، كما أوقف عرض مسرحية الإجراء في مدينة إيرفورت. وفهم برشت ما تعنيه هذه النذر، فغادر ألمانيا مع زوجته في اليوم السابع والعشرين من شهر فبراير عام 1933م، وكان على طفليه أن يلحقا بهما إلى المنفى.
وتحققت مخاوف برشت من الإرهاب النازي، فقد أحرقت كتبه في الحريق المشهور الذي ألقى فيه النازيون بمؤلفات أكثر من مائتي كاتب وشاعر ألماني اتهموا بالانحلال والتهمتها النيران مع صيحات الجماهير المتحمسة الهاتفة أمام مبنى دار الأوبرا في برلين. وفي اليوم الثامن من شهر يونيو عام 1935م حرم برشت من الجنسية الألمانية وكانت قصيدة «حكاية الجندي الميت» التي كتبها في العشرين من عمره - والمنشورة في هذه المجموعة - هي التي أثارت عليه النازيين، وملأت قلوبهم حقدا عليه.
غادر الشاعر برلين إلى براغ، ومنها إلى زيورخ عن طريق فيينا. وكانت الرحلة الثانية لبرشت (الذي راح يغير بلدا ببلد أكثر مما يغير حذاء بحذاء، كما سيقول فيما بعد في قصيدته عن برشت المسكين) هي جزيرة تيرو في الدانيمارك حيث قضى هناك أوائل الصيف. وفي هذا الصيف نفسه أقام فترة من الوقت في باريس، حيث عرض آخر أعماله التي ظهرت بالتعاون مع الملحن كورت فيل، وهو باليه أنا-أنا، أو الخطايا السبع المميتة، الذي يصور فساد القيم الأخلاقية في مجتمع يسوده الربح والتجارة، وهو الباليه الوحيد الذي كتبه برشت ولم يقدر له النجاح لا في باريس ولا في لندن.
وفي عام 1934م ظهرت في باريس الطبعة الألمانية من مجموعته الشعرية الثانية «أغاني، قصائد، وأناشيد جماعية (كورات)» كما ظهرت رواية القروش الثلاثة في إحدى مطابع اللاجئين في أمستردام، وازدادت نغمة النقد الاجتماعي حدة عما كانت عليه في المسرحية المماثلة وبلغت من السخرية الدامية القاسية درجة تذكرنا بسخريات سويفت. وتصل هذه السخرية القاتلة إلى ذروتها المخيفة في حلم الجندي فيو كومبي الذي يتهم فيه المسيح ويدينه لأنه ضلل الفقراء وأغراهم بالآمال الكاذبة.
وأقام برشت مع أسرته في بيت ريفي في سكوفزيو ستراند (منطقة سفند برج) مطل على شاطئ جزيرة لانجيلاند، يحيط به الأصدقاء الدنمركيون ويعاونونه على الحياة. واتخذ من إسطبل قديم للخيول مزود بمائدة كبيرة مكانا يعمل فيه. وعاش الشاعر في عزلة كاملة عن العالم الخارجي منصرفا بكليته إلى الكتابة والتأليف. وكان من الطبيعي أن يوجه كتاباته ضد النازية، وأن يكشف عن الرعب والإرهاب اللذين عاش الألمان في ظلهما في ذلك العهد القاتم، ويفضح المحنة والتعاسة الروحية المستترة وراء الصخب الذي يثيره هتلر وأعوانه. وكان أن خرجت مسرحيتاه «الرءوس المستديرة والرءوس المدببة» و«رعب الرايخ الثالث وتعاسته»، كما راح يساهم في مكافحة النازية، ويشترك في مظاهرات الاحتجاج عليها، ويسافر إلى باريس ولندن ونيويورك وموسكو، ويلتقي بالمهاجرين من زملائه، ويخطب في المؤتمرات (كما فعل في المؤتمر الدولي للكتاب المنعقد في باريس في يونيه 1935م) ويشرف على إخراج مسرحياته، ويلقي أشعاره الساخرة من إذاعة ألمانيا الحرة، ويساهم في تحرير الكثير من المجلات التي أسسها المهاجرون في عواصم العالم التي ظلت بعيدة عن قبضة النازيين (وبالأخص مجلة «الكلمة» التي كان يصدرها مع ليون فويشتفانجر) وينشر مؤلفه الهام «خمس صعوبات عند كتابة الحقيقة». وفي هذه الفترة توقف برشت عن كتابة مسرحياته التعليمية؛ ربما لأنه تبين قصورها عن تحقيق أهدافه من المسرح الملحمي الذي كان دائم التفكير فيه، وراح تحت وطأة الظروف التي يعيشها يؤلف مسرحيات كفاحية تقترب كثيرا من النزعة الطبيعية التقليدية (من ذلك مسرحية «رعب الرايخ الثالث وتعاسته»، ومسرحية «بنادق الأم كارار» التي تكاد تسير على التقاليد الأرسطية الخالصة). ويضع مقاله الهام «مسرح التسلية أم مسرح التعليم» (1936م) الذي يقيم فيه مسرحه الجدلي أو «غير الأرسطي» على ما يسميه بالإغراب الذي يجعل الممثل «يعرض» دوره على المتفرجين بدلا من الاندماج فيه، ويحفزهم على الاندهاش من الواقع الذي يصوره لهم ويدفعهم إلى نقده والثورة عليه. أضف إلى ذلك أن زيارته لموسكو في عام 1935م كان لها أكبر الأثر على تطوره المسرحي، وزادت اقتناعه بآرائه في المسرح الملحمي، وعملت على تأكيدها وتعميقها؛ إذ أتيح له أن يتعرف على المسرح الصيني، ويلتقي بالممثل ماي لان فانج الذي كان يمثل في موسكو في ذلك الحين، ويرى فيه المثل الأعلى للتمثيل الملحمي الذي يبتعد فيه الممثل عن دوره وينفصل عنه.
وهكذا كتب مقاله «آثار الإغراب في فن التمثيل الصيني» (1937م) الذي كان مقدمة لسلسلة من الكتابات النظرية التي راح فيها يدعم نظرياته عن المسرح الملحمي ويطبقها على مشاهد من مسرحياته، ونذكر من تلك الكتابات «المسرح التجريبي» (1939م)، و«مشهد في الشارع»، و«وصف موجز لتكنيك جديد في فن التمثيل، يحدث أثر الإبعاد أو الإغراب» ويتوجها جميعا مؤلفه الهام «الأورجانون الصغير للمسرح» (1948م).
تأثر برشت في هذه السنوات كلها بعالم الشرق الأقصى ونهل من نبع الحكمة الصينية، وعاش مع أفكار بوذا ولاوتزو وكونفوشيوس، وترك ذلك كله أثره على قصائده ومسرحياته من ناحيتي الموضوع والشكل معا. فها هي ذي الحكمة الشرقية بكل ما فيها من محبة وطيبة وتواضع وإحسان ومقاومة للشر والبطش تظهر في كثير من أعماله، وها هو ذا يترجم قصائد صينية ينشرها في عام 1938م (ويجد القارئ بعضها في هذه المختارات) ويؤلف في عام 1939م قصيدته المشهورة «حكاية عن نشأة كتاب تاوتي كنج الذي ألفه الحكيم لاوترو وهو في طريقه إلى المنفى».
زاد خطر الحرب، واشتد الزحف النازي على البلاد المجاورة، وانتقل برشت إلى السويد في أبريل 1939م، واشترك في مؤتمر للمهاجرين الأحرار عقد في لندن في نفس العام، والتقى فيه بكثير من شخصيات الأدب والفن ومنهم الملحن هانز آيزلر، والمصور أوسكار كوكوشكا، والمخرج برتولد فيرتل. وأتم في نفس العام بعض أعماله الهامة، ومنها حياة جاليليو (التي كتبها كما يذهب البعض تحت تأثير النجاح الذي حققه عالم الفيزياء المشهور أوتوهان بشطر نواة اليورانيوم) والأم شجاعة وأبناؤها، ومحاكمة لوكولوس، وكلها تمثل ذروة التطور في الدراما الملحمية الواقعية، كما تؤلف بين العناصر التعليمية والعناصر الفنية في وحدة واحدة. فجاليليو يعبر عن مأساة العالم الذي يتنكر في الظاهر لاكتشافاته العلمية الخطيرة التي تثير غضب الكنيسة وتهدد سلطانها المطلق لكي يتمكن من مواصلة البحث عن الحقيقة. والأم شجاعة هي مثال التاجرة الخبيثة الغبية التي تتعثر في حرب الثلاثين من مغامرة إلى مغامرة، وتفقد ابنيها وابنتها واحدا بعد الآخر، وتوشك أن تفقد كل شيء ولكنها لا تتوقف عن الجري وراء الربح ولا تتعلم من كوارث الحرب! أما القائد الروماني لوكولوس فيحاكمه العمال والعبيد في العالم الآخر ويزنون حسناته وسيئاته. وأما مسرحية «إنسان ستشوان الطيب» التي بدأها في عام 1938م وأتمها في عام 1941م فهي آخر الأعمال الكبرى التي ألفها في منفاه الاسكندنافي ، وحاول أن يثبت فيها بأسلوب فني غير مباشر كيف أن الإنسان مضطر في المجتمع الرأسمالي إلى أن يحيا بضميرين ينكر كل منهما صاحبه، وكيف أن الخير والطيبة لا مكان لهما في وسط يتحكم فيه الأغنياء في الفقراء. فالبغي الطيبة شن تي تتشكل في شكلين، وتعيش بقلبين ووجهين، أما أحدهما فيحسن إلى الفقراء ويعطف على المساكين ويحوز رضا الآلهة، وأما الآخر الذي تتحول فيه إلى ابن العم الشرير شوي تا فهو يفكر بعقلية الرأسمالي، ويتصرف بماله في أقدار الناس.
وانتقل الشاعر إلى فنلندا في عام 1940م حيث كتب هناك مسرحيته الشعبية المرحة الصافية «السيد بونتيلا وتابعه ماني» واستلهم فكرتها من قصص الكاتبة الفنلندية هيلا وليوكي التي آوته هو وأسرته في ذلك الحين. وبونتيلا واحد من فصيلة الإقطاعيين التي تنبأ برشت بانقراضها النهائي، فهو إنسان رحيم طيب القلب حين يسكر، ولكنه مستغل قاس مجرد عن الإنسانية حين يصحو من سكرته.
4
وبينما كان هتلر يستعد لغزو روسيا، كان برشت يستعد للرحيل من جديد، ويسعى للحصول على جواز سفر إلى أمريكا، ويعمل في مسرحيته التي استمد موضوعها من مغامرات أبطال العصابات في شيكاغو، وصور بها استيلاء هتلر وأعوانه على السلطة، ونعني بها مسرحية «صعود أرتورو أوي الذي يمكن أن يوقف» التي أتمها في أسابيع معدودة.
وفي الثالث عشر من شهر مايو عام 1941م غادر برشت فنلندا ورحل إلى فلاديفوستوك عن طريق موسكو. وفي الحادي عشر من شهر يونيو استقل سفينة سويدية إلى أمريكا، حيث أقام هناك في سانتا مونيكا، إحدى ضواحي لوس أنجليوس، في بيت قديم استطاع أن يشتريه لنفسه، ليعيش فيه ما يقرب من ست سنوات. وتجمع كثيرون من أصدقائه الألمان المهاجرين حوله وتعرف على عدد من الشخصيات المشهورة في عالم الفن منهم شارلي شابلن وتشارلز لوتون وألدوس هكسلي وأودن والناقد المسرحي إريك بنتلي الذي أصبح من أكبر المتحمسين له والمترجمين عنه في اللغة الإنجليزية.
وراح برشت يعمل في مسرحيته «رؤى سيمون ماكار» وهي قصة فتاة فرنسية صغيرة، تتشابك فيها أحداث انهيار فرنسا في صيف عام 1940م مع مصير جان دارك وكفاحها ضد الإنجليز، ومسرحيته «الجندي شفيك في الحرب العالمية الثانية» التي استلهم موضوعها عن رواية للكاتب التشيكي هاشك.
أغلقت المسارح الأمريكية أبوابها في وجه برشت، وكان عليه أن ينتظر أربعة أعوام حتى تمثل بعض المشاهد من مسرحيته «رعب الرايخ الثالث وتعاسته» من ترجمة إريك بنتلي في سان فرانسسكو ونيويورك، وإن بقي حظها من النجاح ضئيلا. ولم يستطع أن ينفذ شيئا من مشروعاته اللهم إلا الفيلم الذي كتبه وأخرجه فرنس لانج بعنوان «الجلادون يموتون» وهو يصور جرائم هيدرش
5
الدموية في تشيكوسلوفاكيا ومصرعه على يد رجال المقاومة السرية، كما راح يعيد كتابة مسرحية «جاليليو» (بالتعاون مع الممثل الشهير تشارلز لوتون الذي قام بالدور الرئيسي فيها عام 1947م، متأثرا بالانفجار الذري في هيروشيما الذي هز كيانه هزة عميقة) ويتم آخر مسرحياته الكبرى التي استمد موضوعها من مسرحية صينية قديمة، ونعني بها «دائرة الطباشير القوقازية» وإن كان قد غير فيها تغييرا حاسما بحيث تجتاز الوصيفة التي رعت الطفل رعاية الأم، لا الأم الحقيقية، امتحان حلقة الطباشير، وبذلك يبين برشت أن الروابط الاجتماعية أقوى من روابط اللحم والدم. وتعد هذه المسرحية، التي يقدمها منشد واحد يذكرنا بدور الشاعر أو الراوية في أدبنا الشعبي، من أنجح مسرحيات برشت وأقدرها على توضيح مقصده من المسرح الملحمي (وقد ترجمها أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى العربية وظهرت في سلسلة روائع المسرح العالمي التي كانت تصدر بالقاهرة)، وقد مثلت المسرحية لأول مرة باللغة الإنجليزية على أحد مسارح الطلبة في نورثفيلد (ولاية مينيسوتا في شهر مايو عام 1948م).
ترك برشت أمريكا في عام 1947م. وليس صحيحا أن اللجنة الخاصة بالنشاط المعادي لأمريكا هي التي اضطرته إلى مغادرة البلاد، فقد أبدى رغبته بالفعل في عام 1946م في العودة إلى أوروبا، ولكنه لم يحصل على تأشيرة السفر إلا في أوائل عام 1947م. ومهما يكن الأمر فقد حوكم أمام تلك اللجنة، وبرئ من تهمة العمل لصالح الشيوعيين، واستقل الطائرة في اليوم التالي لمحاكمته إلى أوروبا حيث وصل إلى سويسرا في اليوم الخامس من شهر ديسمبر عام 1947م، بعد خمسة عشر عاما قضاها في المنفى. وأقام في الدور العلوي من أحد البيوت الريفية في هرلبرج المطلة على بحيرة زيورخ وهناك أتم أهم مؤلفاته النظرية عن مسرحه الملحمي، وهو الأورجان الصغير للمسرح، كما أعاد صياغة مسرحية أنتيجونا لسوفوكليس (عن ترجمة الشاعر هولدرلين) وأبرز فيها الجانب الاجتماعي والسياسي من الأحداث المعاصرة له بصورة واضحة. وفي أكتوبر عام 1948م غادر سويسرا إلى برلين الشرقية، وما زال الرأي القائل بأنه كان ينوي الاتجاه إلى ألمانيا الغربية فمنعته سلطات الاحتلال في حاجة إلى التأييد.
وصل برشت إلى برلين في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1948م واستقر فيها حتى وفاته في أغسطس 1956م. وكان أول أعماله هو إخراج مسرحية الأم شجاعة على المسرح الألماني، وقامت فيها زوجته هيلينه فيجل بتمثيل الدور الرئيسي. وفي شهر سبتمبر أسس الفرقة المسرحية المشهورة ب «فرقة برلين»
6
التي أشرفت عليها زوجته، وانتقلت الفرقة في عام 1954م إلى المسرح المعروف بمسرح الشفباوردام
7
الذي ظلت تعمل فيه حتى وفاتها. وراح برشت يشرف على إصدار أعماله الكاملة، وإخراج مسرحياته وإعداد مسرحيات أخرى مقتبسة من مؤلفين معظمهم من الدول الاشتراكية، ويدرب الموهوبين من الممثلين الشبان، ويجذب بشخصيته الإنسانية الخصبة عددا كبيرا من المشتغلين بفنون المسرح، ومحبي الأدب والتقدم على وجه الإجمال. ولم يقف نشاطه عند هذا الحد، فقد راح يدعو إلى توحيد ألمانيا والحيلولة بينها وبين التسلح من جديد. ويرسل خطابه المفتوح المشهور إلى فالتر أولبرشت رئيس ما كان يسمى بألمانيا الديمقراطية على إثر إخماد ثورة العمال في القطاع الشرقي من برلين في شهر يونيو عام 1953م على الحزب الشيوعي الحاكم - ويوجه إليه فيه أعنف اللوم ويقول له عبارته المشهورة: إذا كان هذا الشعب لا يعجبكم فابحثوا لكم عن شعب آخر. وقد دارت المناقشات وما زالت تدور حول هذا الخطاب الذي لم ينشر منه أولبرشت غير العبارات الختامية التي أكد فيها تضامنه مع الحزب الاشتراكي الحاكم واعترافه بإنجازاته، كما اختلف النقاد وما زالوا مختلفين في مدى ولاء برشت للنظام الشيوعي السابق الذي عاش آخر سنواته في ظله. ولكن المؤكد على كل حال أن الشاعر فيه كان أقوى من السياسي والأيديولوجي، وأن الفنان كان أعظم وأعمق من أن يكون مجرد بوق يدعو إلى مذهب بعينه، فلا شك أنه لم يغفل عن الأخطاء والتناقضات التي وقع فيها النظام في التطبيق العملي.
انتزع الموت برشت وهو في قمة نشاطه، تدل على ذلك آثاره العديدة التي لم يقدر لها أن تتم؛ فقد مرض مرضا شديدا في ربيع عام 1956م بعد اشتراكه في مؤتمر الكتاب المنعقد في برلين في يناير من نفس العام، واضطر إلى وقف التجارب التي كانت تجرى على مسرحية جاليليو وقضاء عدة أسابيع في العلاج. ولم يكد يقف على قدميه حتى راح يشارك في التجارب النهائية التي تجرى في فرقته المسرحية التي كان مقدرا لها أن تزور لندن في نهاية شهر أغسطس.
ولكن صحته ساءت فجأة، ومات بالسكتة القلبية في اليوم الرابع عشر من أغسطس وووري التراب بعد ثلاثة أيام من وفاته، ونفذت وصيته التي طلب فيها أن يدفن في صمت بجوار مسكنه الأخير، بحيث يكون قبره قريبا من قبر الفيلسوف هيجل الذي طالما تعلم منه وصبر على فهمه وقراءته، وسار في حياته وتطوره الفني على منهجه الديالكتيكي (الجدلي) من الموضوع في مسرحياته وقصائده المبكرة التي تأثرت بالنزعة العدمية التعبيرية وحاولت أن تثور عليها، إلى نقيض الموضوع في مسرحياته التعليمية المتطرفة، حتى وصل إلى الوحدة الشاملة في مسرحياته الكبرى التي ختم بها حياته في الفن والكفاح على السواء.
8
كانت هذه لمحة موجزة عن حياة برشت وأعماله، لا يسمح المجال بالتفصيل فيها. ولقد كتب الكثير عن فنه المسرحي وعن نظرياته في المسرح الملحمي، ولكن ما كتب عن شعره أقل القليل، وسوف تحاول السطور القادمة أن تشير إلى بعض خصائص شعره، تاركة الشعر نفسه يتحدث إلى ذوق القارئ وعقله ووجدانه.
9
من الشعراء من تثيرنا تعبيراتهم الغريبة، وتدهشنا سبحاتهم المهومة، وتغمرنا بهالة من الحيرة والغموض، وكأنهم طبول غيبية معتمة، أو سحرة وممسوسون يستمدون إلهامهم من قوى علوية نائية. أما برشت فهو من الشعراء القلائل الذين يتجهون إلى الناس العاديين، ويتحدثون إليهم في لغة طبيعية مألوفة، تنادي العقل ولا تستثير الغريزة. كان أبغض الأشياء إلى نفسه هو التهويل والتضخيم والمبالغة في الحساسية والعاطفية، وكان كل ما يريده هو الوضوح والبساطة والدقة التي تكاد تقترب من موضوعية العلماء الطبيعيين.
اسمعه يقول في هذه الأبيات التي يهديها إلى أسد رسم على وعاء صيني:
الأشرار يخشون مخلبك،
الطيبون يفرحون برقتك،
مثل هذا
سمعته عن أشعاري
فسرني.
في مثل هذه الأبيات - وأشباهها كثير في هذه المجموعة - نلمس إحساس برشت اللطيف بالكلمة والإيقاع، وتعبيره عن القوة والرقة، ووضعه للمضمون الجاد الثقيل في الصورة الرشيقة الخفيفة. ما من كلمة ضخمة أو خطابية، ولا من إحساس أجوف أو متميع، بل أصعب الأشياء يجد التعبير عنه في أسهل قالب، وكأنه «السهل الممتنع» الذي طالما حدثنا عنه النقاد. إنه يكاد يبلغ من الدقة والبساطة والاقتصاد في التعبير حدا نستطيع معه أن نقول إن العقل نفسه قد أصبح شعرا، العقل الخالص الذي يسلط ضوءه الحكيم على الأشياء فتشف عن جوهرها الحق.
تميزت قصائده وأغانيه وقصائده أو حكاياته الشعرية المبكرة - التي تأثر فيها بفيون ورامبو وفيدكند - بوحشيتها الصارخة، وتمردها المتحدي ، وسخطها الساخر المرير على انحطاط القيم البرجوازية، وتعاسة القدر الألماني في أوائل هذا القرن.
كان القراء يحسون في قصائده المبكرة بما يشبه الديناميت الشعري الذي يفجر الأعصاب ويصدم النفوس بسحره المفزع القاسي. الغريزة الحيوانية المتجبرة، والكآبة المستفزة، والإحساس الشامل بالعدم يطالعنا في مثل هذه الأبيات من «كورال بال»:
وإذا حجر الأرض المعتم جذب إليه بال،
فما قيمة العالم بالنسبة لبال؟ إن بال شبعان.
كثيرة هي السموات التي يحملها تحت جفنيه بال،
بحيث لو مات فعنده من السموات ما يكفيه.
وفي أبيات أخرى نحس بظلال الغابات السوداء تنشر عتمة الموت فوق المدن الصاخبة، وتنذر بالانهيار والخراب ما شيدته يد الإنسان:
من هذه المدن لن يبقى إلا ما يجوس فيها :
الريح
البيت يفرح الآكل؛ لأنه يفرغه مما فيه.
نحن نعلم أننا زائلون،
وما سوف يأتي بعدنا
شيء لا يستحق الذكر.
هي الأنا الثائرة التي تتلذذ بالتخريب وتنتشي بالدمار، ولكنها ليست الأنا الرومانسية الوحيدة التي لا ترى سوى الموت والعدم في كل مكان. إنها تحطم وتخرب وتنتظر في نفس الوقت أن يولد فجر جديد، وتبزغ قيم جديدة. في هذه المرحلة العدمية المبكرة كان ثمة إحساس غامض بضرورة الثورة، ومشاركة في الشقاء الجماعي لم تعرف بعد حدودها النظرية، وتمرد محمود لم يستند إلى أساس من العقيدة الفكرية. وكان أن أقبل برشت على قراءة هيجل ودراسة ماركس، وعرف مرارة النفي وقسوة الاضطهاد، فأصبح لسان العاملين والكادحين الذي لا يفتأ يثير فيهم الدهشة من الواقع الذي يعيشون فيه، ويفتح عيونهم على تناقضاته الدامية، ويطالبهم بتغييره والخلاص منه:
على من يعيش ألا يقول: أبدا.
فاليقيني ليس يقينا.
إنه لا يبقى على ما هو عليه.
عندما ينتهي الحاكمون من حديثهم،
فسوف يتحدث المحكومون.
وهكذا تتوارى الذات وراء الموضوع، وتتحد آلام الفرد بآلام المجموع، ويصبح الفن وسيلة للتعبير عما هو عام وضروري ومعقول.
انظر إليه وهو يسخر من الشعراء الذين جعلوا مهمتهم مواساة النفوس والترفيه عنها بالأحلام والأوهام:
ألم نغن لكم حين شبعت بطوننا،
عن كل ما تمتعتم به على الأرض؛
حتى تتمتعوا به مرة أخرى؟
لحم نسائكم. كآبة الخريف،
الجدول وكيف ينساب في ضوء القمر ...
حلاوة فاكهتكم، حفيف أوراق الشجر المتساقطة،
ثم لحم نسائكم من جديد. والمجهول فوقكم،
بل إننا لم ننس التراب الذي تذكرون،
إنكم ستتحولون إليه ذات يوم،
في نهاية أعوامكم.
أصبحت الكلمة لدى الشاعر - الذي عرف مسئولية واجبه الأخلاقي والإنساني - هي نفسها واجبا يهدف إلى تعليم الجاهلين، والوقوف إلى جانب المظلومين، وتشجيع المكافحين والثائرين، إنه يمتحنها المرة بعد المرة، وينزع عنها السطح البراق، ويجردها من القشرة الكاذبة، حتى تصبح نقية، بسيطة، شفافة، وتستوي قوية ثابتة رقيقة. وهي لا تريد الآن أن تعبر عن جو شاعري بقدر ما تطمح إلى التأثير في الفكر والعمل ، لا تريد أن تثير وإنما تريد أن تربي، وتجعل تصوير «النفس» شيئا ثانويا إلى جانب تصوير «القضية» التي تطمح إلى تحقيقها. انظر إلى هذه الأبيات الأربعة، كم من مشكلات طويلة معقدة، وكم من تاريخ حافل بعذاب الأجيال تنطوي عليه:
على الحائط كتابة بالطباشير:
هم يريدون الحرب.
والذي كتبها،
قد سقط صريعا.
هي الحقيقة كتبت سرا على حائط. الطغاة الذين حكموا على الشعب بالطاعة، لم يستطيعوا أن يسلبوه القدرة على المقاومة، «هم يريدون الحرب» ولكن الحرب قد وقعت فعلا. والذي أراد المأساة قد صرعته المأساة، والذي أراد أن يكون قدرا لم يستطيع أن يفلت من القدر. لقد بدا في وقت من الأوقات كأن كل شيء يسير بمشيئة الحاكمين، وكأن الأمل قد اختفى إلى غير عودة. ولكن ها هي الكتابة على الحائط تكذب المتجبرين كما تكذب اليائسين: «هم يريدون الحرب» كتبها بالطباشير رجل مجهول، مضطهد، مهان. والحقيقة وجدت، على الرغم من كل شيء، من يقولها. وستجد دائما من يعلنها، ولو بكتابة بالطباشير، على جدار قديم ووحيد. لقد استطاع الشاعر أن يستبعد مئات التفاصيل ليبرز الواقع المعقد في أبسط إطار. وما أصعب الوصول إلى السهل، وما أعقد الطريق الذي يؤدي إلى البسيط!
ما من تعبير غامض، أو حالم، أو مغلف بالسحاب أو الضباب، بل وضوح قاس عنيد، ودقة موضوعية لا يمكن أن يساء فهمها، وكلمات كالسيف لا يمكن أن تحمل معنيين. إنها أكثر واقعية من الواقع؛ لأنها لا تزيفه ولا تعميه، ولا تحاول أن تعكسه في غباء كما يفعل معظم الذين يسمون أنفسهم بالواقعيين، بل ترشحه وتشف عن جوهره، وتستبعد العرضي لتستخلص الضروري. إن الشعر يعبر الآن عن واقع شفاف تتخلله أشعة المعرفة والفهم والذوق. ولكن هذه الشفافية لا تبلغ أبدا مبلغ التجريد، بل تركز الواقع نفسه، وتصور الموضوع في صورة بسيطة تذكرنا ببساطة الشعر الصيني الذي يصل إلى أقصى حد من الإيجاز والواقعية في آن واحد، ويضع المضمون الهائل العظيم في الشكل الرقيق الرشيق.
ومع أن هذا الشعر يخلو من النبرة الخطابية والعاطفية، ففيه مع ذلك من إيقاع الموسيقى الباطنية ما لا يقل عما في شعر جوته أو رلكه، وإن كان يزيد عليهما بمقدار ما فيه من العقل والخبث والذكاء. ولعل هذا هو الذي يفاجئ القارئ ويستفزه حين يطلع عليه لأول مرة. لقد كان ينتظر الشاعر الساذج البريء الذي تعود عليه، فإذا به يصدم بالشاعر الماكر الشرس الذكي، ويرى صورة جديدة للشاعر الحكيم الذي لا يجتر الماضي بل يصنع المستقبل! •••
ذلك هو «برشت المسكين»، الابن الضائع للبرجوازية، الشاعر الذي قضى حياته في محاربة الحرب، ومعاداة البربرية، والوقوف إلى جانب الكادحين، يلبس سترة العمال بغير رباط عنق، ويحيا حياة التقشف في المنفى، ويغير بلدا ببلد كما يغير المرء حذاء بحذاء، ويمزج في قصائده ومسرحياته أنين العدمي الحزين، بديناميت الثوري العنيد. إنه في تراث بلاده شيء صارخ جديد، ليس للمجتمع الأدبي به عهد؛ فليس فيه شيء من ترفع ستيفان جئورجه، أو رقة هوفمنستال، أو سحر رلكه، أو جلال توماس مان. في هذا المجتمع الأدبي الذي ما زالت تحدده شخصية جوته المترفعة الطاغية، أصبح برشت هو الشخصية المضادة التي قدر لها أن تحول مجرى الفكر والشعر وجهة لم يألفها من قبل.
إن برشت يثير السخط عليه حيثما ذهب. فالبعض ساخطون عليه لارتمائه في أحضان الماركسية والبعض ساخط عليه لأنه «منشق» ولم يكن ماركسيا كما يريد له الحزب، والبعض الآخر غاضب عليه لأن سياسته دمرت موهبته. أما الشاعر نفسه فيقف بعيدا، يبتسم ابتسامة الحكيم الصيني كأنه يقول ما قاله عن نفسه في إحدى قصائده: أيا كان الذي تبحثون عنه، فأنا لست هو!
وإذا كان السخط يدل على شيء فإنما يدل على أن الجميع يأخذونه مأخذ الجد، وأنه وإن صدمهم وأثار ثائرتهم فلأنه يملك إعجابهم في كل الأحوال.
لقد اختلفت وظيفة الكلمة، وأصبحت وظيفة الشاعر الجديدة صدى لوضعه الجديد في المجتمع. لم يعد للشاعر الحق في أن يعبر عن عواطفه الشخصية، بل عن مشكلات المجتمع. والفكرة الرومانسية عن الخلق الفردي قد أصبحت في رأيه خطأ كبيرا. فتقسيم العمل في المجتمع الحديث قد غير من طبيعة الخلق الفني وحوله إلى عملية جماعية، الهدف منها هو تغيير الظروف الاجتماعية. إنه يتحدث عن الشاعر البرجوازي الذي يريد له أن ينقرض فيقول:
هنالك يتكلم من لا يستمع إليه أحد.
إنه يتكلم بصوت مرتفع.
إنه يكرر نفسه.
حديثه باطل،
ولا فائدة من إصلاحه.
الشاعر الآن يتحدث في نغمة جديدة، ويكتب بأسلوب جديد. البؤس والتعاسة والثورة تصبح موضوعات تستحق أن تكتب عنها السوناتا ويؤلف عنها النشيد. العمال البسطاء والمكافحون المجهولون من أجل القوت اليومي يحتلون مكان القادة والملوك والنبلاء. حماس العاطفة ورقة الحلم وسكر الحواس تترك مكانها للتهكم الساخر، واللفظ الوقح، والغلظة المتعمدة، إن أبيات الشعر تغضب الآن كل من يريد من الفن الاستمتاع والتذوق الرفيع. إنها تصدم وتجرح. تدخل في الدم، تهز الجسد كالكهرباء. يقول في قصيدته المشهورة «برتولت برشت المسكين»:
أنا، برتولت برشت، ولدت في الغابات السوداء.
حملتني أمي إلى المدن،
وأنا بعد جنين في أحشائها،
وسوف تلازمني برودة الغابات،
إلى يوم أموت.
الغابات السوداء وأسفلت المدن. الظلام الكوني القديم، والظلم الطبقي الذي طال عليه الأمد. إن برشت كله حاضر في هذين الضدين المتقابلين. وسوف يعد نفسه ليكون صوت الطبيعة، وصوت المظلومين والمضطهدين، وسيحمل شعره هذين العنصرين على الدوام: رومانسية الغابات الموحشة، واحتقار المدن التي ستفنى ذات يوم. الكآبة المفرطة، والقسوة المستفزة، الفزع من مصير الخليقة، والإيمان بغد أفضل.
أصبح الشعر الغنائي - وبخاصة بعد تجاوز برشت المرحلة التعبيرية ووصوله إلى النزعة التعليمية المتطرفة في مسرحياته وقصائده بين عامي 1930 و1941م - أداة للكفاح السياسي والاجتماعي. وكان لا بد أن يكون ذلك على حساب الشعر نفسه، فيصبح شعرا عقليا كما كان في عصر التنوير على عهد ليسنج، يضحي بسحر الكلمة في سبيل الدعوة، ويتخلى عن الغنائية لينصرف إلى تربية القارئ وإعداده للاشتراكية. إنه يقول عنه: «لا نزاع في أن الشعر يجب أن يكون شيئا يمتحنه الإنسان بمقياس قيمته في الاستعمال، إن كل القصائد العظيمة لها قيمة الوثائق.»
10
هذه ال «يجب» - التي لا ينبغي أن يكون لها مكان في الشعر ولا في الفن على وجه الإطلاق! هي التي تدفعه الآن أن يقول في إحدى مسرحياته التعليمية (الاستثناء والقاعدة) على لسان الجوقة:
نحن نناشدكم في صراحة
ألا تروا فيما يحدث كل يوم
شيئا طبيعيا؛
لأنه ما من شيء يوصف بأنه طبيعي
في مثل هذا الزمن الذي يسوده الارتباك الدموي،
والفوضى المنظمة، والتعسف المدبر،
والإنسانية المتنكرة لإنسانيتها،
حتى لا يستعصي شيء على التغيير.
إن بيت الشعر يصبح وسيلة لإحداث ما يسميه «بأثر الإغراب»
11
الذي يدور حوله مسرحه الملحمي، ويهدف به إلى إزالة الوهم من المسرح، وتربية المتفرج على الحكم الموضوعي على ما يعرضه الممثل أمامه، وخلق مسافة البعد بينه وبين الدور الذي يعرضه - دون أن يندمج فيه - وبين الجمهور والمسرح الذي يريد له أن يتجرد من سحر التمثيل والتخييل. وإذا كان الباعة المتجولون في الشوارع، بوصفهم النماذج الأصيلة للتمثيل الطبيعي، يستخدمون البيت الشعري، فهم يستعملون إيقاعات ثابتة غير منتظمة، سواء أكانوا يبيعون الجرائد أو الفاكهة أو البنطلونات. إن البيت الشعري هنا يعبر تعبيرا تلقائيا طبيعيا والإيقاع فيه يأتي من وجدان الشعب مباشرة. وهكذا يفعل الشاعر ما فعله مارتن لوثر حين نصح بأن ينظر الإنسان دائما إلى فم الشعب. ومن ثم كان البيت الشعري في كثير من الأحيان بغير قافية ولا إيقاع منتظم؛ لأنه تعبير مباشر عن الشعب وعما في الحياة الاجتماعية من تنافر وتناقض واختلاف.
إن شعر برشت يتميز بأنه يعيش على لغة الشعب ويتغذى منها، وينهل من الأغنية الشعبية بعد أن يصوغها صياغة ثابتة موجزة جسورة. ولكن شعره، وبخاصة في المرحلة التعليمية المتوسطة التي أشرنا إليها، يعبر عن الصراع الذي ظل يعانيه بين طبيعته كشاعر وبين آرائه السياسية. يقول مثلا في مسرحيته التعليمية «طيران لندبرج»:
وهكذا أكافح الطبيعة،
كما أكافح ذاتي نفسها.
كما يقول في قصيدته «زمن سيئ للشعر»:
في ذاتي يتنازع
الحماس لشجرة التفاح المزهرة،
والفزع من خطب النقاش (v) .
لكن الأمر الثاني، هو وحده
الذي يجعلني أجلس إلى مكتبي.
إنه يجدد أشكال الشعر الكفاحي التي كانت مفضلة في الأدب الساخر في القرن السادس عشر، في الكورال والنشيد، في قصائد الحكمة والهجاء، في أغنيات العمل والتنبؤ، وفي شعر الأساطير والحكايات الشعبية والخرافات. كل هذا يتأثر فيه الشعر الغنائي كما يتأثر مسرحه بالمسرح الصيني القديم والمسرح الديني عند الجزويت في العصور الوسطى والمسرحيات المدرسية في عصر النزعة الإنسانية. وهو يجعل من التراث موضوعا للتهكم والسخرية، ويحتفظ بالشكل القديم المقدس وإن كان يملؤه بمضمون دنيوي عادي، ربما يصل إلى حد رهيب من التفاهة والسخف. وهو يجرد الشعر من طموحه الأزلي إلى المطلق والأبدي، ويربطه بعجلة الزمن والأحداث المعاصرة له. إنه يعلم القارئ كيف يغير من هذا العالم الذي أفسده المستغلون والظالمون وجردوه من معناه. والقصائد الحكمية الموجزة تنقل تعاليمه في ثوب الأغنيات الشعبية والأزجال التي يرددها المغنون في الشوارع أو الشحاذون على الأبواب. فهو يقول في ذكرى جندي ألماني مات في أثناء الحرب مع فرنسا:
أنتم أيها الناس، إن سمعتم أحدا يقول:
إنه الآن قد حطم دولة عظيمة،
في عشرين يوما، فاسألوا عني، أين كنت.
كنت هناك وعشت منها سبعة أيام.
لقد طرح كل زينة جمالية، وأهمل القوالب المألوفة والعبارات البالية. ولكن الهدوء الذي يبدو من إيقاعه البسيط يحمل التوتر الممزق في داخله. والبرودة الثلجية التي صاغ فيها أفكاره لا تستطيع أن تخفي العذاب الكامن وراءها.
ذلك أن الصراع بين الشاعر والسياسي لم يختف من شعره أبدا، والإحساس بأن الشعر قد باع نفسه للدولة لم يستطع على الرغم من الأقنعة الكثيرة أن يختفي كل الاختفاء.
العقل المتيقظ، والتهكم المتزن، دفء الشعر الطبيعي وتجريد القضايا المذهبية، لهجة الرعاع وحكمة الصين والنغمة الشعبية البسيطة المباشرة والدعوة السياسية والتعليمية. كل هذه أضداد اجتمعت في حياة برشت وفي أشعاره، وساعد إحساسه الأصيل العميق بالإيقاع أن يجعل منها ما وصفه هو بقوله إنه «السهل الممتنع»، وأن يكسب قصائده الأخيرة بوجه خاص طابع الشكوى والحزن والفجيعة.
ويرجع إليه الدفء الإنساني، ولا يعود يخجل من أن يتغنى بنغمة «هيني» الرقيقة، أو يعبر تعبير هلدرلين أو التوراة:
آه يا ألمانيا، أيتها الأم الشاحبة.
كيف تبدين ملطخة بين الشعوب؟
ويعود إلى «الأبيجرام» الغنائي في شكله الموجز، ويستغني عن التجريد ليعطي صورا حسية تتألق بالجمال، وتتحد فيها الفكرة بالإحساس، على نحو ما يقول عن إعادة تسليح ألمانيا:
قرطاجنة العظيمة دخلت في حروب ثلاثة.
كانت ما تزال قوية بعد الحرب الأولى.
وكانت ما تزال مسكونة بعد الحرب الثانية.
ولكن بعد الحرب الثالثة لم يعثر لها أحد على أثر.
ويدفعه حبه للصين إلى كتابة قصائد كأنها نقوش رقيقة حفرها الإحساس، تذكرنا بحكم تاو تي كنج المشهورة، هي في بعض الأحيان شعر طبيعي متأمل، وفي بعضها الآخر قصائد كفاحية باسمة. لقد تخلى الآن عن عاطفية الشباب المتطرفة، وحدة لهجته في سنوات المنفى. عاد الشاعر إلى نفسه، إلى الصورة الرحبة، والإيقاع الطليق، والتأثر المكتوم. ويصل إلى قمة التعبير الذاتي في قصيدته إلى الأجيال القادمة، التي كتبها في سنة 1938م، بعيدا عن تأثير الحرب والحزب، ووجهها إلى العالم من بعده. لقد تمزقت الأقنعة التي وضعها على وجهه، وهو يتحدث الآن حديث من يشعر بالذنب ويستعيد حياته في زهد ومرارة، ويعبر عن الراحة الأبدية التي كان يحلم بها «بعل» في مسرحيته الأولى حين كان يتطلع إلى السماء «كسولا وراضيا في نهاية الأمر»:
أنتم يا من ستظهرون بعد الطوفان
الذي غرقنا فيه،
اذكروا،
حين تتحدثون عن ضعفنا،
الزمن الأسود
الذي نجوتم منه.
لقد مضينا، نغير بلدا ببلد،
أكثر مما نغير حذاء بحذاء.
نخوض حرب الطبقات،
ويملكنا اليأس،
حين نجد الظلم ولا نجد من يثور عليه.
آه ... نحن الذين أردنا أن نمهد الأرض للصداقة،
لم نستطع أن يكون بعضنا صديقا للبعض.
أما أنتم، فعندما يأتي الزمن،
الذي يكون فيه الإنسان عونا للإنسان،
فاذكرونا،
وسامحونا.
إنها وصية شاعر عظيم، ربما شعر باليأس وخيبة الأمل في سنوات عمره الأخيرة، وعرف الهوة التي تفصل النظرية عن التطبيق، وتبعد الشعر عن الواقع، ولكنه لم يفقد إيمانه بعالم أسعد وأعدل.
إن شعر برشت هو مذكرات شاعر أحب هذا العالم، وعبر عن أحداث عصره التي مزقته في النهاية. وليس ببعيد أن يأتي اليوم الذي تتذكره فيه الأجيال القادمة، فتحبه، وتفهمه، وتسامحه.
عبد الغفار مكاوي
القاهرة، 1965م
أيا كان الذي تبحثون عنه،
فأنا لست هو ...
وددت لو قرأ الناس يوما على شاهد قبري: «هنا يرقد ب. ب. نقي. موضوعي. شرير.»
من المؤكد أنني سأنام تحته نوما هادئا مريحا. (عن قصيدة ذكريات عاطفية أمام نقش مدون، 1922م)
لست في حاجة إلى شاهد قبر،
لكن إذا شعرتم بضرورة وضع شاهد على قبري،
فأتمنى أن تكتبوا عليه:
قدم مقترحات، نحن قبلناها منه.
مثل هذا النقش سيكون بمثابة تكريم لنا جميعا. (1933م)
الأشرار يخشون مخلبك، الأخيار يفرحون برقتك،
مثل هذا الكلام عن شعري،
سرني أن أسمعه. (نقش على تمثال صيني مصنوع من جذوع أشجار الشاي ويعتقد أنه يجلب الحظ 1951م)
آه. ليت العدل يوجد، حتى لو حرمت منه، فسوف
يسعدني وجوده، ولو أصابني أنا نفسي بسوء.
كل ما هو جديد، أفضل من كل ما هو قديم (حوالي 1928م).
غير العالم، فهو يحتاج إلى التغيير (عن مسرحية الإجراء 1930م)
أما أنتم، فعندما يأتي الزمن الذي يصبح فيه الإنسان عونا للإنسان، فاذكرونا، وسامحونا. (عن قصيدة إلى الأجيال القادمة، 1934م)
قصائد من 1914-1926م
حكاية حديثة (1914م)
لما هبت أنفاس المساء على أرض المعركة،
كان الأعداء قد انهزموا.
رنت أسلاك البرق،
وأعلنت الخبر للجميع .
في الطرف الأقصى للعالم،
دوى نواح تكسر على قبة السماء،
واندفق صراخ من أفواه غاضبة،
أخذ يترنح في صعود، ويتضخم في جنون.
آلاف الشفاه جفت من صب اللعنات،
وآلاف الأيدي تكورت بوحشية الأحقاد.
وفي الطرف الآخر من العالم،
تلاطمت على قبة السماء أنغام الأفراح،
وانطلقت أصوات التهليل والضجيج والابتهاج،
وتمطت الصدور في راحة وتنفست الصعداء.
راحت آلاف الشفاه تتمتم بالصلوات،
وأخذت آلاف الأيدي تتشابك في تقوى وصلاح.
في الهزيع الأخير من الليل،
رددت أسلاك البرق الأسماء؛
أسماء الموتى الذين سقطوا في ميدان الحرب.
عندئذ خيم الصمت على الأصدقاء والأعداء.
الأمهات وحدهن بكين،
هنا وهناك.
حكاية البغي إيفيلين رو
حين جاء الربيع وكان البحر أزرق،
لم تجد إلى الراحة من سبيل.
رسا على الشاطئ القارب الأخير،
وعليه الشابة إيفلين رو.
كانت ترتدي ثوبا مبللا على الجسد
الذي فاق في جماله الأجساد الأرضية،
ولم تحمل من الذهب والحلي
سوى شعرها الثر البديع. «سيدي القبطان، دعني أسافر معك إلى الأرض المقدسة؛
أريد أن أذهب إلى يسوع المسيح.» «لك ما تشائين أيتها المرأة، لأننا حمقى،
كما أنك آية في الفتنة والجمال.» «ليكافئكم الله، ما أنا إلا امرأة مسكينة.
نفسي ملك للسيد يسوع المسيح.» «أعطينا إذن جسدك الحلو؛
فالسيد، الذي تحبينه، لن يستطيع أن يدفع الثمن،
لأنه قد مات.»
رحلوا في الشمس والريح،
وأحبوا إيفيلين رو.
أكلت خبزهم وشربت خمرهم،
ونهنهت دائما بالبكاء.
رقصوا ليلا، رقصوا نهارا.
تركوا الدفة تسير.
إيفيلين رو كانت حيية وناعمة،
وكانوا أقسى من الحجر.
ذهب الربيع، رحل الصيف.
سارت ليلا بحذاء بال،
من سارية إلى سارية، وبحلقت في الظلام.
راحت تفتش عن شاطئ هادئ.
المسكينة إيفيلين رو.
رقصت ليلا. رقصت نهارا،
وصارت من التعب كالعجوز المريض. (سيدي القبطان، متى نصل
إلى مدينة السيد المقدسة؟)
القبطان رقد في حجرها،
وقبلها وضحك.
إن لم نصل إليها أبدا،
فالذنب ذنب إيفيلين رو.
رقصت ليلا. رقصت نهارا،
فأصبحت كالجثة الهامدة.
ومن القبطان إلى أصغر بحار
شبعوا منها جميعا.
لبست ثوبا حريريا على الجسد
الذي براه السقم وملأته التجاعيد.
وعلى الجبهة المكفهرة،
شعرها الأشعث المتسخ. «لن أراك أبدا، يا سيدي يسوع المسيح
بجسدي المذنب.
فلا يجوز لك أن تذهب لبغي.
وأنا امرأة يائسة مسكينة.»
أخذت تسير من سارية لسارية،
والقلب والقدم آلماها.
سارت بالليل، حين لم يرها أحد.
سارت بالليل إلى البحر.
كان هذا في يناير الرطب،
عندما سبحت صاعدة مع التيار،
والبراعم لا تتفتح
إلا في مارس أو أبريل.
استسلمت للأمواج المعتمة
التي غسلتها، فصارت نقية بيضاء.
وهي الآن ستسبق القبطان
إلى الأرض المقدسة.
وفي الربيع عندما جاءت إلى السماء،
أغلق بطرس في وجهها الباب: «قال لي الله لا أريد
البغي إيفيلين رو.»
لكن عندما جاءت إلى الجحيم،
أوصدوا الأبواب بالمزلاج.
صاح الشيطان: «لا أريد
الصالحة إيفيلين رو.»
هناك هامت في الريح وفضاء النجوم،
ولم تسأم أبدا من التجوال.
رأيتها في آخر الليل تذرع الحقول.
تترنح كثيرا، ولا تتوقف على الإطلاق.
المسكينة إيفيلين رو.
أبدا لم أحبك مثل هذا الحب
أبدا لم أحبك مثل هذا الحب، يا أختي.
1
يوم فارقتك في ذلك الشفق المحمر،
الغابة ابتلعتني، الغابة الزرقاء، يا أختي،
التي ظلت تلمع فوقها النجوم الشاحبة في الغرب.
لم أضحك ضحكة واحدة، أبدا، يا أختي.
أنا الذي واجهت قدري المعتم كأني ألاعبه،
بينما أخذت الوجوه تذوي من خلفي،
على مهل في مساء الغابة الزرقاء.
كل شيء كان جميلا في ذلك المساء الوحيد، يا أختي.
لم أعرف له شبيها بعده ولا قبله.
بالطبع لم تبق لي غير الطيور الكبيرة،
التي تطوف في السماء جائعة في عتمة المساء.
أغنية عن حبيبة
(1) أعرف، يا أحبائي: الآن يسقط شعري بسبب حياتي البائسة. (2) ولا بد لي من الرقاد على الحجر. ترونني أشرب أرخص الخمور، وأسير عاريا في الريح. (3) غير أنه مر علي زمن، يا أحبائي، كنت فيه نقيا. (4) كانت لي امرأة، وكانت أقوى مني، مثلما العشب أقوى من الثور: فهو يشب دائما. (5) رأت أنني شرير، وأحبتني. (6) لم تسأل إلى أين يمضي الطريق، الذي كان طريقها، وربما كان يمضي إلى أسفل. وعندما أعطتني جسدها قالت:
هذا كل شيء. وأصبح جسدي. (7) الآن لا أعثر عليها في أي مكان، اختفت كما تختفي السحابة عندما تمطر السماء، تركتها، وانحدرت إلى الحضيض لأن هذا كان طريقها. (8) لكن بالليل، في بعض الأحيان، عندما ترونني أشرب، أبصر وجهها، شاحبا في الريح، قويا ومائلا نحوي، وأنحني في الريح.
ألمانيا أيتها الشقراء الشاحبة
ألمانيا، أيتها الشقراء الشاحبة،
يا ذات السحب الوحشية والجبهة الناعمة.
ما الذي جرى في سماواتك الساكنة؟
إنك الآن جبانة أوروبا.
الصقور تحوم فوقك!
الحيوانات تنهش جسدك الطيب.
الأموات يلطخونك بوسخهم،
وبولهم
يبلل حقولك. حقولك!
ما كان أرق أنهارك!
الآن تسمها الليلا أنيلين !
بأسنان عارية يتخاطف الأطفال
الغلة من شدة الجوع.
أما الحصاد،
فيسبح في المياه العفنة.
ألمانيا، أيتها الشقراء، الشاحبة،
يا أرض لا إنسان!
مزدحمة أنت بالمباركين!
مزدحمة أنت بالميتين!
أبدا، أبدا، لن يخفق قلبك
الذي تعفن،
الذي بعته
مخللا بملح شيلي،
واشتريت به
رايات وأعلاما.
آه يا أرض الجثث يا ثقب الهموم والأحزان!
الخجل يخنق الذكرى.
وفي نفوس الصغار
الذين لم تفسديهم،
تصحو أمريكا!
إلى أمي
لما انتهى أمرها تركوها في التراب.
الزهور تنمو فوقها والفراشات ترف عليها.
هي، الخفيفة، لم تكد تضغط على الأرض.
كم من الآلام احتملتها
حتى أصبحت بهذه الخفة!
أغنية عن أمي (1920م)
(1) ما عدت أذكر وجهها وكيف كان قبل أن تداهمها الآلام. متعبة راحت تزيح الشعرات السود عن جبهتها النحيلة، ما زلت أرى يدها أمامي. (2) عشرون شتاء تضافرت على تهديدها، آلامها كانت فظيعة، والموت شعر بالخجل منها. ثم ماتت ووجدوا جسدها مثل أجساد الأطفال. (3) نشأت في الغابة. (4) ماتت بين وجوه أطالت التحديق فيها أثناء الاحتضار، حتى صارت وجوها قاسية. غفروا لها عذابها،
لكنها تاهت بين تلك الوجوه، قبل أن تتهاوى أمامها. (5) كثيرون يرحلون عنا بغير أن نمسك بهم. قلنا لهم كل شيء، لم يبق شيء بيننا وبينهم، ووجوهنا صارت قاسية أثناء الوداع. لكننا لم نقل الشيء المهم، وإنما ادخرناه للضرورة. (6) آه، لماذا لا نقول ما هو مهم؟ كان من الممكن أن يكون شيئا سهلا، ولو لحقتنا اللعنة بسببه. كانت كلمات سهلة،
لصق الأسنان مباشرة، تساقطت منا
ونحن نضحك، وما زلنا نختنق بها إلى الآن. (7) ماتت أمي الآن، وبالأمس مساء، في اليوم الأول من مايو.
لم يعد في إمكان أحد أن يحكها بالأظافر.
من الواجب عدم المبالغة في النقد (حوالي
1922م)
من الواجب ألا يبالغ الإنسان في النقد؛
إذ ليس الفرق كبيرا
بين نعم ولا.
الكتابة على ورق أبيض
شيء طيب،
وكذلك النوم وتناول الطعام في المساء.
الماء المنعش على الجلد، والريح،
والثياب الحسنة.
الألفياء،
وتفريغ المعدة في المرحاض.
ليس من باب الذوق
أن يتكلم أحد في بيت المشنوق عن الحبال.
والتفرقة القاطعة بين الطين والقذارة،
شيء لا يليق.
آه! من كانت لديه فكرة
عن سماء ذات نجوم،
فسيمكنه، حتما،
أن يغلق فمه.
السوناتة العاشرة (حوالي سنة 1925م)
سواء عندي أن يحبني هذا العالم (أو لا يحب).
منذ كنت هنا، بلغت سمعي بعض الأخبار،
واحتفظت لنفسي بكل جبن ممكن.
مع ذلك يضجرني أن أفتقد العظمة (في كل مكان).
ولو تصادف وجود مائدة وجلس إليها العظماء،
لجلست معهم، وأنا أقلهم شأنا، عن طيب خاطر.
ولو تصادف وجود سمكة، لأكلت ذيل السمكة.
وحتى لو لم أحصل على شيء، لما فكرت في الانصراف.
ليتني أعثر على كتاب يحكي لي قصة هذه المائدة!
آه! ليت العدل يكون!
حتى لو افتقدته،
لسرني وجوده، ولو كنت من ضحاياه!
هل يوجد هذا كله، وأنا أعمى العينين؟
رغما عني أعترف بهذا:
إني أحتقر التعساء.
تعال معي إلى جورجيا (حوالي 1925م)
1
أنظر إلى هذه المدينة وأنظر: إنها قديمة.
تذكركم كانت جميلة!
لا تتأملها الآن بقلبك، بل ببرود.
قل عنها: إنها الآن قديمة.
تعال معي إلى جورجيا؛
هنالك سنبني مدينة جديدة.
وإذا امتلأت هذه المدينة بالحجارة،
فلن نبقى فيها أبدا.
2
أنظر إلى هذه المرأة وأنظر: إنها باردة.
تذكركم كانت في الماضي جميلة!
لا تتأملها الآن بقلبك، بل ببرود.
قل عنها: إنها الآن في السن كبيرة.
تعال معي إلى جورجيا.
دعنا نفتش هناك عن نساء جديدة.
وعندما تبدو هذه النساء في السن كبيرة،
فلن نبقى هناك أبدا.
3
أنظر إلى آرائك وأنظر: إنها قديمة.
تذكركم كانت صحيحة!
لا تتأملها الآن بقلبك، بل ببرود،
وقل عنها: إنها الآن قديمة.
تعال معي إلى جورجيا.
هناك، كما سترى بنفسك، آراء جديدة.
وعندما تبدو هذه قديمة،
فلن نبقى هناك أبدا.
عن الرجال العظام (1926م)
1
الرجال العظام يقولون أشياء كثيرة غبية.
يتصورون أن جميع الناس أغبياء.
والناس لا تقول شيئا وتتركهم يعملون.
بهذا يدور الزمن دورته.
2
لكن الرجال العظام يأكلون ويشربون،
ويملئون البطون.
وبقية الناس تسمع عن أعمالهم،
ويأكلون كذلك ويشربون.
3
احتاج الإسكندر الأكبر ، لكي يعيش،
إلى مدينة بابل العظيمة.
ولقد وجد أناس آخرون،
لم يشعروا بأنهم في حاجة إليها، أنت واحد منهم.
4
كوبرنيقوس العظيم لم يخلد للنوم.
كان في يده منظار مقرب.
ظل يحسب حتى عرف أن الأرض تدور حول الشمس،
فاعتقد عندئذ أنه فهم السماء (بشكل أفضل).
5
برت برشت العظيم لم يفهم أبسط الأشياء،
وراح يفكر في أصعبها: كالعشب على سبيل المثال.
أخذ يمتدح نابليون العظيم؛
لأنه كان يأكل مثله الطعام.
6
الرجال العظام يتصرفون، كأنهم حكماء،
ويتكلمون بأصوات مرتفعة مثل الحمام.
والرجال العظام ينبغي تكريمهم.
لكن لا ينبغي تصديق (ما يصدر عنهم من كلام).
طقوس الأنفاس
1
ذات مرة جاءت امرأة عجوز تسعى من بعيد.
2
لم يكن قد بقي لديها خبز تأكله.
3
الخبز أكله العساكر.
4
هنالك سقطت في البالوعة، وكانت باردة،
5
فلم تعد تحس بشيء من الجوع.
6
عندها صمتت الطيور الصغيرة في الغابة،
على أعالي الشجر.
1
هدوء
فوق كل القمم.
لا تكاد تحس
نفسا واحدا.
7
جاء الطبيب الشرعي يسعى من بعيد.
8
قال: العجوز مصرة على مظهرها.
9
عندها واروا العجوز الجائعة التراب.
10
وبهذا سكتت المرأة العجوز عن الكلام.
11
أما الطبيب وحده فراح يضحك عليها.
12
كذلك صمتت الطيور الصغيرة في الغابة،
على أعالي الشجر.
هدوء
فوق كل القمم.
لا تكاد تحس
نفسا واحدا.
13
وذات يوم جاء رجل وحيد من بعيد.
14
ولم يكن لديه أي إحساس بالنظام.
15
وجد في المسألة شيئا على غير ما يرام.
16
وكان يعد نفسه صديقا مدافعا عن العجوز.
17
قال: ينبغي أن يجد الإنسان ما يأكله. (أليس كذلك يا حضرات؟)
18
عندها صمتت الطيور الصغيرة في الغابة
على أعالي الشجر.
هدوء
فوق كل القمم.
لا تكاد تحس
نفسا واحدا.
19
وذات يوم جاء فجأة مفتش البوليس.
20
وكان يحمل في يده هراوة من المطاط.
21
ضرب بها الرجل على مؤخر رأسه حتى صار كالعجين.
22
وعندها سكت هذا الرجل أيضا عن الكلام.
23
لكن المفتش قال بصوت ردده الفضاء:
24
والآن تصمت الطيور الصغيرة في الغابة
على أعالي الشجر.
هدوء
فوق كل القمم.
لا تكاد تحس
نفسا واحدا
25
ثم جاء ذات يوم ثلاثة رجال من ذوي اللحى من بعيد.
26
قالوا: ليست القضية قضية فرد واحد وحيد.
27
وأخذوا يعيدون هذا القول، حتى صار له ضجيج.
28
لكن ما لبث الدود أن نفذ في لحمهم حتى وصل إلى عظام الساق.
29
وسكت الرجال ذوو اللحى عن الكلام.
30
عندها صمتت الطيور الصغيرة في الغابة
على أعالي الشجر.
هدوء
فوق كل القمم.
لا تكاد تحس
نفسا واحدا.
31
وذات يوم جاء رجال كثيرون من بعيد.
32
أرادوا أن يتكلموا مع العساكر.
33
لكن العساكر تكلموا بالرصاص.
34
هنالك سكت الرجال جميعا عن الكلام.
35
ومع ذلك بقيت على جباههم تجعيدة واحدة.
36
عندها صمتت الطيور الصغيرة في الغابة
على أعالي الشجر.
هدوء
فوق كل القمم.
لا تكاد تحس
نفسا واحدا.
37
ثم جاء ذات يوم دب عظيم أحمر من بعيد.
38
لم يكن يعرف شيئا عن العادات السائدة، ولا كانت به حاجة إلى معرفتها.
39
على أنه لم يكن ابن الأمس، ولا من طبعه أن يهاجم كل حيوان.
40
والتهم الطيور الصغيرة في الغابة.
41
عندها تخلت الطيور الصغيرة عن صمتها
على أعالي الشجر.
ثورة واحتجاج
فوق كل القمم.
تحس الآن
نفسا يضطرب.
حديث صباح إلى الشجرة جرين
1
جرين، لا بد أن أعتذر إليك.
لم أنم الليلة؛ لأن العاصفة كانت عاتية صاخبة الصوت.
وعندما تطلعت إلى الخارج، لاحظت أنك تترنحين مثل قرد سكران،
فأردت أن أصارحك بهذا الكلام.
2
اليوم تسطع الشمس الصفراء في أغصانك العارية .
ما زلت تنفضين عنك الدموع، يا جرين،
لكنك تعرفين الآن قيمتك؛
فقد خضت أمر كفاح في حياتك.
اهتمت الصقور بك.
وأنا أعلم الآن:
إنك لا تقفين صباح اليوم مستقيمة العود،
إلا بفضل مرونتك الصامدة وحدها.
3
نظرا لنجاحك أريد اليوم أن أقول:
حقا لم يكن شيئا يستهان به، أن ترتفعي كل هذا الارتفاع
بين المساكن الشعبية، وأن يبلغ بك الارتفاع
بحيث تتمكن العاصفة من الوصول إليك،
كما فعلت الليلة.
سيد الأسماك
1
آه! لم يكن يجيء في أوقات محددة،
كما يجيء القمر. لكنه كان يذهب كما يذهب.
ولم يكن إعداد طعامه الرخيص
بالأمر الصعب أو المتعب.
2
وعندما كان يحضر، فلليلة واحدة،
يقضيها معهم كواحد منهم.
إنه يطلب القليل، ويجلب معه شيئا لهم.
وهو مجهول من الجميع وقريب من الجميع.
3
إن ذهب، فذلك هو الشيء المعتاد.
وإن حضر، بدت الدهشة (على وجوههم).
ومع ذلك فهو يرجع على الدوام - كما يرجع القمر - معتدل المزاج.
4
يجلس ويتكلم عن شئونهم كما يتكلمون،
عما تفعل النساء حين يسافر الرجال،
عن أسعار الشباك ومكسبهم من الأسماك.
وقبل كل شيء: عن التوفير لدفع الضرائب.
5
أثبت دائما أنه عاجز
عن تذكر أسمائهم.
لكنه كان دائما على استعداد لمساعدتهم،
بعقله ويديه، في أعمالهم.
6
وإذا تحدث معهم عن أحوالهم،
سألوه أيضا: وما أحوالك؟
ثم أخذ ينظر حوله في كل اتجاه ويبتسم،
ويتردد قبل أن يقول: لا أعرف لي أي حال.
7
وهكذا مع الكلام ورد الكلام،
دأب على زيارتهم والتعامل معهم.
وبغير دعوة كان يأتي على الدوام.
لكنه كان يستحق ما يقدمونه من طعام.
8
سوف يسأله أحدهم ذات يوم:
ما الذي يقودك إلينا؟
وسوف يقف بسرعة لأنه سيحس
أن مزاجهم قد انقلب عليه.
9
من لا يملك شيئا يقدمه سوف يخرج من الباب،
في أدب كالعبد الذي أطلق سراحه.
لن يبقى منه حتى الظل الضئيل.
ولن يترك على الكرسي أثرا يدل عليه.
10
بل سيسمح بأن يشغل مكانه
إنسان آخر يثبت أنه أغنى منه.
وهو في الحقيقة لا يمنع أحدا
من أن يتكلم هناك حيث كان يصمت.
عن مودة العالم
1
إلى الأرض المقرورة بالريح الباردة،
جئتم جميعا أطفالا عراة.
كنتم ترتجفون من البرد، ولا شيء تملكون،
عندما لفتكم امرأة في قماط.
2
لم يهتف أحد مرحبا بكم، لم يشتق أحد إليكم،
ولم يحضركم أحد في عربة مطهمة.
هنا على الأرض كنتم مجهولين،
عندما امتدت يد إنسان فأخذتكم من أيديكم.
3
عن الأرض المقرورة بالريح الباردة،
تذهبون جميعا، يغطيكم القشف والقشور.
ويوشك كل إنسان أن يكون قد أحب العالم،
حين يلقي عليه أحد حفنتي تراب.
عن المدن1
تحتها بالوعات
لا شيء فيها،
وفوقها دخان.
كنا نعيش فيها، لم نتمتع بشيء .
فنينا سريعا. وعلى مهل ستفنى هي أيضا.
كورال الشكر العظيم
1
اشكروا
1
الليل والظلام، اللذين يحوطانكم من كل ناحية.
تعالوا زمرا.
تطلعوا إلى السماء؛
ها هو النهار قد غاب عنكم.
2
اشكروا العشب والحيوان، اللذين يعيشان ويموتان بجانبكم.
انظروا، كيف يحيا العشب والحيوان،
كما تحيون.
ولا بد أن يموت معكم!
3
اشكروا الشجرة، التي تنمو من الرمم،
وتشمخ متهللة إلى السماء.
اشكروا الرمم.
اشكروا الشجرة، التي التهمتها.
ولكن اشكروا كذلك السماء.
4
اشكروا من قلوبكم ذاكرة السماء السيئة،
وأنها لا تعرف منكم
أسماءكم ولا وجوهكم.
لا أحد يدري، إن كنتم ما تزالون هناك.
5
اشكروا البرد، والعتمة، والفساد.
مدوا أبصاركم؛
لا شيء مرهون بكم،
ويمكنكم أن تموتوا مطمئنين.
ذكرى ماري أ
1
في ذلك اليوم، في قمر سبتمبر الأزرق،
والسكون يظلنا تحت شجرة برقوق شابة،
أمسكت به في ذراعي، بحبي الساكن الشاحب،
كأنه حلم صاف بريء.
وفوقنا، في سماء الصيف الجميلة،
رأيت سحابة أطلت النظر إليها.
كانت شديدة البياض، عالية إلى أبعد حد.
وحين رفعت بصري إليها، وجدت أنها لم تعد هناك.
2
منذ ذلك اليوم، سبحت أقمار كثيرة كثيرة،
وغاصت أقمار أو عبرت في سكون.
ولعل أشجار البرقوق قد قطعت من زمان.
ولو سألتني الآن: وماذا جرى للحب؟
لقلت إنني لا أذكر شيئا.
ومع ذلك فإني أعرف، أعرف يقينا ما تريد.
أما عن وجهها، فلم أعد أعرف عنه شيئا.
كل ما أعرفه،
أنني قبلته ذات يوم.
3
والقبلة أيضا، كان من الممكن أن أنساها من زمن طويل،
لو لم تكن السحابة قد وجدت هناك؛
فما زلت أذكرها، وسوف أذكرها على الدوام.
كانت شديدة البياض، تسبح نحونا في الأعالي.
ربما كانت تلك المرأة تحمل الآن طفلها السابع.
أما تلك السحابة فقد ازدهرت لحظات.
وحين رفعت بصري إليها،
كانت قد اختفت في الرياح.
حكاية المرأة والجندي
الغدارة تغدر، والرمح يطعن،
والماء يلتهم من يخوضون فيه.
ماذا تملكون ضد الثلج؟
ابقوا بعيدا، ليس من الحكمة ما تفعلون!
هكذا قالت المرأة للجندي. •••
لكن الجندي، والرصاص في حقيبته،
سمع الطبول ثم ضحك قائلا:
الزحف لن يضر بعد اليوم.
فلنهبط إلى الجنوب، فلنصعد إلى الشمال.
والسكين يلتقطها بيديه!
هكذا قال الجندي للمرأة. •••
آه، يندم ندما مرا، من يتجاهل نصح الحكيم،
ولا يلتمس النصيحة ممن يكبره.
آه، لا تذهب بعيدا، ستكون العاقبة وخيمة.
هكذا قالت المرأة للجندي. •••
لكن الجندي، والسكين في حزامه،
ضحك في وجهها ضحكة باردة وعبر المخاضة.
ما الضرر الذي يمكن أن يصيبه من الماء؟
عندما يطلع القمر أبيض الوجه فوق السطوح،
سنعود من جديد، فصلي من أجلنا.
هكذا قال للمرأة الجنود. •••
أنتم تذهبون كالدخان، والدفء يذهب أيضا،
وأعمالكم لا تدفئنا!
آه! ما أسرع ما يتلاشى الدخان! فليحمه الله أيضا!
هكذا قالت المرأة عن الجندي. •••
والجندي بالسكين في حزامه،
سقط مع رمحه، وجذبه معه التيار.
والماء التهم الذين يخوضون فيه،
والقمر وقف فوق السطح، رطبا أبيض.
لكن الجندي انحدر مع الثلج.
وماذا قال للمرأة الجنود؟ •••
ذهب كالدخان، والدفء ذهب أيضا.
وما استطاعت أعماله أن تدفئها.
آه! يندم ندما مرا، من يتجاهل نصح الحكيم!
هكذا قالت المرأة للجنود.
من أغاني ماهاجوني
عن أوبرا ازدهار وسقوط مدينة ماهاجوني
الأغنية الأولى
1
هيا إلى ماهاجوني.
الهواء رطب ومنعش.
هناك لحم خيول ولحم نساء.
ويسكي ومائدة قمار.
يا أيها القمر الجميل الأخضر في ماهاجوني، أنر لنا الطريق!
فعندنا اليوم هنا
تحت القميص أوراق بنكنوت،
لضحكة كبيرة من فمك الغبي الكبير.
2
هيا إلى ماهاجوني
الريح الشرقية تهب أنفاسها بالفعل.
هناك تجدون سلطة لحم طازجة.
ولا تعليمات هناك ولا توجيهات.
يا أيها القمر الجميل الأخضر في ماهاجوني، أنر لنا الطريق.
فعندنا اليوم هنا
تحت القميص أوراق بنكنوت،
لضحكة كبيرة من فمك الغبي الكبير.
3
هيا إلى ماهاجوني
السفينة ستفك حبالها،
والسي - سي - سي - سيفيليس
سنشفى منه هناك.
يا أيها القمر الجميل الأخضر في ماهاجوني، أنر لنا الطريق.
فعندنا اليوم هنا،
تحت القميص،
أوراق بنكنوت،
لضحكة كبيرة من فمك الغبي الكبير.
الأغنية الثالثة
1
صباح يوم كئيب،
ونحن نشرب الويسكي،
جاء إله إلى ماهاجوني.
جاء إله إلى ماهاجوني.
ونحن نشرب الويسكي
لاحظناه في ماهاجوني.
2
أتعبون كالإسفنج
حنطتي الطيبة عاما بعد عام؟
ما من أحد منكم كان ينتظر مجيئي.
فإذا جئت اليوم، هل صار كل شيء على ما يرام؟
تطلعوا إلى بعضهم. رجال ماهاجوني
قالوا نعم، رجال ماهاجوني.
صباح يوم كئيب،
ونحن نشرب الويسكي،
جاء إله إلى ماهاجوني.
جاء إله إلى ماهاجوني.
ونحن نشرب الويسكي
لاحظناه في ماهاجوني.
3
أكنتم تضحكون، مساء الجمعة؟
ماري فيمان رأيتها من بعيد بعيد،
كسمكة فاسدة تسبح ساكنة في بحيرة مالحة.
لن تجف بعد اليوم، يا سادتي.
تتطلعوا إلى بعضهم رجال ماهاجوني.
قالوا نعم، رجال ماهاجوني.
صباح يوم كئيب،
ونحن نشرب الويسكي،
جاء إله إلى ماهاجوني.
جاء إله إلى ماهاجوني.
ونحن نشرب الويسكي
لاحظناه في ماهوجوني.
4
اذهبوا جميعا إلى الجحيم.
ضعوا الآن علب الفرجينيا في الجراب!
هيا أمامي إلى جهنمي، أيها الملاعين!
إلى جهنم السوداء.
تطلعوا إلى بعضهم، رجال ماهاجوني.
قالوا لا، رجال ماهاجوني.
صباح يوم كئيب،
ونحن نشرب الويسكي،
تجيء أنت إلى ماهاجوني.
تجيء أنت إلى ماهاجوني.
ونحن نشرب الويسكي،
تبدأ ثانية في ماهاجوني!
لا يحرك أحد قدمه الآن!
فليضرب عن العمل كل إنسان!
من شعرنا لن تستطيع
أن تشدنا إلى الجحيم؛
لأننا كنا دائما في الجحيم.
تطلعوا للإله، رجال ماهاجوني.
قالوا لا، رجال ماهاجوني.
أغنية بينارس1
1
لا ويسكي في هذه المدينة.
لا بار نجلس فيه.
أوه!
أين التليفون؟
أليس هنا تليفون؟
أوه! سيدي، ليلعنها الله.
لا!
فلنذهب إلى بينارس،
حيث البارات كثيرة.
فلنذهب إلى بينارس!
جيني، هيا بنا.
2
لا مال في هذه المدينة.
الاقتصاد كله قد انهار.
أوه!
أين التليفون؟
أليس هنا تليفون؟
أوه! سيدي ليلعنها الله.
لا!
فلنذهب إلى بينارس؛
حيث المال كثير.
فلنذهب إلى بينارس!
جيني، هيا بنا.
3
لا بهجة على هذا الكوكب العجوز.
لا باب موارب من أجلنا.
أوه!
أين التليفون؟
أليس هنا تليفون؟
أوه! سيدي، ليلعنها الله.
لا!
4
أسوأ الأنباء ما يقال:
إن بينارس أفناها الزلزال!
أوه! بينارس الطيبة الحبيبة!
أوه! إلى أين سنذهب؟!
أسوأ الأنباء ما يقال:
إن بينارس قد عوقبت بزلزال !
أوه! بينارس الطيبة الحبيبة!
أوه! إلى أين سنذهب؟!
كورال بال العظيم
1
في حجر الأم الأبيض عندما شب بال
1
كانت السماء كالعهد بها، رائعة وساكنة وشاحبة.
شابة كانت السماء، عارية وعجيبة إلى حد مهول،
وذلك كما أحبها بال، عندما جاء (إلى هذا العالم) بال.
2
والسماء بقيت على حالها هناك، في الأفراح وفي الأحزان،
حتى عندما كان بال ينام ناعم البال ولا يراها لأنه مغمض الأجفان.
ففي الليل تكون السماء بنفسجية، بينما يكون بال منتشيا وسكران،
وفي الصباح يكون بال تقيا وصالحا، بينما تكون هي كالمشمش يكسوها الشحوب.
3
وفي الخمارة، والكنيسة، والمستشفى
يتعثر بال متزنا معتدل المزاج، ويعود نفسه على كل الأحوال.
ليكن بال متعبا، يا صغار، فلن يسقط أبدا بال.
حتى إلى الحضيض يأخذ سماءه معه. بال.
4
وسط زحام الآثمين الذي يثير الخجل والحياء،
رقد بال عاريا وراح يتقلب بكل هدوء؛
فالسماء وحدها، لكنها السماء على الدوام،
هي التي دثرت عريه بقوة وسحبت عليه الغطاء.
5
والدنيا، هذه الأنثى العظيمة التي تستسلم ضاحكة
لكل من يرضى بأن تسحقه تحت ركبتيها.
جادت عليه أحيانا بنشوة الجذب التي يحبها،
لكن بال لم يمت: بل راح يتطلع إلى الأمام.
6
وعندما كان بال لا يرى حوله غير جثث الأموات،
كانت شهوته العارمة تتضاعف على الدوام.
لم يزل لي مكان، هكذا يقول بال، فليس عددها كبيرا.
لم يزل لي مكان، كما يقول بال، في حجر هذه الأنثى .
7
إذا أعطتكم امرأة كل شيء، على حد قول بال،
فدعوها تذهب؛ فليس عندها شيء آخر تعطيه.
لا تخافوا من وجود رجال معها، فذلك أمر غير ذي بال.
أما الأطفال فيخاف منهم حتى بال.
8
كل الرذائل لا تخلو من خير.
وكذلك الرجل الذي يقدم عليها، كما يقول بال.
والرذائل شيء لا يستهان به، لو عرف الإنسان ما يريد.
فاختاروا منها اثنين؛ لأن (الرذيلة) الواحدة فوق ما تطيقون!
9
لا تكونوا كسالى، وإلا فلا متعة هناك.
إن ما يريده الإنسان، كما يقول بال، هو بعينه ما ينبغي عليه.
وحين تفرزون الوسخ انتبهوا لما يقوله بال؛
فهو خير من ألا تفعلوا شيئا على الإطلاق!
10
المهم ألا تكونوا بهذا الخمول، بهذه الميوعة؛
فليس الاستمتاع، وحق الله، بالأمر الهين!
يحتاج الإنسان لأعضاء قوية، كما يحتاج إلى الخبرة.
وربما نغص عليه (عيشته) كرش سمين.
11
بال يتطلع بعينه للصقور السمان
التي تنتظر في السماء المزدهية بالنجوم جثة بال.
أحيانا يتصنع بال الموت، فإذا انقض عليه أحد الصقور
أكله بال، في صمت، في وجبة العشاء.
12
تحت النجوم الكئيبة في وادي الآلام
يقطع بال الحقول الفسيحة متلمظا بما يجده فيها،
فإن وجدها خالية، مضى يغني وهو يركض مترنح الخطوات،
منحدرا إلى الغابة الأبدية لينام.
13
وإذا الحجر المعتم جذب إليه بال،
فما قيمة العالم بالنسبة لبال؟ إن بال شبعان.
كثيرة هي السماوات التي يحملها تحت جفنيه بال.
بحيث لو مات فعنده من السماوات ما يكفيه.
14
عندما تعفن في حجر الأرض المعتم بال،
كانت السماء ما تزال رائعة وساكنة وشاحبة،
شابة وعارية وعجيبة إلى حد مهول.
كما أحبها ذات يوم بال، عندما كان بال حيا لا يزال.
الفتاة الغريقة1
1
لما غرقت وراح يسبح جسدها
من الجداول إلى الأنهار الكبيرة،
بدت قبة السماء عجيبة مثيرة
كأنما تحتم عليها أن تواسي جثتها.
2
تشبثت بها الطحالب والأعشاب المائية،
فزادت ثقلها شيئا فشيئا.
الأسماك الباردة سبحت حول ركبتها،
والنباتات والحيوانات أبطأت رحلتها الأخيرة.
3
وفي المساء كانت السماء مظلمة كالدخان.
وفي الليل اكتست النجوم والأضواء بالغيوم.
لكن عندما طلع النهار أشرقت صفحتها
حتى يكون (للغريقة) أيضا صباح ومساء.
4
عندما فسد جثمانها الشاحب في الماء،
حدث (ولكن ببطء شديد) أن نسيها الله.
نسي وجهها أولا، ثم يديها، وأخيرا شعرها.
عندئذ أصبحت رمة في النهر
بين رمم كثيرة.
خرافة الجندي الميت
1
ولما دخلت الحرب في ربيعها الرابع،
ولم تبشر بالسلام،
اتخذ الجندي موقفه القاطع،
ومات ميتة الأبطال.
2
لكن الحرب لم تكن قد انتهت؛
لهذا شعر القيصر بالحزن؛
لأن جنديه قد مات؛
إذ بدا له ذلك قبل الأوان.
3
الصيف زحف فوق القبور،
والجندي راح في نومه.
وذات ليلة أقبلت
بعثة عسكرية طبية.
4
مضت البعثة الطبية
إلى حقل الله البعيد.
وبالمعول المبارك نبشت
جثمان الجندي الصريع.
5
الدكتور فحص الجندي بدقة
أو على الأصح ما بقي منه،
والدكتور وجد أن الجندي لائق للخدمة،
وخاف على نفسه من المسئولية.
6
وأخذوا الجندي معهم على الفور،
وكان الليل أزرق وجميلا.
ومن لم يضع الخوذة على رأسه
استطاع أن يرى نجوم الوطن.
7
دلقوا جرعة نارية
من الكونياك في جسده العفن،
وعلقوا ممرضتين في ذراعه
وامرأة نصف عارية.
8
ولأن الجندي تنبعث منه الروائح العفنة،
فقد سار في المقدمة قسيس
يهز فوقه مبخرة؛
لكي لا تنشر رائحته الكريهة.
9
في المقدمة ترن الموسيقى تشندرارا.
تعزف مارشا مرحا ولطيفا،
والجندي، كما تعلم أثناء حياته،
يقذف ركبتيه بعيدا عن مؤخرته.
10
وحوله يلف ذراعيهما
ممرضان صحيان؛
حتى لا يسقط منهما في الوحل،
وهو شيء لا يصح أن يكون.
11
لونوا كفنه
بالأسود - والأبيض - والأحمر،
وأخذوا يلوحون به أمامه
ولم تعد العين، من زحمة الألوان،
تستطيع أن ترى برازه.
12
وسار في المقدمة، مشدود الصدر،
رجل في سترة رسمية سوداء.
كان كرجل ألماني
يدرك واجبه تمام الإدراك.
13
هكذا أخذوا على أنغام التشندرارا
يهبطون الطريق المعتم.
والجندي يترنح معهم
كنتفة الثلج في العاصفة.
14
القطط والكلاب تصرخ.
والجرذان في الحقل تصفر؛
حتى لا يظن أنهم فرنسيون؛
لأن هذا عار عليهم.
15
وعندما مروا بالقرى،
كانت النساء كلهن هناك.
الأشجار تحني رءوسها،
والبدر طالع والكل يصيح: «هورا.»
16
بالتشندرارا وإلى اللقاء .
والنساء والكلاب والقسس.
والجندي الميت في الوسط
كأنه قرد يتطوح من السكر.
17
وعندما مروا بالقرى،
لم يستطع أحد أن يراه.
كثيرون كانوا ملتفين حوله
وهم يصيحون تشندرارا وهورا.
18
كثيرون رقصوا وهللوا له،
فما استطاع أحد أن يراه.
كان من الممكن أن يرى من أعلى فحسب،
ولم يكن فوقه غير النجوم.
19
لكن النجوم لا تلبث أن تغيب،
ويأتي الغسق بحمرة الفجر.
لكن الجندي، كما دربوه،
يتقدم ليموت ميتة الأبطال.
«ب. ب» برتولت برشت المسكين
1
أنا، برتولت برشت. ولدت في الغابات السوداء.
حملتني أمي إلى المدن،
وأنا بعد جنين في أحشائها .
وسوف تلازمني برودة الغابات
إلى يوم أموت.
2
في مدينة الأسفلت أحس أنني في بيتي.
من نشأتي الأولى وأنا مزود بكل ما يلزم الموتى:
بالصحف، والتبغ، والكونياك.
مرتاب. وكسول، وقانع بعد كل شيء.
3
وأنا ودود مع الناس.
أضع على رأسي قبعة خشنة كما يفعلون.
أقول: هم حيوانات ذات رائحة خاصة.
وأقول: لا بأس، فأنا واحد منهم.
4
وفي الضحى أدعو أحيانا ثلة من النساء
للجلوس أمامي على كراسي الهزازة الخالية.
أتأملهن في غير اكتراث وأقول لهن:
لا جدوى من الاعتماد علي.
5
وفي المساء أجمع حولي بعض الرجال،
ويخاطب بعضنا بعضا: «يا جنتلمان.»
يضعون أقدامهم على موائدي
ويقولون: سوف تتحسن أحوالنا.
لكنني لا أسأل: متى؟
6
وفي غبش الفجر تبول أشجار الصنوبر،
وتشرع حشراتها التي تزدحم عليها - أي الطيور - في الصياح.
في تلك الساعة أجرع كأسي في المدينة،
وأقذف تفل التبغ بعيدا،
وآوي إلى فراشي غير مرتاح.
7
عشنا، ونحن جنس طائش، في بيوت
كان يظن أن يد الخراب لن تمتد إليها (هكذا بنينا العلب المتراصة في جزيرة مانهاتن،
ومددنا أسلاك الهواء الدقيقة عبر الأطلنطي).
8
سيبقى من هذه المدن ما يجوس خلالها:
الريح
البيت يسعد الآكلين؛ لأنهم يفرغونه مما فيه.
نحن نعرف أننا عابرون،
وأن ما سيأتي بعدنا
لا يستحق الذكر.
10
في الزلازل القادمة، وهذا هو ما أرجوه،
لن أترك سيجاري الفرجينيا ينطفئ
لمجرد أنني أحس بالمرارة.
أنا برتولت برشت الذي ألقي به في مدن الأسفلت ،
وحملته إليها أمه من الغابات السوداء،
من زمن بعيد.
قصائد من 1926-1933م عن كتاب مطالعة لسكان
المدن
أخف الآثار1
1
ابتعد عن زملائك في محطة السكة الحديد.
اذهب في الصباح إلى المدينة بسترة مزررة.
ابحث عن مأوى، وإذا دق زميلك بابك
لا تفتح، آه لا تفتح الباب،
بل أخف الآثار!
إذا قابلت أبويك في مدينة هامبورج أو في أي مكان آخر،
فمر بهما كأنك غريب عنهما. انعطف عن ناصية الطريق.
لا تتعرف عليهما.
اسحب قبعتك، التي أهدياها إليك، على وجهك
لا تبد. آه! لا تبد وجهك،
بل أخف الآثار!
كل اللحم الذي تراه هناك، لا تدخر.
ادخل أي بيت عندما تمطر السماء،
واجلس على أي كرسي تجده أمامك.
لكن لا تبق جالسا! ولا تنس قبعتك!
أقول لك:
أخف الآثار!
أيا كان ما تقول، لا تقله مرتين.
إن وجدت فكرتك لدى شخص آخر
فأنكرها.
من لم يوقع باسمه، من لم يترك صورة وراءه،
من لم يكن حاضرا، من لم يقل شيئا،
كيف يمكن الإمساك به؟!
أخف الآثار.
احرص، عندما تنوي أن تموت،
على ألا يكون لك قبر
عليه كتابة واضحة
تشي بمرقدك
وتفضح السنة التي مت فيها!
مرة أخرى:
أخف الآثار! (هذا هو الذي علموني إياه.)
2
عن العجلة الخامسة
نحن إلى جانبك في الساعة التي تدرك فيها
أنك أنت العجلة الخامسة،
وأن أملك يضيع منك.
أما نحن
فلا ندرك ذلك بعد.
نحن نلاحظ
أنك تتعجل الحديث.
تبحث عن كلمة
تمكنك من الانصراف؛
إذ يهمك كثيرا
ألا تلفت الأنظار.
أنت تنهض قبل أن تكمل عبارتك.
تقول غاضبا: إنك تريد أن تنصرف.
ونقول نحن. «ابق!»
وندرك أنك أنت العجلة الخامسة.
أما أنت فتجلس
وهكذا تظل جالسا عندنا،
في الساعة التي ندرك فيها
أنك أنت العجلة الخامسة.
أما أنت
فلم تعد تدرك ذلك.
دعنا نقولها لك:
أنت العجلة الخامسة.
لا تظن أنني أنا الذي أقولها لك،
وغد
لا تمد يدك إلى بلطة
بل مدها إلى كوب ماء.
أعرف أنك لم تعد تسمع،
لكن
لا تقل بصوت عال أن العالم سيئ.
قلها بصوت منخفض؛
لأن الأربعة ليست زائدة عن الحد
بل هي العجلة الخامسة،
وليس العالم سيئا
بل هو ملآن. (وهذا ما سمعتهم يقولونه من قبل.)
3
إلى خرونوس
2
نحن لا نريد أن نخرج من بيتك.
نحن لا نريد أن نحطم الموقد.
نحن نريد أن نضع الوعاء على الموقد.
البيت، والموقد، والوعاء يمكن أن تبقى،
وعليك أنت أن تختفي كما يختفي الدخان في السماء.
الدخان الذي لا يستبقيه أحد.
إذا أردت أن تلازمنا، فسوف ننصرف.
إذا بكت امرأتك، فسوف نسحب قبعاتنا على وجوهنا،
لكن إذا أمسكوا بك،
فسوف نشير إليك وسوف نقول:
لا بد أنه هو.
نحن لا نعرف ما الذي سيأتي، وليس لدينا شيء أفضل،
لكننا لا نريدك بعد اليوم
حتى تنصرف وتذهب عنا.
دعنا نرخي الستائر على النوافذ؛
حتى لا يطلع صباح الغد.
من حق المدن أن تتغير،
لكن ليس من حقك أن تغير نفسك.
نريد أن نكلم الأحجار.
أما أنت فنريد أن نقتلك.
لا ينبغي أن تعيش
مهما تكن الأكاذيب التي يتحتم علينا أن نصدقها.
لا ينبغي أن يقال إنك كنت حيا (في الماضي). (هكذا نتحدث مع آبائنا.)
4
أعرف ماذا أحتاج إليه
أعرف ماذا أحتاج إليه.
يكفي أن أنظر في المرآة
لأرى أن علي
أن أكثر من نومي.
الرجل الذي عندي
يضرني ويؤذيني.
عندما أسمعني أغني
أقول أنا اليوم مرحة.
هذا شيء مفيد
للون البشرة.
أنا أبذل جهدي
لأبقى منتعشة وصلبة،
لكني لن أتعب نفسي؛
لأن هذا يسبب التجاعيد.
ليس عندي ما أهديه،
لكن مؤنتي تكفيني
أنا آكل بحذر،
أحيا على مهل،
أومن بأوساط الأمور. (هكذا رأيت أناسا يرهقون أنفسهم.)
5
أنا قذرة، لا أملك أن أطلب من نفسي ...
أنا قذرة.
لا أملك أن أطلب من نفسي
إلا الضعف، والخيانة والفساد،
لكني ألاحظ ذات يوم
أن الأحوال تتحسن،
أن الريح تنفخ شراعي، أن زمني قد حان،
أنني أستطيع أن أكون شيئا أفضل من القذارة.
من ثم بدأت على الفور؛
لأنني كنت قذرة
لاحظت عندما أسكر،
أنني ألقي بنفسي على الفراش،
ولا أدري من هو الذي فوقي.
أنا الآن لا أذوق الخمر.
لقد أقلعت عنها على الفور.
للأسف كان يتحتم علي،
لمجرد أن أبقي على حياتي
أن أعمل أشياء كثيرة
آذتني وأضرت بي.
التهمت سما
كان يكفي لإهلاك أربعة بغال،
لكن لم تكن هناك وسيلة أخرى
لأحافظ على حياتي،
وأدمنت الكوكايين فترة من الزمن؛
حتى بدا منظري
كملاءة السرير بغير عظام.
ثم نظرت إلى نفسي في المرأة
فتوقفت على الفور.
حاولوا بطبيعة الحال
أن يعدوني بالزهري
لكنهم لم يفلحوا،
استطاعوا فحسب
أن يسمموني بالزرنيخ.
شعرت أن في جنبي أنابيب
يسيل منها الصديد ليل نهار.
من كان يظن
أن امرأة مثلي
تستطيع أن تخبل (عقول) الرجال مرة أخرى؟
وعدت على الفور فبدأت من جديد
ما زلت ألاحظ أنني أقول لعدوتي
إنها خنزيرة عجوز، وأنني أعرف أنها عدوي
كلما نظر إليها رجل.
لكن لن يمر عام
حتى أكون قد تخلصت من هذه العادة.
وقد شرعت في هذا بالفعل
أنا قذرة.
لكن يجب أن يسخر كل شيء لصالحي.
أسهمي في صعود،
لا غنى عني،
وغدا لن يكون الجنس
قذرا كما هو الحال الآن،
بل سيكون المونة الصلبة
التي تبنى بها المدن. (هذا ما سمعته من امرأة.)
6
تدحرج على الطريق
تدحرج على الطريق، قبعته في قفاه.
ثبت عينيه في كل رجل قابله وهز رأسه.
توقف طويلا أمام كل واجهة في محل (والجميع يعلمون، أنه قد ضاع!)
كان عليهم أن يسمعوه وهو يقول:
إنه سيقول لعدوه كلمة جادة،
وأن لهجة صاحب البيت الذي يسكنه لا تعجبه،
وأن الشارع قد أسيئ كنسه (أصدقاؤه قد أسلموه بالفعل!)
مع ذلك فهو يريد أن يبني له بيتا.
مع ذلك فهو يريد أن يضاجع جميع النساء.
مع ذلك فهو يريد ألا يتسرع في الحكم. (آه، لقد ضاع بالفعل، فليس هناك شيء
يسند عليه ظهره!) (هذا ما سمعته من أفواه بعض الناس.)
7
تخلوا عن أحلامكم ...
تخلوا عن أحلامكم (التي تزين لكم)
أنهم سيعاملونكم معاملة استثنائية.
كل ما قالته لكم أمهاتكم
كان شيئا لا يؤخذ على محمل الجد.
اتركوا العقد في جيوبكم؛
فلن يلتزم به أحد هنا.
تخلوا عن آمالكم
بأن الاختيار سيقع عليكم لتكونوا رؤساء،
لكن أدوا أعمالكم كما ينبغي.
وعليكم أن تحتشموا في سلوككم
حتى يسمحوا لكم بدخول المطبخ.
ما زال عليكم أن تتعلموا الألف باء.
والألف باء تقول:
سوف يتخلصون منكم
وفروا على أنفسكم التفكير
فيما ينبغي عليكم أن تقولوه.
لن يسألكم أحد.
الآكلون مكتملو العدد،
واللحم المستخدم هنا هو اللحم المفروم، (لكن هذا لا يصح
أن يثبط هممكم!)
أربع طلبات إلى رجل من جوانب مختلفة في أوقات مختلفة
هنا بيت يؤويك.
هنا مكان لأشيائك.
غير من وضع الأثاث كما يحلو لك.
قل، ماذا تحتاج.
ها هو المفتاح.
ابق هنا.
هنا غرفة تسعنا جميعا،
ولك حجرة بسرير.
يمكن أن تعمل معنا في الحوش.
لك طبقك الخاص بك.
ابق معنا.
هنا مكان نومك.
السرير ما زال طريا.
لم ينم فيه قبلك
سوى رجل واحد.
حين تحس أنك متوعك المزاج،
فاغمس ملعقتك النحاسية في تلك القصعة،
تعد كأنها جديدة.
ابق معنا ولا تفكر في شيء.
هذه هي الحجرة.
انصرف، أو ابق ليلة أخرى،
لكن هذا يزيد الأجرة.
سوف لا أزعجك.
وعلى فكرة:
أنا لست مريضة.
ستجد هنا الرعاية التي تجدها في أي مكان آخر؛
تستطيع إذن أن تبقى.
إذا كنت أتكلم معك،
في برود وبوجه عام،
بأشد الكلمات جفافا
بغير أن أنظر إليك، (الظاهر أنني لا أكاد أعرفك
في مزاجك الغريب وطبعك الجاف)
فإنما أفعل هذا
طبقا للواقع نفسه (الواقع البحت، الذي يؤثر عليه مزاجك الغريب
والذي سئم طبعك الجاف)
الذي يبدو أنك لا تعرفه عني.
كثيرا ما أرى في المنام ...
كثيرا ما أرى في المنام
أنني سأعجز عن أكل عيشي.
الموائد التي أصنعها،
لا يحتاج إليها أحد في هذا البلد.
تجار السمك
يتكلمون الصينية.
أقربائي الأقربون
يتطلعون في وجهي باستغراب.
المرأة التي نمت معها سبع سنين
تحييني بأدب في فناء البيت
وتمر باسمة.
أعلم
أن الحجرة الأخيرة الآن خالية،
وأن قطع الأثاث قد نقلت،
والمرتبة بليت،
والستارة رفعت.
وباختصار،
كل شيء معد الآن
ليكسو وجهي الحزين بالشحوب.
الغسيل المعلق في فناء البيت لكي يجف،
هو غسيلي.
أنا أعرفه جيدا.
إن دققت النظر فيه عن قرب
لاحظت خياطة فيه
وقطعا مرقعة.
يبدو أنني انتقلت إلى مكان آخر.
شخص آخر
يسكن الآن هنا،
بل يسكن في غسيلي.
لفت نظر للمسئولين
في اليوم الذي دفن فيه الجندي المجهول
بين طلقات المدافع،
توقف العمل كله
من لندن إلى سنغافورة
في نفس الوقت عند الظهيرة
دقيقتين كاملتين؛
من الساعة الثانية عشرة ودقيقتين
إلى الساعة الثانية عشرة وأربع دقائق،
تكريما للجندي الصريع المجهول.
لكن على الرغم من هذا كله
فقد يكون من الواجب على الرؤساء
أن يأمروا أخيرا
بتكريم العامل المجهول
الذي يعيش في المدن الكبيرة
بالقارات المزدحمة بالسكان.
واحد من الناس
يعمل في شبكة المواصلات،
لم يتبين أحد ملامح وجهه،
لم يلتفت أحد إلى سر كيانه،
لم يسمع أحد اسمه بوضوح.
مثل هذا الإنسان
ينبغي لصالحنا جميعا
أن نفكر في تكريمه بما يليق؛
بخطاب يذاع في الراديو «إلى العامل المجهول»
بأن يتوقف جميع الناس
على ظهر هذا الكوكب
عن العمل.
غناء الآلات
1
هالو، نريد أن نتكلم مع أمريكا
عبر البحر الأطلنطي مع المدن العظيمة
في أمريكا، هالو!
سألنا أنفسنا، بأي لغة
يجب أن نتكلم،
حتى يفهمنا الناس،
ولكن مغنينا حاضرون معنا الآن؛
مغنينا الذين يفهمهم الناس هنا وفي أمريكا
وفي كل مكان في العالم.
هالو، اسمعوا ما يغنيه مغنونا، نجومنا السود.
هالو، انتبهوا، لمن يغني لنا ...
2
الآلات تغني
هالو، هؤلاء هم مغنونا، نجومنا السود.
غناؤهم ليس جميلا، ولكنهم يغنون أثناء العمل،
بينما يصنعون النور من أجلكم، يغنون
بينما يصنعون من أجلكم الملابس، والصحف، وأنابيب مياه
وسككا جديدة، ومصابيح ومواقد وأسطوانات.
يغنون
هالو، غنوا مرة أخرى، لأنكم الآن حاضرون،
أغنيتكم الصغيرة عبر البحر الأطلنطي
بصوتكم الذي يفهمه الجميع.
3
الآلات تعيد أغنيتها
ليست هذه يا ولدي هي الريح السارية في أوراق الجميز.
ليست هذه أغنية للنجم الوحيد.
إنه العواء المتوحش لعملنا اليومي.
نحن نلعنه ونحبه
لأنه هو صوت مدائننا.
إنها الأغنية التي تعجبنا.
إنها اللغة التي نفهمها جميعا،
وقريبا ستصبح هي اللغة الأم
للعالم كله.
نقش على شاهد لم يوضع
بعد على قبر صاحبه
أيها المتجول العابر
1
عندما تمر من هنا،
فعليك أن تعلم
أنني كنت سعيدا؛
مشروعاتي كانت مثمرة،
أصدقائي أوفياء،
آرائي صائبة.
وكل ما عملت كان عن تأن وتدبر.
وأخيرا فإنني لم أتراجع أبدا عن كلامي
بسبب مسألة تافهة،
ولم أغير حكمي على الإطلاق.
لما كنت لم أمت بعد،
فأنا لا أملك إلا أن أقول:
حياتي كانت صعبة،
لكني لا أشكو،
وكذلك، عندي ما يثبت
أن حياتي كانت مجزية.
لا تحمل هما من أجلي
فأنا نفسي أحتقر التعساء،
لكنني عندما كتبت هذا الذي تقرؤه هنا،
لم يكن قد بقي ثمة شيء
يمكن أن ينال مني.
من لا يعرف كيف يقدم العون ...
كيف يكون الصوت الآتي من البيت
هو صوت العدالة،
بينما يرقد الذين بلا مأوى في الفناء؟
كيف لا يكون دجالا من يعلم الجائعين
شيئا آخر غير تعليمهم كيف يتخلصون من الجوع؟
من لا يقدم الخبز للجائعين
يقر العنف والبطش.
من ليس في قاربه مكان للغارقين،
فلا مكان في قلبه للشفقة.
من لا يعرف كيف يقدم العون
فعليه أن يسكت.
عندما طوردت إلى المنفى ...
عندما طوردت إلى المنفى،
كتبت صحف النقاش
1
أن القرار اتخذ لأني أهنت في إحدى قصائدي
الجندي (الذي سقط صريعا) في الحرب العالمية الأولى.
والحقيقة هي أنني في العام الذي سبق نهاية تلك الحرب،
وعندما كان النظام السابق يحاول تأجيل هزيمته،
بإعادة الذين شوهتهم الحرب
مرة أخرى إلى الميدان
ليحاربوا جنبا إلى جنب مع العجائز والشباب في سن السابعة عشرة،
قد وصفت كيف نبشت جثة الجندي الصريع
وأعيد إلى الخدمة في الميدان
وسط تهليل كل الذين خدعوا الشعب
وامتصوا دمه واضطهدوه.
والآن، وهم يعدون العدة لإشعال حرب عالمية جديدة،
مصممين على ارتكاب جرائم تفوق (في بشاعتها)
جرائم الحرب الأخيرة،
فهم من حين لآخر يغتالون أناسا مثلي
أو يطردونهم على زعم أنهم خونة
لمؤامراتهم.
الذين لا يزال عندهم أمل ...
ماذا تنتظرون؟
أن يستمع الصم إليكم؟
أن يمد الذين لا يشبعون
أيديهم ليعطوكم شيئا؟
أن تدعوكم النمور - من فرط مودتها ولطفها -
لانتزاع أنيابها؟
هل هذا هو ما تنتظرون؟
نقش على قبر (1919م)
حتى الزهرة الحمراء اختفت أيضا.
لا أحد يعرف مكانها الآن؛
لأنهم قالوا الحقيقة للفقراء.
طردهم من العالم الأغنياء.
من أغاني المهد
الأغنية الثانية
عندما حملتك في أحشائي
لم يكن حالنا بخير على الإطلاق.
ولقد طالما قلت لنفسي :
هذا الذي أحمله يأتي إلى عالم رديء.
وعزمت على أن أجعل همي
ألا يضل فيه أو يتوه ويضيع.
الذي أحمله يجب أن يبذل ما في وسعه
كي يصبح العالم أخيرا أفضل مما هو عليه.
وتطلعت أمامي ورأيت جبالا من الفحم
يطوقها سور (حديدي). قلت لنفسي: لا داعي للغم!
فالذي أحمله في أحشائي سوف يهتم
بأن يدفئه (في المستقبل) هذا الفحم.
ورأيت الخبز خلف «زجاج» النوافذ،
وكان محرما على الجائعين.
قلت لنفسي: من أحمله في أحشائي
سوف يهتم بأن يغذيه هذا الخبز.
ثم أخذوا إياه إلى الحرب
ولم يرجع منها إلى بيته.
قلت لنفسي: من أحمله سوف يهتم
بألا يحدث له ما حدث لأبيه.
عندما حملتك يا ولدي في أحشائي
كنت كثيرا ما أقول لنفسي في همس:
أنت يا من أحمله في أحشائي،
يجب أن تصمم على ألا يوقفك شيء.
عن مسرحيتي الأم والقرار (1930-1931م)
امتداح التعلم
1
تعلم أبسط الأشياء.
فلم يفت الأوان أبدا
لمن حانت ساعتهم.
تعلم الألف باء،
إنها لا تكفي،
ولكن تعلمها!
لا تضق بها ذرعا!
ابدأ الآن!
يجب عليك أن تعرف كل شيء!
يجب عليك أن تتولى القيادة.
تعلم، يا من تعيش في الملجأ!
تعلم، يا من تعيش في السجن!
تعلمي يا من تعملين في المطبخ!
تعلمي يا من بلغت الستين!
إن عليك أن تتولي القيادة.
فتش عن المدرسة، يا من تسكن في العراء!
ابحث عن المعرفة، يا من ترتعش من البرد !
وأنت أيها الجائع، تشبث بالكتاب، فإنه سلاح!
يجب عليك أن تتولى القيادة.
لا تخجل من السؤال، أيها الصديق!
لا تقنع بما يقوله غيرك.
افحص الأمر بنفسك!
إن ما لا تعرفه بنفسك
فأنت تجهله.
افحص قائمة الحساب
فعليك أن تدفع قيمتها.
ضع إصبعك على كل رقم.
اسأل: من أين جاء هذا؟
يجب عليك أن تتولى القيادة!
امتداح الثائر
حين يزداد الاضطهاد
تخون الكثيرين شجاعتهم،
لكن شجاعته تزداد.
إنه ينظم كفاحه
من أجل القرش الذي يناله أجرا على عمله،
من أجل الشاي
ومن أجل السلطة في الدولة .
إنه يسأل الملكية:
من أين أتيت؟
ويسأل الأفكار:
من الذي يستفيد منك؟
حيث يسود الصمت دائما
تراه يتكلم.
وحيث يعم الظلم والاضطهاد
ويتحدث الناس عن القدر والنصيب
تجده يسمي الناس كما يسمي الأشياء بأسمائها.
حيث يجلس إلى المائدة
يجلس السخط معه.
الطعام يجده سيئا،
والحجرة ضيقة.
إلى حيث يطردونه
تذهب الثورة،
والبلد الذي يغادره
لا يتركه الاضطراب.
امتداح الجدل
2
الظلم يتبختر اليوم بخطوات واثقة.
الظلمة يعدون أنفسهم للبقاء عشرة آلاف عام.
البطش يؤكد: سيبقى الحال على ما هو عليه؛
لا صوت يسمع غير صوت الحكام.
وفي الأسواق يقول الاستغلال بصوت عال:
سأبدأ عملي الآن.
لكن من بين المظلومين المضطهدين تتردد أصوات كثيرة:
لن يتحقق أبدا شيء مما نبغيه.
من لا يزال حيا ينبغي عليه ألا يقول: مستحيل!
فالشيء المؤكد ليس أكيدا،
والحال السائد لن يبقى على ما هو عليه.
عندما ينتهي الحاكمون من كلامهم
سوف يتكلم المحكومون.
من يجرؤ أن يقول: مستحيل أبدا؟
من المسئول عن بقاء الاضطهاد؟ نحن.
ومن المسئول عن تحطيمه؟ نحن كذلك.
من ضرب وسقط على الأرض، عليه أن يقف على قدميه!
ومن أحس بالضياع، كيف يمكن إيقافه؟
ذلك أن المهزومين اليوم
هم أصحاب النصر غدا،
والمستحيل إلى الأبد
يتحول ويصير: في هذا اليوم!
قصائد من 1933-1938م
الشعراء المهاجرون
هوميروس كان بلا وطن،
ودانتي اضطر إلى أن يترك وطنه.
لي-بو وتو-فو تشردا خلال الحروب الأهلية
التي ابتلعت ثلاثين مليون إنسان.
يوريبيدس هددوه بجره للمحاكم،
وشيكسبير أغلقوا فمه وهو يحتضر.
فرانسوا فيون لم تبحث عنه ربة الشعر وحدها،
بل بحثت عنه الشرطة أيضا.
لوكريس الذي وصفوه «بالمحبوب»
ذهب إلى المنفى،
وكذلك هيني.
وبرشت مثلهما
هرب ووجد المأوى
تحت السقف الدنمركي المصنوع من القش.
في الأزمنة السوداء
(في الأزمنة السوداء
هل سيغني الناس كذلك؟
أجل سيغني الناس
عن الأزمة السوداء ...)
1
لا ينبغي أن يقال: عندما كانت شجرة الجوز تتمايل في الريح
بل: عندما سحق النقاش العمال.
لا ينبغي أن يقال: عندما رمى الطفل الحصاة في النهر
وتركها تتقافز في التيار المندفع الجياش،
بل: عندما كانوا يعدون العدة للحروب الكبيرة.
لا ينبغي أن يقال: عندما دخلت المرأة في الحجرة،
بل: عندما تحالفت القوى الكبرى ضد العمال.
لكن المهم ألا يقال: الأزمنة كانت سوداء،
بل ينبغي أن يقال: لماذا سكت الشعراء والأدباء الذين عاشوا فيها؟
الشكاك
تعودنا باستمرار،
كلما بدا لنا أننا وصلنا للجواب عن سؤال معين،
على أن يفك واحد منا عقدة الحبل الذي يشد
الستارة الصينية البيضاء،
بحيث تنزل على الحائط ويظهر عليها الرجل الجالس على الأريكة،
ذلك الرجل المسرف في الشك.
قال لنا: أنا الشكاك،
وأشك في أن العمل الذي ابتلع أيامكم قد حالفه التوفيق،
وأن ما قلتموه - حتى ولو كان قد قيل بطريقة سيئة -
كانت له أي قيمة بالنسبة لبعض الناس.
أو أنكم أحسنتم في قوله ولكنكم لم تثقوا في صدقه،
أو أنه قيل بطريقة ملتبسة، بحيث تتحملون وزر أي خطأ ممكن،
أو كان محددا وقادرا على استبعاد التناقض من الأشياء،
لكن ربما كان محددا أكثر من اللازم!
وعندئذ يكون ما قلتموه غير صالح للاستخدام
ويكون ما صنعتم فاقدا الحياة.
هل تعيشون حقا في مجرى الأحداث؟
هل أنتم متفاهمون مع كل ما يتحول ويصير؟
وهل ما زلتم كذلك تتحولون وتصيرون؟
من أنتم؟ لمن تتكلمون؟ من المستفيد مما تقولون؟
وعلى فكرة: هل يساعد على إيقاظ الوعي؟
هل يصلح للقراءة في الصباح؟ وهل هو مرتبط بالواقع الراهن؟
وهل تستخدم العبارات التي تقال أمامكم ،
أو تجد على الأقل من يعترض عليها ويفندها؟
وهل كل ما يقال مدعم بالحجة وقائم على أساس؟
على الخبرة؟ وأية خبرة؟
وقبل كل شيء ودائما وأبدا قبل كل شيء:
كيف يكون سلوك الناس عندما يصدقون ما تقولون؟
ثم قبل كل شيء: كيف يتصرف الإنسان (بشكل عملي)؟
استغرقنا التأمل، مع حب الاستطلاع، في الرجل
الشكاك الأزرق الذي يظهر أمامنا على الشاشة البيضاء.
أخذنا ننظر إلى بعضنا
وشرعنا في البدء من البداية.
عن العقم
شجرة الفاكهة التي لا تثمر
تتهم بأنها عقيمة.
من يفحص التربة؟
الغصن الذي ينكسر
يتهم بالتعفن والفساد.
لكن، ألم يسقط الثلج عليه؟
أشعار صينية1
الأصدقاء
لو أتيت من الطريق في عربة مطهمة،
وكنت أرتدي ثوب فلاح،
ثم تلاقينا ذات يوم في الشارع،
لنزلت من العربة وانحنيت.
ولو كنت تبيع الماء،
والتقينا ذات يوم في الشارع،
وأنا أتنزه على ظهر جواد،
لنزلت من عليه تحية لك.
شاعر مجهول، من حوالي مائة سنة قبل المسيح
اللحاف الكبير
سألت الحاكم عما نحتاج إليه؛
لنساعد المقرورين في مدينتنا،
فأجاب: لحاف طوله عشرة آلاف قدم،
يغطي مدن الضواحي كلها.
بوشي يي (773-846م)
ميلاد ابن
تتمنى العائلات
حين يولد لها ابن
أن يكون ذكيا.
أما أنا،
وقد حطمت حياتي بالذكاء،
فلا أملك إلا الأمل
في أن يكون ابني
جاهلا وخامل التفكير.
عندئذ يحيا حياة مطمئنة
كوزير في الوزارة.
سو تونج-بو (1036-1101م)
السياسي
كالمعتاد ذهبت إلى المدينة
لأحمل إلى السوق الخضروات الطازجة التي جمعتها بنفسي.
ولما كان الوقت لا يزال مبكرا،
جلست لأسترد أنفاسي تحت شجرة برقوق،
بالقرب من البوابة الشرقية.
هنالك رأيت سحابة من الغبار
انشقت عن فارس قادم من أعلى الطريق.
الوجه: حزين. النظرة: ذاهلة.
وحشد صغير، لعله من الأصدقاء والأقارب، في انتظاره.
تزاحموا حوله ليودعوه.
غير أنه لم يجسر على التوقف.
عقدت الدهشة لساني وسألت الناس من حولي:
من هو هذا الفارس وماذا أصابه؟
قالوا: كان مستشار الدولة، أحد الكبار،
ومكافأته في السنة عشرة آلاف «كيش».
حتى الخريف الأخير كان القيصر يزوره في بيته كل يوم مرتين.
بالأمس تعشى مع الوزراء،
وهو اليوم منفي إلى ياي-شو في أقصى البلاد.
هكذا الحال مع مستشاري الحكام،
يتقلب عليهم الرضا والسخط بين منتصف الليل وساعة الظهيرة.
أخضر، أخضر هو عشب الضاحية الشرقية
الذي يشقه الدرب الحجري المؤدي للتلال،
التلال المسالمة تحت مواكب السحب.
بو شي-يي
تنين المستنقع الأسود
عميقة هي مياه المستنقع الأسود،
وفي لون المداد.
يقال إن تنينا مقدسا جدا يسكن هنا.
ما من عين بشرية رأته،
لكن إلى جوار المستنقع
بني هيكل مقدس
ونظمت السلطات المسئولة
طقوس العبادة.
ربما يبقى التنين تنينا،
لكن الناس يستطيعون أن يجعلوا منه إلها.
سكان القرى يعتبرون الحصاد الوفير وسوء المحصول
وجيوش الجراد ولجان القيصر
والضرائب والأوبئة،
أقدارا حكم عليهم بها
التنين المقدس جدا.
إنهم جميعا يقدمون له القرابين:
خنازير صغيرة، وجرارا مملوءة بالنبيذ،
وذلك حسب النصائح التي يقدمها لهم
واحد منهم، له وجه ثان.
إنه يحدد كذلك صلوات الصباح
والأناشيد التي يترنمون بها في العطلات.
تحية لك أيها التنين، الغني بالعطايا.
تحية لك وباقة النصر تزين رأسك.
يا منقذ الوطن،
أنت المختار بين التنانين.
ومختار هو النبيذ الذي يقدم لك
من بين كل أنواع النبيذ.
قطع اللحم ملقاة على الأحجار المتناثرة حول المستنقع.
العشب الذي ينمو أمام الهيكل مخضب بالنبيذ.
أنا لا أعلم كم من الأضاحي يأكل التنين،
لكن فيران الغابة وثعالب التلال
سكرى على الدوام ومتخمة بالطعام.
لماذا تبدو الثعالب غاية في السعادة؟
ماذا صنعت الخنازير الصغيرة
لكي تذبح عاما بعد عام
إرضاء للثعالب؟
والتنين المقدس جدا
في أعماق مستنقعه ذي الأبعاد التسعة.
هل يدري أن الثعالب
تسرق خنازيره الصغيرة وتلتهمها
أم أنه لا يدري؟
بو-كي-يي
احتجاج في العام السادس من حكم شين فو ...
التلال والجداول في السهول،
جعلتموها ميدانا لحروبكم.
من أين تظنون أن الشعب
سيحصل على الخشب والقش اللازم له؟
أرجوكم أن تعفوني
من أسمائكم وألقابكم.
إن تنصيب جنرال واحد
معناه: عشرة آلاف جثة.
تساو سونج (870-920م)
من قصائد سفيندبورج
من كتاب الحرب
1
عندما يتكلم الأعلون عن السلام،
تعلم عامة الشعب
أن الحرب قادمة.
وعندما يلعن الأعلون الحرب،
تكون الأوامر قد صدرت بالتعبئة.
الأعلون
اجتمعوا في حجرة.
يا رجل الشارع
ودع كل أمل!
الحكومات
توقع على معاهدات عدم اعتداء.
أيها الرجل الصغير،
اكتب وصيتك.
الأعلون يقولون:
الطريق يوصل إلى المجد.
الأسفلون يقولون:
بل يوصل إلى القبر.
الذين ينهبون اللحم من المائدة
يعلمون القناعة.
الذين قسمت لهم الغنيمة
يطالبون بشجاعة التضحية.
المتخمون يتحدثون إلى الجائعين
عن الأزمان الرائعة التي سوف تأتي.
الذين يسوقون الدولة إلى الهاوية
يقولون إن الحكم صعب جدا
على الرجل العادي.
الحرب القادمة
ليست هي الأولى؛
لقد سبقتها حروب أخرى.
عندما انتهت الحرب الأخيرة،
كان هناك المنتصرون والمهزومون.
عند المهزومين جاعت عامة الشعب.
عند المنتصرين جاعت عامة الشعب أيضا.
عندما يحين أوان الزحف
عندما يحين أوان الزحف،
لا يعلم الكثيرون
أن عدوهم يزحف معهم في المقدمة.
الصوت الذي يصدر لهم الأوامر
هو صوت عدوهم،
والذي يتكلم عن العدو
هو نفسه العدو.
على الحائط كتابة بالطباشير «هم يريدون الحرب.»
والذي كتبها
قد سقط صريعا.
أيها الجنرال، دبابتك قوية جدا!
تسحق غابة بأكملها، ومائة من البشر،
لكن فيها عيبا واحدا؛
أنها تحتاج إلى سائق!
أيها الجنرال، قاذفة قنابلك قوية،
تطير أسرع من العاصفة،
وتحمل فوق ما يحمل الفيل،
لكن فيها عيبا واحدا؛
أنها تحتاج إلى طيار!
أيها الجنرال، للإنسان فوائد كثيرة
فهو يستطيع أن يطير ويستطيع أن يقتل
لكن فيه عيبا واحدا:
أنه يستطيع أن يفكر!
عامل يسأل أثناء القراءة
من بنى طيبة ذات الأبواب السبعة؟
في الكتب نقرأ أسماء الملوك،
فهل جروا الأحجار فوق ظهورهم؟
وبابل التي تهدمت مرات عديدة،
من الذي أعاد بناءها في كل مرة؟
وفي أي بيوت من الطمي المذهب بأشعة الشمس
كان يعيش عمال البناء؟
وليلة تم بناء سور الصين،
أين ذهب البناءون؟
روما العظيمة زاخرة بأقواس النصر.
من الذي أقامها؟
على من انتصر القياصرة؟
بيزنطة التي طالما تغنى بمجدها المنشدون،
هل كان سكانها جميعا يعيشون في القصور ؟
وليلة ابتلعت مياه المحيط
قارة أطلنطا الخرافية،
كان الغرقى يصيحون غاضبين
وهم ينادون عبيدهم.
الإسكندر الشاب فتح الهند،
هل كان وحده؟
قيصر هزم الغالبين.
ألم يكن معه على الأقل طباخ؟
فيليب ملك إسبانيا بكت عيناه
لما غرق في البحر أسطوله.
ألم يبك أحد سواه؟
فردريك الثاني انتصر في حرب الأعوام السبعة.
من الذي انتصر معه؟
في كل صفحة أرى نصرا.
من الذي أعد مأدبة الاحتفال؟
في كل عشر سنوات يظهر رجل عظيم.
من الذي كان يدفع له أجره؟
أخبار كثيرة ،
وأسئلة لا تحصى ولا تعد.
حذاء أنبا ذوقليس
1
لما نال أنبا ذوقليس الأجريجنتي
شرف التكريم من مواطنيه،
وكانت الشيخوخة في نفس الوقت قد هدت قواه،
قرر أن يموت.
وإذ كان يحب فريقا منهم
وهم يبادلونه الحب،
لم يشأ أن يموت أمامهم،
وإنما آثر
أن يطويه العدم.
دعاهم لرحلة إلى الجبل.
لم يدعهم جميعا،
بل ترك بعضهم جانبا،
فتم اختياره، كما تم المشروع بأكمله.
كيفما اتفق.
تسلقوا بركان «إتنا».
مشقة الصعود
ولدت الصمت.
لم يعد أحد.
كلمات حكيمة.
هناك فوق القمة،
تنفسوا الصعداء.
عندما استردوا النبض المعتاد،
وشغلهم المشهد الذي رأوه
والفرحة ببلوغ الهدف،
تركهم المعلم
دون أن يلحظه أحد.
ولما استأنفوا الكلام،
لم ينتبهوا لشيء.
لكن بعد حين
افتقدوا كلمة هنا
وكلمة هناك،
وتلفتوا يبحثون عنه.
غير أن المعلم
كان قد وصل إلى قمة الجبل
منذ زمن غير قليل.
وما كانت به حاجة
لأن يحث خطاه.
خطر له
أن يتوقف لحظة،
وهناك تناهى إليه الحديث،
كأنه يأتي من بعيد،
من وراء الجبل.
الكلمات المفردة
عجز عن التمييز بينها.
كان الموت قد بدأ بالفعل.
وبينما كان يقف
بالقرب من فوهة البركان،
مشيحا بوجهه بعيدا،
عازفا بنفسه
عن هذا العالم
الذي لم يعد يعنيه،
انحنى العجوز على مهل،
وخلع الحذاء من قدمه،
ثم ألقاه وهو يبتسم.
بضع خطوات إلى جانبه،
قاصدا من وراء ذلك
ألا يهتدي إليه أحد بسرعة،
بل في الوقت المناسب،
قبل أن يحل به الفساد.
وعندئذ ألقى بنفسه
في فوهة البركان.
لما رجع أصحابه
بعدما أضناهم البحث
دون أن يكون الحكيم معهم،
بدأت حكاية اختفائه
تذيع على مر الأسابيع والشهور التالية،
على نحو ما تمنى.
كان من بينهم
من انتظر عودته
دون أن يمل الانتظار،
بينما أعلن غيرهم أنه قد مات.
وفي الوقت الذي أقلع فيه بعضهم
عن التساؤل عنه انتظارا لعودته،
راح غيرهم يحاولون
أن يهتدوا إلى الحل بأنفسهم.
ورويدا رويدا
كما تتباعد السحب في السماء
دون أن تتغير،
بل تتضاءل شيئا فشيئا
ثم تتلاشى
إذا العين لم تتطلع إليها،
وتزداد بعدا
إذا حاولت أن تفتش عنها،
وقد تفنى في سحب أخرى،
كذلك تباعد المعلم
عن مألوف حياتهم
كما هو المألوف المعتاد.
عندئذ لغط الناس
بأنه لم يمت؛
لأنه لم يكن ممن يجوز عليهم الفناء.
أحاط السر به من كل جانب،
وافترض الناس
أن يكون هناك وجود آخر
غير هذا الوجود الأرضي،
وأن قانون الفناء
يجوز على نفر من البشر
دون غيرهم.
بهذا اللغو لغط الناس.
غير أن حذاءه
عثر عليه في ذلك الوقت بالذات.
ذلك الحذاء الجلدي
البالي
المحسوس
الأرضي
ملقى هناك
أمام الذين يسارعون فيؤمنون
بما لا تراه عيونهم.
هكذا صارت نهاية أيامه
أمرا طبيعيا،
وصدق الناس أنه مات
كما يموت سائر البشر.
2
على أن هناك قوما
يصفون الحادث بطريقة أخرى،
فيقولون: إن أنبا ذوقليس هذا قد حاول في الواقع
أن يضمن لنفسه كرامات إلهية،
كما أراد، بما عمد إليه من اختفاء غامض،
وبإلقائه نفسه في بركان إتنا
بطريقة ماكرة تفتقر إلى الشهود،
أن يؤكد الخرافة التي تزعم
أنه ليس من جنس البشر،
وأن قانون التحلل والفساد
لا يسري عليه.
بيد أن حذاءه قد هزئ به
عندما وقع في أيدي البشر. (وهناك من يذهب إلى أن البركان نفسه - وقد أخذه الغضب على هذا السلوك -
لفظ حذاء هذا المنحرف الذي ادعى
أنه ليس من جنس البشر)
غير أننا نميل إلى الاعتقاد بهذا.
لو أنه لم يخلع حذاءه بالفعل،
للزم أن يكون قد غاب عن ذاكرته
ما عرف عنا من غباء،
ولم يخطر على باله
أن من طبعنا أن نسارع
فنلقي بأنفسنا من ظلام إلى ظلام،
ونجعل الغامض أشد غموضا،
وأننا نميل إلى تصديق رأي متهافت
بدلا من البحث
عن أساس متين.
ولو صح ذلك أيضا
لما ثار الجبل
على مثل هذا الإهمال من جانبه،
ولآمن بأن المعلم
أراد أن يخدعنا حقا
لكي يضفي على نفسه
كرامة إلهية. (ذلك لأن الجبل لا يؤمن بشيء
ولا يشغل نفسه بأمورنا)
لكن الجبل راح يقذف الحمم
كعهده من قديم الزمان،
ولفظ حذاء المعلم - على حين كان تلاميذه يضنون أنفسهم
ويتشممون رائحة السر العظيم،
وينشئون مذهبا ميتافيزيقيا عميقا،
حتى وقع في أيديهم فجأة
حذاء المعلم؛
الحذاء الجلدي
البالي
المحسوس
الأرضي.
تاو-تي-كنج
حكاية الكتاب الذي أملاه الحكيم لاو-تزو وهو في طريقه إلى المهجر
1
1
لما بلغ السبعين من عمره وأحس بالضعف الشديد،
تاقت نفس المعلم إلى الراحة؛
فقد تداعت أركان الخير في البلاد،
والشر عاد إلى سطوته،
وربط حذاءه.
2
ثم حزم ما يحتاج إليه:
متاع قليل، لكنه يضم شيئا من هنا ومن هناك:
الغليون الذي تعود أن يدخن فيه كل ليلة،
والكتيب الذي تعود أن يقرأ فيه،
ومن الخبز الأبيض على قدر النصيب.
3
فرح قلبه برؤية الوادي للمرة الأخيرة،
ثم نسيه عندما سار في طريق الجبل.
وفرح ثوره بالعشب الندي،
فراح يمضغ منه والعجوز فوق ظهره.
ولم يكن هذا في عجلة من أمره.
4
لكن في اليوم الرابع، عند أسفل الجبل،
سد عليه الطريق عامل الجمرك: «هل من شيء نفيس يستحق الضريبة؟» - «لا شيء.»
والغلام الذي كان يسحب الثور تكلم قائلا:
لقد كان يعلم الناس، واحتاج هذا أيضا إلى بيان.
5
وعاد الرجل يسأله بلهجة مرحة:
وهل خرج من ذلك بشيء؟
وتكلم الغلام فقال: «إن الماء الذي يجري بنعومة ولين
يهزم الصخر الجبار بمرور الزمن.
وبهذا، إن كنت فهمت، يتغلب على الصلب والخشن.»
6
ولكيلا يضيع عليه ضوء النهار الأخير،
دفع الثور الغلام.
وما إن اختفى الثلاثة وراء شجرة صنوبر سوداء،
حتى كان الرجل يعدو خلفهما ويصيح:
أنت! توقف! رد على السؤال!
7 - «ماذا تقصد بحكاية الماء أيها العجوز؟»
توقف المعلم: «وهل يهمك أن تعرف هذا؟»
قال الرجل: ما أنا إلا عامل جمرك بسيط،
لكن يهمني أن أعرف من ينتصر على من.
إن كنت تدري الجواب فتكلم!
8
اكتبه لي، أمله على هذا الغلام!
شيء كهذا لا يأخذه الإنسان معه ويغادر البلاد.
الورق عندنا والمداد. وعندنا كذلك وجبة طعام للعشاء.
أنا أسكن هناك، هل اتفقنا الآن؟
9
تطلع المعلم العجوز إلى الرجل من فوق كتفيه؛
السترة مرقعة ، القدم حافية،
وعلى الجبهة تجعيدة واحدة.
آه! ما هو بغالب هذا الذي يعترض طريقه.
وتمتم المعلم: أنت أيضا؟
10
كان المعلم العجوز، فيما يبدو عليه،
أعجز من أن يرد رجاء وجه إليه بأدب شديد؛
لذلك رفع صوته قائلا: من يسأل يستحق أن يتلقى الجواب.
وتكلم الغلام: «وسوف يبرد الجو بعد قليل.» - «حسن، فلنهبط هنا إلى حين.»
11
ونزل الحكيم من على مطيته
سبعة أيام وهما يكتبان،
وعامل الجمرك يحضر الطعام (كان في هذه الأثناء يلعن المهربين بصوت خفيض)،
وبعدها تم كل شيء على ما يرام.
12
وذات صباح،
ناول الغلام عامل الجمرك
إحدى وثمانين حكمة.
وبعد تقديم الشكر على الزاد القليل الذي أهداه،
انعطفا حول شجرة الصنوبر وغابا في حضن الجبل.
قولوا الآن: هل يمكن أن يكون الإنسان أكثر أدبا؟
13
لكن لا ينبغي أن نمجد الحكيم وحده،
الذي يسطع اسمه على صدر الكتاب،
فمن الضروري أن تنتزع الحكمة من الحكيم؛
لذلك استحق الشكر كذلك عامل الجمرك
الذي عرف كيف يطلبها منه.
زيارة للشعراء المنفيين
لما دلف، في الحلم، إلى كوخ الشعراء المنفيين
الذي يقع إلى جوار الكوخ
الذي يسكنه المعلمون المنفيون (تناهت إليه من هناك أصوات شجار وضحك)،
استقبله «أوفيد» وقال له في صوت غير مرتفع: «خير لك ألا تجلس الآن، أنت لم تمت بعد.
من يضمن ألا تعود مرة أخرى؟
وألا يتغير أي شيء سواك؟»
اقترب «بو كي يي»، وبريق العزاء يشع من عينيه،
وقال مبتسما: «كانت الصرامة والقسوة الشديدة هي جزاء
كل من سمى الظلم باسمه،
ولو مرة واحدة.»
وقال صديقه «تو-فو» في هدوء: «تعلم أن المنفى ليس هو المكان
الذي ينسى فيه المرء غروره.»
لكن على نحو أشد التصاقا بالأرض
انضم إليهم فرانسوا فيون بهلاهيله الممزقة وسأل: «كم عدد أبواب البيت الذي تسكنه؟»
فأخذه «دانتي» جانبا، وهمس وهو يشده من كم سترته: «أبياتك مزدحمة بالأخطاء.
لا تنس، يا صديق،
أن الذين يعارضونك لا حصر لهم.»
وهتف فولتير: «احرص على القرش، وإلا أجاعوك.»
وصاح «هيني»: «وامزج أشعارك بالفكاهة.»
قال شكسبير غاضبا: «لا جدوى من ذلك،
فعندما جاء «ياكوب»
منعت أنا أيضا من الكتابة.»
ونصح «يوربيدز» قائلا: «حين يصل الأمر إلى المحكمة،
فوكل عنك وغدا يكون محاميا عنك؛
لأنه يعرف الثغرات في شبكة القانون.»
كانت الضحكات لا تزال تتردد
حين هتف صوت من الركن المعتم: «أنت، هل يحفظون أشعارك أيضا عن ظهر قلب؟
والذين يحفظونها،
هل سيفلتون من الاضطهاد؟»
قال «دانتي» في صوت خفيض: «هؤلاء هم المنسيون،
لم تمح أجسادهم فحسب
بل محيت كذلك آثارهم.»
انقطع الضحك.
لم يجرؤ أحد على التطلع إليه.
القادم الجديد
شحب وجهه.
أمثولة بوذا عن البيت المحترق
جوتا ما، البوذا، علم تلاميذه مذهبه
عن عجلة الجشع التي تشدنا إليها،
وأوصى بالتخلص من كل الرغبات
بحيث نتلاشى، مجردين من كل رغبة،
في العدم الذي سماه النيرفانا.
ذات يوم سأله تلاميذه:
ما طبيعة هذا العدم، أيها المعلم؟
نحن جميعا نود التخلص من كل رغبة كما توصينا بذلك.
لكن قل لنا: هل هذا العدم الذي سنتلاشى فيه
شبيه بذلك التوحد مع كل ما هو مخلوق،
كما يحدث للواحد منا عندما يتمدد في الماء وقت الظهيرة
ويشعر بأن جسده خفيف، وأن عقله
يكاد أن يكون خاليا من أي فكرة،
عندما يتمدد في الماء في كسل أو يسقط في النوم،
ويوشك ألا يعرف إن كان قد أحكم الغطاء فوقه؛
لأنه يهوي مسرعا في سقوطه.
هل هذا العدم الذي تصفه لنا مفرح؟ هل هو عدم طيب،
أم أنه مجرد عدم بارد، خاو ، وبلا معنى؟
سكت البوذا وطال سكوته،
ثم قال في هدوء واسترخاء:
لا جواب عندي على سؤالكم.
لكن في المساء، وبعد أن انصرف تلاميذه،
ظل البوذا جالسا تحت شجرة الخبز،
وقص على تلاميذه الذين لم يسألوه هذه الأمثولة:
رأيت في الأيام الأخيرة بيتا يحترق
كانت ألسنة اللهب تلعق السقف.
ذهبت هناك ولاحظت أن بعض الناس ما زالوا فيه.
وقفت على الباب وناديت عليهم: «النار تلتهم السقف!»
أي أني طلبت منهم أن يسرعوا بمغادرته،
لكن بدا لي أنهم لا يتعجلون الأمر.
سألني أحدهم، بينما كانت الحرارة تصهر حاجبيه، عن الأحوال في الخارج:
هل السماء تمطر؟ وهل الريح ما زالت تعصف؟
وهل سيجدون بيتا آخر؟ وأسئلة أخرى من هذا القبيل،
فابتعدت عن البيت دون أن أرد عليهم.
قلت لنفسي: هؤلاء يستحقون الحرق حتى يتوقفوا عن أسئلتهم.
حقا يا أصدقائي، من لا يحس بأن حرارة الأرض التي يقف عليها
قد بلغت الحد الذي يجعله يفضل أن يستبدل بها أرضا غيرها.
مثل هذا الإنسان لن يجد عندي ما أقوله.
تلك هي الأمثولة. التي تروى عن جوتاما البوذا.
لكننا نحن أيضا، نحن الذين لم يعد يشغلنا فن الصبر،
بل يشغلنا فن آخر في عدم الصبر،
وفي تقديم اقتراحات متنوعة وذات طبيعة أرضية،
وتعليم الناس كيف ينفضون عنهم معذبيهم من البشر.
نحن نرى أن أولئك الذين يواجهون القصف المنتظر لأسراب الطائرات
بأسئلتهم المطولة عن وجهة نظرنا في ذلك،
وعن تصورنا لما سوف يحدث
وعن مصير مدخراتهم في دفاتر التوفير
وسراويلهم التي يلبسونها في أيام الأحد
إذا انقلبت الأحوال فجأة؛
مثل هؤلاء الناس لن يكون لدينا الكثير لنقوله لهم.
فحم لميكي
1
سمعت أنه في مقاطعة أوهايو،
في مطلع هذا القرن،
كانت تعيش امرأة في بدويل،
اسمها ماري ماكوي،
أرملة ملاحظ «الخطوط الحديدية»
ميكي ماكوي
في فقر شديد.
2
لكن كان يحدث كل ليلة،
عندما ترعد القطارات السريعة
لسكك حديد «ويلنج رود»،
أن يلقي سائق القطار
كومة من الفحم
عبر السور الذي يلتف
حول مزرعة البطاطس،
وفي صوت مبحوح
ينادي على عجل:
لأجل ميكي.
3
وفي كل ليلة،
عندما تسقط كومة الفحم
من أجل ميكي
على حائط الكوخ الصغير،
تنهض العجوز
في سكرة النوم
وتلتف في معطفها
وتضع جانبا
كومة الفحم
هدية سائقي القطارات
إلى ميكي الذي مات،
ولكن لم ينسه أحد.
4
لكنها كانت تنهض قبل طلوع الفجر بكثير،
وتخفي هديتها بعيدا
عن أعين الناس؛
حتى لا يقع مكروه
لسائقي القطارات
لدى سكك حديد «ويلنج رود».
5
هذه القصيدة مهداة
إلى رفاق ماكوي
سائق القطار (الذي مات بذات الرئة
على قطارات الفحم
في مقاطعة أوهايو).
هدية الصديق للصديق.
1
خطاب فلاح إلى ثوره
أغنية فلاح مصري قديم
1
أيها الثور العظيم،
أيها الإلهي الذي يجر المحراث.
تعطف وأتقن حرثك في خطوط مستقيمة، لا تخلط الشقوق في بعضها.
أنت تتقدم، أيها القائد، هوه!
نحن أحنينا ظهورنا، لكي نحش علفك.
تفضل الآن وتناوله على مهلك.
أيها الغالي الذي يطعمنا،
لا تحمل، وأنت تلتهمه، هم الشقوق، التهم!
لأجل حظيرتك، يا حامي العائلة،
تأوهنا ونحن نحمل عروق الخشب على ظهورنا.
مرقدنا مبتل، وأنت ترقد في المأوى الجاف.
بالأمس سمعناك تسعل، يا صاحب الخطوة العزيز.
ملك الفزع نفوسنا.
أتريد أن تنفق،
قبل أن نبذر البذور،
أيها الكلب؟!
كتابة على قبر جوركي
هنا يرقد
رسول الأحياء البائسة،
وصاف معذبي الشعب،
ومن يناضلون ضدهم،
الذي تربى في جامعات الشوارع،
الذي ولد من أصل وضيع،
الذي ساعد على القضاء على النظام الذي يكرس العالي والوضيع،
معلم الشعب
الذي تعلم من الشعب.
حريق الكتب
عندما أمر النظام بإحراق الكتب
التي تحتوي المعرفة الضارة في حريق علني،
وأجبرت الثيران في كل مكان
على جر الكتب إلى المحارق،
اكتشف أحد الأدباء المطاردين مفزوعا - وهو واحد من خيرة الكتاب -
أن قائمة الأسماء التي ستحرق كتب أصحابها
قد نسيت اسمه كما نسيت كتبه.
أسرع إلى مكتبه في غضب شديد،
وكتب خطابا إلى الحكام بقلمه المجنح:
أحرقوني! أحرقوني!
لا تفعلوا بي هذا! لا تبقوا علي!
ألم أقل الحقيقة دائما في كتبي؟
والآن تعاملونني كما يعامل الكذاب.
إني آمركم : أحرقوني!
خواطر عن المنفى
1
لا تدق مسمارا في حائط.
ألق بسترتك على الكرسي!
لماذا تحمل هم أيام أربعة؟
غدا ستعود إلى وطنك.
دع الشجرة الصغيرة بلا ماء!
ماذا يعود عليك من غرس شجرة؟
قبل أن ترتفع إلى مستوى عتبة،
تكون قد غادرت هذا المكان.
اسحب قبعتك على وجهك، حين يمر بك الناس!
ما الداعي لأن تقلب في قواعد لغة أجنبية؟
النبأ الذي يدعوك إلى الوطن مكتوب بلغة تعرفها.
كما يتساقط الجير من السقف (لا تحاول أن توقفه!)
سينهار سور البطش
الذي أقاموه على الحدود
ضد العدالة.
2
انظر إلى المسمار الذي غرزته في الحائط.
متى تظن أنك ستعود؟
هل تريد أن تعرف ما تعتقده في سريرة نفسك؟
يوما بعد يوم
تعمل في سبيل التحرير،
جالسا تكتب في حجرتك.
هل تريد أن تعرف رأيك في عملك؟
انظر إلى شجرة الكستانيا الصغيرة في زاوية الفناء
التي تحمل إليها الإبريق المملوء بالماء!
إلى الأجيال القادمة
1
حقا إنني أعيش في زمن أسود!
الكلمة التي لا ضرر منها تعد كلمة حمقاء.
الجبهة المصقولة تدل على التبلد.
والذي ما زال يضحك
لم يسمع بعد بالنبأ المخيف.
أي زمن هذا؟
إن الحديث فيه عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة؛
لأنه يعني الصمت على جرائم أشد هولا!
ذلك الذي يعبر الطريق في هدوء،
ألم يعد في إمكان أصدقائه الذين يقاسون المحنة
أن يصلوا إليه؟
صحيح أنني ما زلت أحصل على راتبي،
لكن صدقوني، ليس هذا إلا بمحض الصدفة،
إذ لا شيء مما أعمله
يسوغ لي أن آكل حتى أشبع.
صدفة أنني ما زلت على قيد الحياة (إن ساء حظي فسوف أضيع!)
يقولون لي: كل واشرب
وافرح بما لديك،
لكن كيف يمكنني أن آكل وأشرب
وأنا أنتزع لقمتي
من أفواه الجائعين،
والكأس التي أشربها
ممن يعانون الظمأ؟
ومع ذلك فما زلت آكل وأشرب!
نفسي تشتاق أن أكون حكيما.
الكتب القديمة تصف لنا من هو الحكيم:
هو الذي يعيش بعيدا
عن صراعات هذا العالم،
ويقضي عمره القصير
بلا خوف أو قلق .
العنف يتجنبه،
والشر يقابله بالخير.
أن ينسى المرء رغباته
بدلا من أن يعمل على تحقيقها،
تلك في نظرهم هي الحكمة،
غير أنني لا أقدر على هذا.
حقا، إنني أعيش في زمن أسود.
2
جئت إلى هذه المدن في زمن الفوضى،
وكان الجوع في كل مكان.
عشت مع الناس في زمن الثورة،
وثرت معهم.
وهكذا انقضى عمري
الذي قدر لي على هذه الأرض.
طعامي أكلته بين المعارك.
نمت وسط القتلة والسفاحين.
مارست الحب في غير اهتمام.
تأملت الطبيعة ضيق الصدر.
وهكذا انقضى عمري
الذي قدر لي على هذه الأرض.
الطرقات على أيامي كانت تؤدي إلى المستنقعات،
ولغتي كانت تفضحني لدى السفاح.
كنت قليل الحيلة،
غير أني كنت أقض مضاجع الحكام (أو هذا على الأقل ما كنت أرجوه).
وهكذا انقضى عمري
الذي قدر لي على هذه الأرض.
القدرة كانت محدودة.
الهدف بدا بعيدا بعيدا.
كان واضحا على كل حال،
غير أني ما استطعت أن أدركه.
وهكذا انقضى عمري
الذي قدر لي على هذه الأرض.
3
أنتم يا من ستظهرون
بعد الطوفان الذي غرقنا فيه،
فكروا
عندما تتحدثون عن جوانب ضعفنا
في الزمن الأسود
الذي نجوتم منه.
لقد كنا نخوض حروب الطبقات،
ونهيم بين البلاد
ونحن نغير بلدا ببلد
أكثر مما نغير حذاء بحذاء.
يكاد اليأس يقتلنا
حين نرى الظلم أمامنا
ولا نرى أحدا يثور عليه.
مع ذلك فنحن نعلم
أن كرهنا للانحطاط
يشوه ملامح الوجه،
وأن سخطنا على الظلم
يبح الصوت.
آه! نحن الذين أردنا أن نمهد الأرض للمودة والمحبة،
لم نستطع أن نكون ودودين ولا محبوبين.
أما أنتم،
فعندما يأتي اليوم
الذي يصبح فيه الإنسان عونا للإنسان،
فاذكرونا،
وسامحونا.
قصائد من 1938-1941م
من كتاب الحرب الثاني
الشبان يجلسون محنيي الظهور فوق الكتب
ما جدوى العلم الذي يتعلمونه؟
ما من كتاب يعلم
كيف يحصل على الماء
إنسان معلق في الأسلاك الشائكة.
الفتيات تحت أشجار القرية
الفتيات تحت أشجار القرية
يخترن عشاقهن.
الموت
يختار أيضا.
ربما لا تبقى الأشجار نفسها
على قيد الحياة.
الليل
الأزواج يئوون إلى الفراش،
والبنات الصغيرات
سوف يلدن اليتامى.
زمن سيئ للشعر
أعلم طبعا:
أن المحظوظ وحده محبوب.
صوته يسمعه الناس بسرور.
وجهه جميل.
الشجرة المشوهة في الفناء
تدل على التربة الفاسدة،
لكن العابرين يعيرونها بأنها مشوهة،
ومعهم الحق.
القوارب الخضراء والأشرعة المرحة في المضيق،
لا أراها.
شبكة الصيادين الممزقة
هي الشيء الوحيد الذي أراه.
لماذا لا أتكلم إلا عن المزارعة ذات الأربعين عاما،
التي تمشي محنية الظهر؟
صدور البنات
دافئة كما كانت في الماضي.
أن تظهر قافية في أغنيتي،
شيء يبدو لي أشبه بالعبث أو المجون.
في نفسي يتصارع الإعجاب بشجرة التفاح المزدهرة،
والفزع من خطب النقاش.
لكن الأمر الثاني وحده
هو الذي يدفعني للجلوس إلى مكتبي.
حصن أوروبا
أوروبا هي حصن هتلر،
كما يقول جوبلز لكل طفل،
لكن أين رأى أحد حصنا
لا يقف الأعداء خارجه،
بل داخله أيضا؟
أسئلة وإجابات - هل يمكن أن تكون الحقيقة فانية، والكذب أبديا؟ - هذا هو رأيي. - أين رأيت الظلم مستمرا في ظلمه دون أن يكتشفه أحد؟ - هنا. - من يعرف إنسانا أدى به البطش إلى السعادة؟ - ومن يجهل أمثاله؟ - ومن يقدر في هذا العالم على إسقاط الظالم؟ - أنتم.
رجلان
تحت خطوة هذا الرجل زلزلت الأرض.
تحت خطوة ذلك الرجل لم تتزلزل.
جاء الأول لتعم الأرض العتمة.
والثاني كان بداخلها نورا.
سمعت من يقول ...
سمعت من يقول إن البؤساء هم سادة الغد،
وأن هذا هو الأمر الطبيعي،
وأن نظرة واحدة تكفي للتأكد منه،
لكنني لا أستطيع أن أتبين هذا.
عن الحظ
من يريد النجاة بنفسه
لا يستغني عن الحظ،
فليس في وسع أحد أن ينجو
من البرد والجوع أو حتى من البشر.
الحظ معين.
كنت موفور الحظ
ولهذا ما زلت موجودا،
لكنني حين أنظر للمستقبل،
أتبين وأنا أرتعش
كم من الحظ ما زلت في حاجة إليه.
الحظ معين.
المحظوظ قوي.
المناضل الناجح والمعلم الحكيم
كلاهما محظوظ.
الحظ معين.
قصائد من مجموعة «المسينج كاوف» (أو شراء النحاس)
(1935-1940م)
هكذا يربي الإنسان نفسه حين يغير نفسه
1
حين يقول نعم ، حين يقول لا،
حين يضرب، وحين يضرب
حين ينضم إلى هذا الجمع من الناس
وحين ينضم إلى ذلك الجمع.
هكذا يربي الإنسان نفسه، من خلال تغييره لنفسه،
وهكذا تنشأ صورته في نفوسنا
من حيث يشبهنا، ومن حيث لا يشبهنا.
عن السهولة
انظروا وتمعنوا في السهولة
التي يمزق بها النهر الجبار السدود،
وكيف يهز الزلزال
الأرض بيد كسول متراخية.
وتزحف النار المفزعة
برشاقة على المدينة المزدحمة بالبيوت.
وتلتهمها بمتعة وسرور،
هذه الأكول المدربة.
يا لذة البدء الجديد!
يا للذة البدء من البداية!
يا للصبح الباكر!
والعشب الذي يبزغ لأول مرة
عندما يبدو أن الخضرة قد نسيت!
يا لأول صفحة من الكتاب الذي طال انتظاره،
هذه الصفحة العجيبة المدهشة!
اقرأ في بطء،
وبأقصى سرعة سيسهل عليك قراءة الجزء الذي لم تطلع عليه!
وحفنة الماء التي نبدأ بها غسل الوجه المتصبب عرقا!
والقميص النظيف الرطب (مع اللبسة الأولى).
يا لبداية الحب! للنظرة التي تخبل العقل!
ويا لبداية العمل! ملء الآلة الباردة بالزيت!
اللمسة الأولى باليد والأزيز الأول للموتور
الذي يبدأ في التحرك!
وخيط الدخان الأول الذي يملأ الرئة!
وأنت أيتها الفكرة الجديدة!
عن التقليد
2
إن الذي يقلد فحسب
دون أن يكون لديه ما يقوله
عما يقلده،
يشبه الشيمبانزي المسكين
الذي يقلد مروضه في التدخين
دون أن يدخن.
أبدا لن يكون التقليد البليد
هو التقليد الحقيقي.
الموقف النقدي
يتصور الكثيرون
أن الموقف النقدي موقف عقيم.
والسبب في هذا أنهم يحسون
أن نقدهم لا يغير شيئا من أحوال الدولة.
غير أن هذا الموقف العقيم
ما هو في الواقع إلا موقف ضعيف.
فعن طريق النقد المسلح
يمكن ان تسحق دول سحقا.
إن تنظيم نهر،
وتهذيب شجرة فاكهة،
وتربية إنسان،
والتغيير الجذري لدولة؛
كلها أمثلة على النقد الخصب.
وهي كذلك أمثلة على الفن.
تمثيل ه. ف.
3
بالرغم من أنها عرضت كل ما هو ضروري
لفهم زوجة صياد سمك،
فإنها لم تتقمص (شخصيتها) ولم تتحول إليها تماما،
وإنما مثلت دورها بطريقة
توحي بأنها كانت مشغولة كذلك بالتفكير العميق ،
كأنما تتساءل باستمرار:
كيف كان الأمر في الواقع؟
ومع أن المشاهد لم يكن ليستطيع بصفة دائمة
أن يخمن بأفكارها الخاصة عن زوجة الصياد،
فقد بينت على كل حال
أن أمثال تلك الأفكار دارت في ذهنها.
وأنها دعت المتفرجين للتفكير فيها.
قصيدتان على لسان هيلينه فيجل
وجهي مدهون بالأصباغ،
مطهر من كل تأثير خاص،
مفرغ لكي يعكس الأفكار
بحيث يصبح الآن قابلا للتغيير،
شأنه شأن الصوت والإيماءة.
الجسد الطلق
جسدي حر طلق،
أعضائي خفيفة ومرتخية،
وجميع الأوضاع المفروضة
ستكون ملائمة لها.
مناجاة ممثلة تدهن وجهها
1
سأمثل دور سكيرة
تبيع أطفالها في باريس،
في زمن الثورة المعروفة «بالكومونة».
وعلي أن أتفوه بعبارات خمس لا غير.
لكن علي أيضا أن أسير مصعدة من الشارع،
وسأمشي مشية إنسان متحرر،
إنسان لم يشأ أحد - غير الخمر - أن يحرره،
وسوف أتلفت ورائي كالسكيرين
الذين يخشون أن يتتبعهم أحد،
وأستدير متجهة نحو الجمهور.
فحصت عباراتي الخمس كما تفحص الوثائق
التي تغسل بالأحماض
للتأكد من عدم وجود خطوط أخرى
تحت سطورها المكتوبة.
سوف أنطق كل عبارة
كما لو كانت تهمة موجهة إلي
وإلى كل المشاهدين الذين ينظرون إلي.
لو كنت بلهاء لصبغت وجهي كما تفعل سكيرة عجوز
فاسدة أو مريضة، لكنني سأظهر على الخشبة كامرأة جميلة،
امرأة محطمة بجلد أصفر كان ناعما ذات يوم.
مخربة بشعة المنظر، وكانت في الماضي مثيرة؛
لكي يسأل كل متفرج:
من المسئول عما جرى لها؟
البحث عن الجديد والقديم
عندما تقرءون أدواركم،
فاحصين لها، مستعدين لإبداء دهشتكم،
فابحثوا عن الجديد والقديم،
لأن زمننا وزمن أولادنا
هو زمن صراع الجديد مع القديم.
مكر العاملة العجوز التي تأخذ من المعلم معرفته
كأنها تحمل عنه عبئا ثقيلا جدا،
هو شيء جديد وينبغي أن يعرض كشيء جديد.
كما يقول المثل الشعبي: أثناء تحول القمر
يحمل القمر الجديد القمر القديم
ليلة كاملة بين ذراعيه.
ضعوا «الآتي» و«الذاهب» دائما في اعتباركم!
إن الصراع بين الطبقات،
والصراع بين القديم والجديد
يجيش كذلك في داخل الفرد.
كل مشاعر شخصياتكم وتصرفاتهم
افحصوها بحثا عن الجديد والقديم!
آمال الأم شجاعة التاجرة تفضي بأولادها إلى الموت.
لكن يأس الخرساء من الحرب ينتمي للجديد.
وحركاتها العاجزة وهي تجر الطبلة المنقذة إلى السطح
ينبغي أن تملأ نفوسكم بالفخر،
وشطارة التاجرة التي لا تتعلم شيئا،
ينبغي أن تملأ قلوبكم بالشفقة والرثاء.
وعند قراءاتكم لأدواركم وفحصكم لها،
مع استعدادكم للاندهاش،
افرحوا بالجديد
واخجلوا من القديم.
أغنية كاتب المسرحيات
أنا كاتب مسرحيات.
أعرض عليكم ما رأيته بعيني.
شاهدت في أسواق البشر
كيف يشترى الإنسان ويباع.
هذا ما أعرضه عليكم
أنا كاتب المسرحيات.
كيف يدخلون الحجرات على بعضهم والخطط في أيديهم
أو العصي المطاطية أو النقود.
كيف يقفون في الشوارع وينتظرون.
كيف ينصبون الفخاخ لبعضهم
والأمل يملأ نفوسهم.
كيف يتواعدون.
كيف يشنقون بعضهم.
كيف يتبادلون الحب.
كيف يدافعون عن الفريسة.
كيف يأكلون.
كل هذا أعرضه عليكم.
الكلمات، التي ينادون بها بعضهم، أنقلها لكم.
ما تقوله الأم لابنها،
ما يأمر به صاحب الأعمال العامل،
ما تجيب به الزوجة زوجها،
كل الكلمات المتوسلة، الآمرة،
المستعطفة،
الكلمات التي يساء فهمها،
والكلمات الكاذبة،
الكلمات الجاهلة والجميلة والجارحة.
كل هذا أنقله لكم.
أرى هناك ثلوجا تتساقط،
وأرى أمامي زلازل تقترب من هناك،
وجبالا تعترض الطريق،
وأنهارا تفيض على الشاطئين.
لكن الثلوج تحمل قبعات فوق رءوسها،
والزلازل تحمل نقودا في جيب الصدر.
الجبال نزلت من مركبات،
والأنهار الصاخبة تتحكم في رجال البوليس.
كل هذا أكشف لكم عنه.
لأستطيع أن أعرض عليكم ما أراه،
أطالع عروض شعوب أخرى وعصور خالية.
أعدت كتابة بعض المسرحيات،
فحصت صنعتها بدقة،
وطبعت في نفسي
ما أستطيع أن أفيد منه.
درست أحوال الإقطاعيين الكبار
كما صورها الإنجليز
في شخصيات ثرية
تستغل العالم
لتزداد عظمة.
درست كتاب الإسبان الذين يميلون لتقديم دروس في الأخلاق،
والهنود أساتذة العواطف الجميلة،
والصينيين الذين يصورون حياة العائلات
والأقدار المتنوعة في المدن.
ما أسرع ما تبدلت على أيامي
مناظر البيوت والمدن،
حتى كان السفر لمدة عامين
والعودة منه بمثابة رحلة إلى مدينة أخرى.
وكم تبدلت بصورة هائلة
ملامح الناس في سنوات قليلة.
رأيت عمالا يدخلون من بوابة المصنع،
وكانت البوابة عالية،
غير أنهم حين خرجوا منها
اضطروا أن يحنوا قامتهم.
عندها قلت لنفسي:
كل شيء يتغير،
وكل شيء مرهون بزمانه.
هكذا أعطيت كل مشهد علامة تميزه،
ورسمت ساحة كل مصنع وكل حجرة بالرقم الدال على سنتها.
كما يسم الرعاة بالأعداد ماشيتهم،
لكي يسهل عليهم التعرف عليها.
كذلك العبارات التي قيلت هناك،
أعطيتها علامتها المميزة،
حتى صارت كالكلمات المأثورة
التي يقولها الفانون،
والتي يدونونها
لكيلا ينساها الناس.
لكنني أسلمت كل شيء للدهشة،
حتى أشد الأشياء ألفة
الأم التي تناول ثديها لطفلها
تحدثت عنها كما لو كنت أتحدث عن شيء
لن يصدقه أحد.
البواب الذي أوصد الباب
في وجوه المقرورين
تحدثت عنه كما لو كنت أروي شيئا
لم تره عين بشر.
قصائد من مجموعة شتيفين
مختارات
هذا هو كل شيء
هذا هو كل شيء الآن، وهو ليس بكاف،
لكن ربما قال لكم إنني ما زلت على قيد الحياة.
أنا مثل رجل حمل معه طوبة أينما ذهب
ليرى العالم كيف كان يبدو منزله.
اليوم صباح الأحد ...
اليوم، صباح الأحد من عيد الفصح.
هبت على الجزيرة عاصفة ثلجية مفاجئة.
وسقط الثلج على الأشجار الخضراء الملتفة.
جاء ولدي الصغير وأخذني إلى شجيرة المشمش المجاورة لسور المنزل.
من أبيات شعرية كنت أشير فيها بإصبعي
إلى أولئك الذين يعدون العدة لإشعال الحرب
التي يمكن أن تمحو هذه القارة وهذه الجزيرة،
وأن تقضي على شعبي وعائلتي وعلي.
في صمت طرحنا كيسا كبيرا
فوق الشجيرة المرتجفة من البرد.
في المراعي التي تنمو ...
في المراعي التي تنمو على جوانب المضيق
يتردد هتاف البوم الصغير في هذه الليالي من فصل الربيع.
يتصور الفلاحون في خرافاتهم الشعبية
أن البومة تبلغ البشر
أنهم لن يعيشوا طويلا.
أما أنا الذي يعلم أنه قال الحقيقة للحكام،
فليس طائر الموت في حاجة لأن يفيدني بذلك.
إلى ملجئي الدنمركي
قل أيها البيت الواقع بين المضيق وشجرة الكمثرى:
هل نجت العبارة التي حفرها على جدارك
اللاجئ الذي آوى إليك.
هل نجت العبارة القديمة: «الحقيقة ملموسة.»
1
من ضربات القنابل التي كانوا يخططون
لإسقاطها عليك؟
ولدي الصغير يسألني
ولدي الصغير يسألني: هل علي أن أتعلم الحساب؟
وتحدثني نفسي أن أقول: وما الداعي؟
سوف تعرف بنفسك
أن قطعتين من الخبز أكثر من قطعة واحدة.
ولدي الصغير يسألني: هل علي أن أتعلم الفرنسية؟
وتحدثني نفسي أن أقول: وما الداعي؟
إن هذه الدولة موشكة على الانهيار.
ما عليك إلا أن تضع يدك على بطنك وتتأوه
وسوف يفهم الناس ما تريد.
ولدي الصغير يسألني: هل علي أن أتعلم التاريخ؟
وتحدثني نفسي أن أقول: وما الداعي؟
تعلم كيف تخفي رأسك في التراب،
فربما بقيت حيا.
غير أني أعود فأقول له:
تعلم الحساب!
تعلم الفرنسية!
تعلم التاريخ!
قصائد من 1941-1947م
الإعصار
أثناء الفرار من وجه النقاش إلى الولايات المتحدة،
لاحظنا فجأة أن سفينتنا الصغيرة توقفت عن السير.
ليلة بأكملها ونهارا بطوله
ظلت واقفة بمحاذاة «لوزون» في بحر الصين.
قال البعض إن السبب هو الإعصار الذي يعصف في الشمال.
وهمس البعض بأنه الخوف من سفن القرصنة الألمانية.
لكن الجميع
فضلوا الإعصار على الألمان.
قائمة بأسماء المفقودين
بينما كنت أهرب من سفينة غارقة لأصعد على سطح أخرى غارقة - إذ لم تكن قد ظهرت في الأفق سفينة جديدة -
سجلت على قصاصة صغيرة أسماء الذين لم أعد أراهم حولي.
المدرسة الصغيرة من الطبقة العاملة، مرجريته شتيفين.
وسط الدروس ومن شدة الإرهاق من مشقة الهروب،
تهاوت تلك الحكيمة من الإعياء وماتت.
كذلك تركني ذلك الذي كان دائم الاعتراض علي،
ذلك الواسع العلم والباحث عن الجديد «فالتر بنيامين».
رقد هناك عند الحدود المحرم عبورها بعد أن تعب من الملاحقة،
لكنه لم يصح بعد ذلك من رقدته.
والصابر الدءوب والمحب للحياة والخلاف والجدال «كارل كوخ»،
تخلص من حياته بنفسه في روما ذات الرائحة العفنة، وبذلك خدع رجال الجستابو.
وما عدت أسمع شيئا عن الرسام «كاسبار نيهير».
ليتني أستطيع على الأقل أن أحذف اسمه من هذه القائمة!
هؤلاء هم الذين أخذهم الموت ،
وآخرون تخلوا عني لضرورات الحياة،
أو حبا في الترف.
جواب الجدلي على التهمة التي وجهت
إليه بأن نبوءته بهزيمة جيوش هتلر في الجبهة الشرقية لم تتحقق
في السنوات السابقة على الطوفان
زحف أكثر من طوفان صغير
في أوقات غير منتظمة وبدرجات متفاوتة،
أغرقت المياه الشواطئ.
في مناطق معينة تعود الناس على الفيضانات،
فسكنوا في قوارب ضخمة، كما أقاموا مساكنهم على اليابسة.
وتطور فن البناء فوق المياه.
لم يحدث قبل ذلك أبدا أن تم بناء سدود جبارة
كما حدث في ذلك الزمان الذي سبق الطوفان.
في سنة محددة اعتقد الناس أن خطر الفيضان
قد زال إلى غير رجعة،
لكن في السنة التالية جاء الطوفان
فأغرق كل السدود وكل بناة السدود.
صيف 1942م
يوما بعد يوم،
أرى أشجار التين في الحديقة.
الوجوه المتوردة للتجار الذين يشترون الأكاذيب،
ووجوه قطع الشطرنج على المائدة التي تقع في الزاوية،
والصحف التي تحمل أخبار
حمامات الدم في روسيا.
هوليوود
كل صباح، كي أكسب عيشي،
أمضي إلى السوق حيث تشترى الأكاذيب.
أضع نفسي، والأمل يداعبني،
في صفوف البائعين.
قناع الشر
على جدار غرفتي
لوحة يابانية من الخشب.
قناع شيطان شرير،
مموه بالذهب.
أنظر في إشفاق
إلى العروق النافرة على الجبهة،
وأرى كم يرهق الإنسان
أن يكون شريرا.
طلوع النهار
ليس عبئا
أن يستهل طلوع كل نهار جديد
بصياح الديك
الذي يعلن منذ القدم
عن خيانة.
في صباح اليوم الجديد
في صباح اليوم الجديد وعند الغسق،
سترتفع الصقور في أسراب كثيفة
فوق شواطئ بعيدة،
محلقة بلا صوت
باسم النظام.
أنا الذي بقيت على قيد الحياة
أعرف بطبيعة الحال
أن الحظ وحده
هو الذي جعلني أبقى حيا
بعد موت كثير من أصدقائي.
غير أني سمعت الليلة في الحلم
هؤلاء الأصدقاء يقولون عني: «الأقوياء يبقون على قيد الحياة.»
عندها كرهت نفسي.
كل شيء يتحول
كل شيء يتحول.
يمكن أن تبدأ من جديد مع آخر نفس في صدرك.
بيد أن ما حدث قد حدث.
والماء الذي صببته في الخمر،
لن يمكنك أن تدلقه مرة أخرى.
ما حدث قد حدث.
الماء الذي صببته في الخمر،
لن يمكن أن تدلقه مرة أخرى.
بيد أن كل شيء يتحول.
يمكنك أن تبدأ من جديد
مع آخر نفس في صدرك.
قصائد من 1947-1956م
سنة وفاة الشاعر
الأصدقاء
أنا، كاتب المسرحيات،
فرقت الحرب بيني وبين صديقي مصمم الديكور
1
المدن التي عملنا فيها معا، لم يعد لها وجود.
عندما أتجول في المدن الباقية،
أقول أحيانا: قطعة الغسيل الزرقاء المنشورة هناك
كان بإمكان صديقي أن يضعها وضعا أفضل.
أنتيجون1
اخرجي من الدغش
2
أيتها الودودة
وتمشي أمامنا قليلا بخطوتك الخفيفة،
خطوة الواثقين.
مفزعة - كالعهد بك - للمفزعين.
يا من تشيحين بوجهك بعيدا،
أعرف كيف خفت من الموت،
لكني أعرف أيضا أن خوفك الأكبر
كان من الحياة بغير كرامة.
لم تتنازلي للجبابرة عن شيء،
لا ولا هادنت مثيري الفتنة والاضطراب.
مع ذلك نسيت الإهانة
ولما ينم فوق إساءاتهم عشب.
عندما رجعت إلى الوطن
عندما رجعت إلى الوطن
ورأيت البقية الباقية،
أصابني الرعب والفزع،
وأردت أن أسرع بالفرار.
لكن حتى لو حاولت
الهرب بأقصى سرعة،
لتعثرت وأعياني أن أخرج
من وسط ركام الأنقاض الخربة.
إلى هيلينة فيجل1
والآن اظهري بطريقتك اللطيفة
على خشبة المسرح القديم في مدينة الأنقاض،
مفعمة بالصبر وأيضا بالتصميم
على أن تعرضي ما هو حق وصحيح. (تعالجين) الحمق بالحكمة،
والحقد بالمودة،
وتعلقين التصميم الخاطئ (على جدار) البيت المنهار.
أما الذين لا يتعلمون فأريهم
وجهك الطيب
وعليه (ابتسامة) أمل صغيرة.
ملاحظة
عندما رجعت إلى بلدي
لاحظت أن شعري لم يشب بعد،
فشعرت بالفرح.
متاعب الجبال خلف ظهرنا.
أمامنا متاعب السهول.
بيت جديد
لما رجعت إلى بلدي بعد خمسة عشر عاما في المنفى،
سكنت في بيت جميل.
أقنعة «النو» التي أحتفظ بها،
وصورتي التي يظهر عليها وجه الشكاك،
علقتهما هنا «على الحائط».
كلما رحت أشق طريقي كل يوم وسط الأنقاض،
ذكرتني بالمزايا التي وفرت لي هذا البيت.
آمل ألا يجعلني أصبر على الحفر التي يقبع فيها الآلاف.
لم تزل حقيبتي المملؤة بالمخطوطات
على ظهر الدولاب.
إلى مواطني
أنتم، يا من بقيتم أحياء في المدن الميتة،
ارحموا أنفسكم أخيرا!
لا تشتركوا في حروب جديدة،
يا أيها التعساء.
كأنما لم تكفكم الحروب السابقة.
أتوسل إليكم أن ترحموا أنفسكم!
يا أيها الرجال، ألقوا من أيديكم السكين،
وأمسكوا المسطرين!
كان يمكن أن يكون لكل منكم
سقف يبيت تحته،
لو لم تقبضوا على السكين!
وخير للإنسان أن يجد سقفا يظله.
أبتهل إليكم أن تمسكوا المسطرين وتتركوا السكين!
أيها الأطفال، عليكم أن تناشدوا آباءكم
أن يفتحوا عيونهم ليجنبوكم الحرب.
ارفعوا أصواتكم هاتفين:
نحن لا نريد أن نسكن الخرائب،
ولا أن نقاسي ما قاسيتموه
لكي يجنبوكم الحرب.
يا أيها الأطفال!
أيتها الأمهات، ما دامت القضية هي قضيتكن
أن تحتملن الحرب أو لا تحتملنها،
فإني أناشدكن
أن تتركن أبناءكن يعيشون!
حتى يدينوا لكن بالحياة لا بالموت.
اتركنهم يعيشون
يا أيتها الأمهات!
مسرح العصر الجديد
تم افتتاح مسرح العصر الجديد،
عندما انطلقت عربة الأم شجاعة
فوق خشبة مسرح برلين المدمرة.
بعدها بعام ونصف العام،
في موكب الاحتفال بعيد الأول من مايو،
نبهت الأمهات أطفالهن بالإشارة
إلى هيلينه فيجل،
وامتدحن السلام.
عن بهجة العطاء
ذروة السعادة بغير مراء
هي أن تعطي من عانوا أكثر منك،
وأن تنثر الهدايا الجميلة
في فرح بيدين فرحتين.
ما من وردة يفوق جمالها
وجه المهدى إليه
عندما تهبط يداه الممتلئتان
في غمرة الفرح العظيم.
ولا من شيء يملؤك سرورا وصفاء
مثل أن تساعد الجميع، الجميع!
إلى ممثل يعيش في المنفى1
اسمع، نحن ندعوك للرجوع
أيها المطرود، عليك الآن أن تعود.
لقد نفوك من البلد
الذي كان يتدفق منه اللبن والعسل.
ونحن ندعوك الآن للرجوع
للبلد الذي لحق به الخراب والدمار.
وليس لدينا ما نقدمه لك
سوى أننا نحتاج إليك.
فقيرا كنت أم غنيا،
صحيحا كنت أم عليلا
انس كل شيء
وتعال.
صوت عاصفة أكتوبر
صوت عاصفة أكتوبر
حول البيت الصغير المطل على أعواد البوص
يبدو لي مثل صوتي تماما.
أستلقي مستريحا
على فراشي وأسمع صوتي
يتردد فوق البحيرة والمدينة.
الرجل الذي آواني
الرجل الذي آواني
فقد بيته.
والذي عزف من أجلي
أخذوا منه آلته.
هل سيقول الآن:
إنني أنا المميت
أم يقول إن الذين أخذوا منه كل شيء
هم المميتون؟
حادث سعيد
الطفل يجري مسرعا
أمي، اربطي لي المريلة.
وتربط الحزام حول المريلة.
حادث غير سعيد
ها هو ذا بيت، بني من أجلكم.
إنه واسع. إنه متين.
وهو مناسب لكم. ادخلوا.
في تردد يقترب النجارون والبناءون
والسمكرية والزجاجون.
نقش على برج عال
يقع قريبا من مرج فيبر
لما قررنا في تصميم
أن نعتمد أخيرا على قوتنا،
ونبني حياة جميلة،
لم يضايقنا الكفاح والجهد.
أنت مرهق من العمل المستمر
أنت مرهق من العمل المستمر.
الخطيب يكرر نفسه،
يطيل حديثه، يتكلم بصعوبة.
لا تنس، أيها المتعب
أنه يقول الحقيقة.
خبز الشعب
العدالة هي خبز الشعب.
وهو أحيانا وفير، وأحيانا شحيح.
طعمه في بعض الأحيان طيب، وفي بعضها الآخر رديء.
عندما يشح الخبز، يسود الجوع.
وعندما يسوء طعمه، يعم السخط.
عندما يكون الخبز طيبا ووفيرا
يمكن التسامح مع بقية الوجبة؛
إذ لا يمكن توفير كل شيء في وقت واحد.
والعمل الذي يتغذى على خبز العدالة
يمكن أن يتم إنجازه
وتنتج عنه الوفرة.
كما أن الخبز اليومي ضروري
فالعدالة اليومية ضرورية،
بل هي مطلوبة طوال اليوم.
من الصباح إلى المساء، أثناء العمل وأثناء اللهو والاستمتاع،
أثناء العمل الذي هو متعة،
في الأوقات العصيبة والأوقات السعيدة،
يحتاج الشعب إلى الخبز اليومي للعدالة،
الخبز الوفير الشهي.
لما كان خبز العدالة ضروريا إلى هذا الحد
فمن الذي يخبزه يا أصدقاء؟
من الذي يخبز الخبز الآخر؟
خبز العدالة
ينبغي، كالخبز الآخر،
أن يخبزه الشعب.
وأن يكون وفيرا وشهيا، ويوميا.
من مرثيات بوكو
تغيير العجلة
1
أجلس على ناصية الشارع.
السائق يغير العجلة.
لست سعيدا بالمكان الذي جئت منه.
لست سعيدا بالمكان الذي أذهب إليه.
لماذا أنظر إلى تغيير العجلة
نافد صبر؟
الحل
بعد ثورة السابع عشر من يونيو
2
أمر سكرتير اتحاد الكتاب
الواقع في شارع ستالين
بتوزيع منشورات كتب فيها
أن الشعب قد استهتر بثقة الحكومة،
وأنه لن يستطيع أن يستردها
إلا بالعمل المضاعف.
ألم يكن الأبسط من ذلك
أن تقوم الحكومة بحل الشعب
وتختار شعبا آخر غيره؟
وقت ضائع
عرفت أن مدنا قد بنيت،
أنا لم أذهب إليها.
قلت لنفسي:
هذا شيء يتعلق بالإحصاء
لا بالتاريخ.
ما قيمة المدن التي تبنى
بغير حكمة الشعب؟
عادات لم نتخلص منها
الأطباق تلقى بخشونة
بحيث يندلق الحساء.
بصوت مجلجل
يدوي أمر القيادة:
إلى الطعام!
النسر البروسي
يلقم أفواه الصغار
بالطعام.
الدخان
البيت الصغير تحت الشجر على البحيرة.
من سقفه يتصاعد الدخان.
إن غاب (الدحان) يوما
فما أتعس البيت
والشجر والبحيرة!
أشجار الصنوبر
في الصباح الباكر
تكون أشجار الصنوبر نحاسية.
هكذا رأيتها
قبل نصف قرن،
قبل حربين عالميتين،
بعينين شابتين.
أثناء قراءة هوراس
حتى الطوفان
لم يدم إلى الأبد.
ذات يوم تسربت
المياه السوداء.
حقا، ما أقل المياه
التي استمرت زمنا أطول!
أصوات
في أواخر الخريف،
تعشش في أشجار الحور الفضية
أسراب كثيفة من الغربان.
لكني لا أسمع خلال الصيف كله - لأن المنطقة خالية من الطيور -
سوى أصوات آتية من البشر.
وأنا راض بهذا.
سماء هذا الصيف
عاليا فوق البحيرة تحلق قاذفة قنابل.
من قوارب التجديف يتطلع إليها
أطفال ونساء وشيخ هرم.
يبدون من بعيد أشبه بالزرازير الصغيرة
التي تفتح مناقيرها
لالتقاط الغذاء.
اسمع أثناء الكلام!
لا تردد دائما: معك الحق يا معلم!
دع التلميذ يعرف هذا بنفسه!
لا تجهد الحقيقة أكثر مما يجب؛
إنها لا تتحمل هذا.
اسمع أثناء الكلام!
عند سماع أبيات للشاعر «بن»
3
عند سماع أبيات من الشعر
لبن المولع بالموت،
رأيت على وجوه العمال تعبيرا
لم يكن له شأن ببنية البيت،
ولكنه كان أثمن
من ابتسامة الموناليزا.
انتقال «فرقة برلين» إلى مسرح الشفباوردام
مثلتم هنا وسط الأنقاض،
فمثلوا الآن في البيت الجميل.
لا للتسلية وتزجية الوقت.
لينشأ منكم ومنا «نحن» محبة للسلام؛
كيما يبقى هذا البيت ويبقى غيره!
مسرح
في الضوء يظهرون:
الذين يمكن التأثير عليهم،
الذين يمكن إسعادهم،
الذين يمكن تغييرهم.
متع
النظرة الأولى من النافذة في الصباح،
الكتاب القديم الذي عثرت عليه
الوجوه المتحمسة،
الثلج، تغير الفصول،
الصحيفة اليومية،
الكلب،
الديالكتيك،
الاستحمام، السباحة،
الموسيقى القديمة،
الحذاء المريح،
الفهم،
الموسيقى الجديدة،
الكتابة، الزرع،
السفر،
الغناء،
المودة.
هنا الخريطة، وهناك الشارع «هنا الخريطة، هناك الشارع
انظر هنا المنحنى، انظر هناك المنحدر!» «أعطني الخريطة، أريد أن أمضي إلى هناك.
على ضوء الخريطة.
يمكن الإسراع في السير.»
في المستقبل، عندما يتوفر الوقت الكافي
في المستقبل، عندما يتوفر الوقت الكافي،
سوف نتدبر أفكار جميع المفكرين من جميع العصور،
ونشاهد جميع اللوحات لجميع الفنانين العظام،
ونضحك من جميع المضحكين،
ونتملق جميع النساء،
ونعلم جميع الرجال.
تحول الأشياء
1
وكنت عجوزا، وكنت شابا في بعض الأوقات.
كنت عجوزا في الصباح، وكنت شابا في المساء،
وكنت طفلا يتذكر أحزانه،
وشيخا بلا ذكريات.
2
كنت حزينا، حين كنت شابا،
وأنا الآن حزين، بعد أن شخت.
متى سيمكنني إذن أن أفرح؟
الأفضل في أسرع وقت.
وقد تصورت دائما
وقد تصورت دائما:
أن أبسط الكلمات يجب أن يكفي.
عندما أقول (الحقيقة) عما يجري في الواقع
فلا بد أن يتمزق قلب أي إنسان.
أنك ستسقط عندما تكف عن المقاومة،
ذلك شيء سنتأكد منه حتما.
لما كنت راقدا في الغرفة البيضاء
لما كنت راقدا في الغرفة البيضاء بمستشفى «الشاريتيه»،
4
وصحوت من نومي قبل طلوع النهار،
وسمعت غناء الشحرور،
عرفت (الحقيقة) معرفة أفضل.
كنت منذ وقت غير قصير
قد تخلصت من الخوف من الموت؛ (إذ أدركت) أنني لن أفتقد وجود شيء
ما دمت أنا نفسي لن أكون موجودا.
الآن نجحت في أن أفرح (من كل قلبي)
بكل غناء ستشدو به الشحارير من بعدي.
لو كنا سنبقى إلى الأبد
لو كنا سنبقى إلى الأبد
لتغير كل شيء.
لكن لأننا زائلون
يبقى الكثير على حاله القديم.
أغنية مضادة لأغنية «عن مودة العالم
5
هل معنى هذا أن نقنع ونتواضع
ونقول: «هذا هو الحال وليبق على ما هو عليه»؟
وأن نفضل معاناة العطش ونحن نرى الكئوس أمامنا
ونمد أيدينا للكئوس الفارغة لا للممتلئة؟
هل معنى هذا أن نبقى في الخارج
ونقعد في البرد دون أن يدعونا أحد
لأن السادة العظام يروق لهم
أن يملوا علينا ما يصيبنا من أحزان ومسرات؟
بيد أن الأفضل في رأينا هو أن نثور،
ولا نزهد في فرحة واحدة مهما قل شأنها،
وأن نقاوم مثيري المواجع والأحزان بكل قوة.
ونحاول أخيرا أن نجعل العالم بيتا آمنا لنا.
قصائد اقتبسها الشاعر أو أعاد صياغتها واستلهامها عن شعراء مختلفين من الشرق والغرب
من أغاني أوفيليا
عن شكسبير، هاملت، الفصل الرابع
مقتطفات «كيف أجد الآن أعز حبيب،
وأميزه عن غيره (من الموتى)
بصندله وقبعته المرصعة
بالقواقع وبالعصا؟»
قد ذهب، يا آنستي، ومات.
مات وشبع موتا.
العشب عند رأسه أخضر
وتحت قدميه حجر.
كفنه أبيض كالثلج والجليد،
وأشد بردا من الجليد وجنتاه.
لن يفضي بك الآن إليه أي باب،
كلا ولا عتبة ولا ممر.
العجائز الصغيرات
عن شارل بودلير
أجل، أنا أتتبع أحيانا هؤلاء النسوة العجائز الصغيرات!
ذات مرة، عندما مالت الشمس للمغيب،
وصبغت السماء بلون الجراح الدامية،
جلست إحداهن على طرف أريكة وهي مستغرقة في التفكير.
وراحت تنصت لإحدى فرق الموسيقى النحاسية البربرية
التي يغرق بها الجيش من حين لآخر حدائقنا العامة - في تلك الأمسيات الذهبية التي يشعر فيها المرء بالحيوية -
وبذلك يصب في قلوب سكان المدن الإحساس بالبطولة.
أخذت هذه العجوز - التي لم تزل مستقيمة الظهر -
وهي تشعر بالفخر كأنها تتحسس صليل السيوف (أخذت تبتلع في نهم تلك الأنغام الحربية الصاخبة،
وعينها تتسع من وقت لآخر كعين نسر عجوز،
وجبهتها تبدو كأنما قدت من أحجار جبال الألب؛
لكي تتوج بإكليل من الغار).
القبعة التي أهداها لي-شين للشاعر
عن الشاعر الصيني بو-شي-أي
من زمن طويل، وكنت سيدا أشيب الشعر،
أهديتني قبعة سوداء مزدانة بالزهور.
القبعة لا زلت حتى اليوم أضعها فوق رأسي.
أما أنت فذهبت إلى «المنابع السفلية».
الهدية قديمة، لكنها لم تزل صالحة،
والرجل مضى ولن يرجع أبدا.
على المنحدر يسطع القمر الليلة ،
وحول قبرك تهتز الأغصان في ريح الخريف.
الطريق الذي أمر المستشار أن يفرش بالحصى
ثور حكومي مربوط في عربة حكومية،
وعلى شاطئ نهر شان قارب مكدس بالحصى.
كم رطلا تزن حمولة واحدة منهما؟
وهم يجلبون الحصى في الغسق،
ويجلبون الحصى في الشفق.
لماذا يحضرون كل هذا الحصى؟
لأنهم يذهبون به في اتجاه البوابات الخمس.
إلى الغرب من الشارع الرئيسي،
تحت ظلال أشجار الغار الخضراء يرصفون طريقا بالحصى؛
إذ حضر بالأمس المستشار الذي عين أخيرا في منصبه،
وأقلقه أشد القلق أن الرطوبة والوسخ
يمكن أن تلوث حوافر حصانه.
حوافر حصان المستشار
تمشت فوق الحصى،
وبقيت نظيفة نظافة تامة.
الليلة التي لا تنسى
السماء من فوقي في تلك الليلة التي لا تنسى؛
كانت صافية جدا.
الكرسي الذي جلست عليه كان مريحا جدا.
الحديث الذي دار بيننا كان لطيفا جدا.
المشروب كان حريف الطعم جدا.
وناعمة جدا
كانت ذراعك أيتها الفتاة.
في تلك الليلة التي لا تنسى.
الشيطان
وكان للشيطان حقل توت
1
ما الذي أصنع به؟
ما الذي أصنع به؟
لا بد أن يحدث شيء.
ولأن الشيطان - كما نعلم - شيطان،
أبدع شيئا واخترعه:
اخترع السور (لكي يحمي حقله!)
صدر حبيبتي عظيم (ناهد الثديين)
ما الذي تصنع به؟
ما الذي تصنع به؟
لا بد أن يحدث شيء.
قصائد وأغاني مختارة من بعض مسرحياته
قصائد وأغاني من مسرحية «بعل» (بال) (1918-1922م)
كورال بعل العظيم
1
في حجر الأم الأبيض عندما شب بال،
كانت السماء هائلة وساكنة وشاحبة.
شابة كانت السماء عارية وعجيبة،
كما أحبها عندئذ بال، عندما جاء بال.
والسماء بقيت على حالها في الأفراح والأحزان،
حتى عندما كان بال لا يراها وينام ناعم البال.
بالليل تكون بنفسجية ويكون هو سكران،
وفي الصباح تقيا وهي شاحبة الألوان.
وفي الخمارات، والكنيسة، والمستشفى
يتخبط بال معتدل المزاج ويعتاد الأشياء.
ليكن بال متعبا يا صغار، أبدا لا يسقط بال؛
فهو يأخذ سماءه معه كلما انحدر إلى الحضيض.
في زحام الخطاة الذي يفيض بالخجل والعار،
وقف بال عاريا وتمرغ بكل هدوء .
السماء وحدها، لكنها على الدوام هي السماء.
دثرت عريه بقوة، وسحبت عليه الغطاء.
والدنيا، هذه الأنثى العظيمة التي تسلم نفسها ضاحكة،
لكل من يقبل أن تسحقه بين ركبتيها،
أعطته بعضا من النشوة والوجد الذي يهواه.
لكن بال لم يمت، وإنما راح يتطلع إليها.
وحين كان بال لا يرى حوله سوى الجثث،
كانت شهوته تتضاعف على الدوام.
هناك مكان لي، كما يقول بال، فليس عددها كبيرا.
مكان في حجر هذه الأنثى، كما يقول بال.
وسواء أكان الله موجودا، أم لم يكن هناك إله،
فما دام بال موجودا، فالأمر سواء عند بال.
أما الأمر الذي لا يقبل فيه بال المزاح،
فهو هل هناك خمر أم لا خمر هناك.
إذا أعطتكم امرأة كل شيء، على حد قول بال،
فدعوها تذهب، إذ لم يبق لديها شيء تعطيه.
لا تخافوا الرجال (عندما تجدونهم) في حضن امرأة، فكلهم سواء.
أما الأطفال، فحتى الأطفال يخشاهم بال.
كل الرذائل لا تخلو من خير (في نهاية المطاف).
وكذلك الرجل الذي يقترفها، كما يقول بال.
والرذائل لا يستهان بها، إذا عرف الإنسان ما يريد،
فاختاروا منها رذيلتين، لأن الواحدة كثيرة جدا عليكم.
المهم ألا تكونوا كسالى ولا مدللين؛
لأن الاستمتاع - وحق الله - ليس بالأمر اليسير.
فالمرء يحتاج لأعضاء قوية كما يحتاج للخبرة.
وفي بعض الأحيان يزعجه الكرش السمين.
يتطلع بال للصقور السمينة (التي تحوم في السماء)،
وتنتظر على ضوء النجوم أن تحط على جثة بال.
أحيانا يتظاهر بال بأنه قد مات،
فإذا انقض عليه صقر التهمه في صمت في وجبة العشاء.
تحت النجوم الخابية الكئيبة في وادي الآلام،
يقطع بال - وهو يتلمظ - حقول العشب الفسيحة.
إذا وجدها خاوية، أخذ ينحدر على مهل وهو يترنم بالغناء
نحو الغابة الأزلية لينام.
وإذا الحجر المعتم جذب إليه بال،
فما قيمة الدنيا في نظر بال؟ إن بال شبعان.
ما أكثر ما يحمل بال تحت جفنيه من سماوات،
بحيث يبقى لديه ما يكفيه منها لو مات.
لما تعفن في حجر الأرض المعتم بال،
كانت السماء لا تزال عظيمة وساكنة وشاحبة.
شابة كانت السماء وعارية ومهولة بشكل عجيب،
كما أحبها ذات يوم بال، كان بال حيا لا يزال.
الموت في الغابة
ومات رجل في الغابة الأزلية،
ومن حوله تدوي العاصفة والأنهار.
مات كحيوان تشبثت مخالبه بالجذور.
تطلع لقمم الأشجار، حيث كان زئير العاصفة
يعلو منذ أيام فوق كل الأصوات.
ووقف بعض الرجال وهم يحيطون به،
وقالوا له لكي يهدئوا من روعه:
تعال يا رفيق، سنحملك الآن إلى بيتك!
غير أنه رفسهم بركبتيه،
وبصق وقال: وإلى أين؟
فلم يكن له بيت ولا أرض.
كم عدد الأسنان التي بقيت في فمك؟
وما حالك الآن، دعنا نرى.
مت في هدوء ولا تكن كسولا!
بالأمس أكلنا حصانك العجوز.
لم لا تريد أن تذهب للجحيم؟
والغابة كانت عالية الصوت حوله وحولهم،
ورأوه وهو يتشبث بالشجرة،
وسمعوه وهو يصرخ فيهم ويصيح،
واستولى عليهم رعب لم يسبق أن عرفوه،
فكوروا قبضاتهم وهم يرتجفون؛
لأنه كان رجلا مثلهم كبقية الرجال.
عقيم أنت، أجرب مسعور يا حيوان!
صديد أنت، عفن قذر، أيها الصعلوك!
الهواء تخطفه منا بجشعك الفظيع.
هكذا قالوا له. أما هو، هذا الورم الخبيث، فقال:
أريد أن أعيش! أن أشم شمسكم!
وأركض على حصاني في النور كما تركضون!
كانت كلمات لم يفهمها عنه أي صديق،
فسكتوا وهم يرتعشون من التقزز.
الأرض شدت قبضتها على يده العارية.
ومن بحر لبحر في مهب الرياح تمتد اليابسة.
ويكتب علي أن أرقد ساكنا هنا في الحضيض.
أجل، إن فيض البؤس الذي غمر حياته
قد لازمه طويلا حتى استطاع في النهاية
أن يضغط جثته أيضا في جوف الأرض.
في غبش الفجر سقط ميتا على العشب المظلم.
بقلوب ملؤها التقزز حملوا جسده الذي برده الحقد،
ودفنوه تحت الشجرة في عمق الجذور.
وركبوا خيولهم وغادروا الدغل الكثيف،
ثم التفتوا للشجرة التي دفنوا تحتها
ذلك الذي بدا له الموت مرا غاية في المرارة؛
كانت الشجرة تتلألأ ذراها بهالة من النور.
رسموا على وجوههم الشابة علامة الصليب،
وانطلقوا في المراعي راكضين على ظهور الخيول.
أغنية بعل (بتصرف)
الشمس أمرضته،
وهده المطر.
والغار في الجبين
إكليله مسروق.
وشعره انتثر.
إن أنسي الصبا
وزهرة الشباب
لم ينس ساعة
أحلامه العذاب.
إن ينس بيته
والموقد الحبيب،
فروعة السما
تبقى ولا تغيب.
يا من طردتم جميعا
من السما والجحيم.
يا قاتلين ويا من
شقيتموا بالهموم،
يا ليتكم ما خرجتم
من ظلمة الأرحام.
قد كان فيها هدوء
وراحة وسلام.
لما نسيته أمه،
ودع أرض الأسلاف،
ومضى ليعد شراعه
والقارب والمجداف.
في بحر النشوة غاب،
بحر الخمر المغشوشة.
وعلى المركب أصحاب،
والكل يعد قروشه.
يضحك أو يلعن جاره،
يبكي بالدمع المر.
يبحث ليلا ونهارا
عن بلد آخر حر.
عن بلد آخر أفضل،
يحيا فيه الإنسان،
لا يشكو ولا يتذلل،
لا ظلم ولا حرمان.
مطارد قديم،
يرقص في الجحيم،
يجلد في النعيم،
يسكره شلال،
فجره الجمال،
بالنور والظلال،
يحلم في الخفاء،
بروضة خضراء.
وفوقه السماء
شاحبة زرقاء.
ولا يرى سواها.
عن مسرحية رجل برجل (1924-1926م)
أغنية عن سيولة الأشياء
1
مهما عاودت النظر إلى النهر
الذي يسيل في خمول،
أبدا لن ترى نفس الماء.
أبدا لن يرجع
ما ينحدر إلى أسفل.
ما من قطرة منه
تعود ثانية إلى منبعه.
لا تتشبث بالموجة
التي تتكسر على قدمك،
فطالما هي في الماء
ستتكسر عليها أمواج جديدة.
2
عشت سبع سنوات في مكان،
كان لي سقف فوق رأسي.
ولم أكن وحيدة،
لكن الرجل الذي كان يطعمني ولم يكن له نظير،
رقد ذات يوم مطموس الملامح،
تحت ملاءة الأموات.
ومع ذلك تناولت عشائي في ذلك المساء،
وسرعان ما أجرت الحجرة
التي تعانقنا فيها
والحجرة أطعمتني.
والآن، بعد أن لم تعد تطعمني،
ما زلت آكل
قلت:
لا تتشبث بالموجة
التي تتكسر على قدمك،
طالما وقفت في الماء
فسوف تتكسر عليها أمواج جديدة.
3
كنت كذلك أحمل اسما.
ومن سمع الاسم في المدينة قال:
هذا اسم طيب،
لكنني ذات ليلة شربت أربع كئوس (من رحيق الغلال).
وفي صباح اليوم التالي
وجدت على بابي بالطباشير
كلمة سيئة،
عندها أخذ اللبان اللبن معه وانصرف.
واسمي قضي عليه
مثل قماش كان أبيض ثم اتسخ.
ويمكن أن يبيض من جديد إذا غسلته،
لكن ضعه في النور وانظر إليه؛
تره لم يعد هو نفس القماش.
لا تذكر اسمك الحقيقي بدقة! وما الداعي لذلك؟
ما دمت تذكر اسما آخر معه باستمرار.
وما الداعي لأن تعلن رأيك بصوت مرتفع.
حاول جهدك أن تنساه!
ثم ماذا كان هذا الرأي؟ لا ترهق نفسك في تذكر شيء
مدة أطول من هذا الشيء نفسه.
لا تتشبث بالموجة
التي تتكسر على قدمك.
طالما وقفت في الماء
فسوف تتكسر عليها أمواج جديدة.
4
أنا أيضا تحدثت مع الكثيرين وأصغيت إليهم جيدا،
وسمعت آراء كثيرة،
كما سمعت الكثيرين يقولون عن أشياء كثيرة: هذا شيء مؤكد تماما!
لكنهم حين عادوا تكلموا كلاما آخر،
يختلف عما قالوه من قبل،
وعن أشياء أخرى قالوا: هذا مؤكد.
عندها قلت لنفسي: من بين الأشياء اليقينية المؤكدة،
لا شيء أشد يقينا
من الشك.
لا تتشبث بالموجة
التي تتكسر على قدمك.
طالما وقفت في الماء
فسوف تتكسر عليها
أمواج جديدة.
مونولوج عن ألم الأم
أتعرفون أيضا، من هي الأم؟
آه! قلبها رقيق كالزبدة.
كذلك حملكم قلب أم رقيق ذات يوم،
ويد أم ملأت معدتكم،
وعين أم نظرت إليكم،
وقدم أم أزاحت الحجر من طريقكم.
فإذا غطى العشب يوما قلب أم،
فإن روحا نبيلة سترفعها للسماء.
اسمعوا أما، اسمعوا أما تشكو وتقول:
هذا العجل حملته يوما تحت قلب الأم.
عن أوبرا القروش الثلاثة (1928م)
موال ميكي ميسر
وسمك القرش له أسنان
بارزة تبدو في وجهه،
ولدي ماكهيث سكين،
لكن لا تلمحها عين.
آه! والقرش زعانفه
تحمر إذا سال الدم.
ولميكي ميسر قفاز
أبيض ما لوثه الآثم.
في التميز وفي الماء الأخضر،
يتساقط يوميا قتلى.
لا هو طاعون أو كوليرا،
لكن ماكهيث يتمشى.
يوما - واليوم هو الأحد -
والجو هنا صفو رائع،
نكتشف على الشط قتيلا،
ونلاحظ رجلا في الشارع.
نسأل فيقال لنا همسا:
الرجل يسمى ميكي ميسر.
وثري يدعى شمول ماير،
وكذلك بعض ذوي الثروة
ذهبوا لا حس ولا خبر.
سرقهم اللص ميكي ميسر،
لكن من يثبت تهمته؟
وجدوا المسكينة «جيني فاولر»،
طعنت في الصدر بسكين،
ورأوا ميكي ميسر في المينا،
يتمشى لا يعرف شيئا.
لا يعرف شيئا بالمرة.
والسائق «ألفونس جلايت»،
هل يظهر يوما في النور؟
لو عرف الناس جميعهم،
ميكي ميسر لا يعرف شيئا.
قد شب حريق في سوهو،
والنار تلظت والتهمت
سبعة أطفال وعجوزا،
ورأوه في الزحمة يمشي،
لكن من يجرؤ يسأله.
هل يسأل شخص لا يدري؟
تلك الأرملة المسكينة،
سموها الأرملة القاصر.
فتحت عينيها في يوم،
فإذا هي بالعار طعينة.
يا ميكي: كم يبلغ سعرك،
والأجر عن الفعل الفاجر؟
ترنيمة الحياة الطيبة
1
ها هم يمجدون لنا حياة أصحاب العقول الحرة
الذين يعيشون مع كتاب ولا شيء في المعدة.
في كوخ (بائس) تقرضه الجرذان،
فليريحوني من هذا الكلام اللزج!
وليعش حياة الكفاف من يشاء!
فقد شبعت منها - بيني وبينكم - وأخذت ما يكفيني.
ما من عصفور صغير من هنا إلى بابل
كان يمكنه أن يحتمل ليوم واحد هذا الطعام.
بماذا تنفع الحرية هنا والعيش غير مريح؟
إن من يحيا في الرخاء هو وحده الذي يحيا حياة طيبة!
2
هؤلاء المغامرون وطموحهم الجسور،
الذين يشتهون سلخ الجلد وعرضه في السوق،
والذين هم أحرار على الدوام ويصرون على قول الحقيقة،
حتى يجد أصحاب الكروش شيئا جريئا يمكن أن يقرءوه.
عندما ترى الواحد منهم وهو يرتجف من البرد في المساء،
ويدخل صامتا مع زوجته المتجمدة في الفراش،
وهو يتنصت لعله يسمع أحدا يصفق،
ولا يفهم شيئا (مما يقول).
وفي تعاسة يحملق في سنة خمسة آلاف.
الآن أكتفي بأن أسألكم هذا السؤال: هل هذا شيء مريح؟
إن من يحيا في الرخاء هو وحده الذي يحيا حياة طيبة!
3
أنا نفسي كان من الممكن أن أعذر نفسي
لو كنت اخترت أن أكون عظيما ووحيدا،
لكنني لما رأيت عن قرب هؤلاء الناس،
قلت لنفسي: خير لك أن تقلع عن هذا.
الفقر يجلب - بجانب الحكمة - الضيق والملل.
والجسارة - بجانب المجد - تجلب المتاعب المريرة.
أنت الآن ترى نفسك حكيما وجسورا بالروح
لأنك ستكف الآن نهائيا عن التطلع للعظمة والمجد.
عندئذ تنحل من نفسها مشكلة السعادة والحظ.
من يحيا في الرخاء، هو وحده الذي يحيا حياة طيبة.
1
أغنية سليمان
1
رأيتم سليمان الحكيم،
وتعرفون ما جرى له!
كل شيء كان واضحا عنده وضوح الشمس.
لعن الساعة التي ولد فيها،
ورأى أن الكل باطل.
كم كان سليمان عظيما وحكيما!
وانظروا، لم يكن الليل قد جاء،
حتى رأى العالم النتائج:
الحكمة قد ذهبت به بعيدا جدا!
جدير بالحسد، من كان عاطلا منها!
2
رأيتم كليوباترا الجميلة،
وتعرفون ما جرى لها!
قيصران سقطا فريسة لها،
ففجرت حتى الموت،
ثم ذوت وأصبحت ترابا.
كم كانت بابل جميلة وعظيمة!
وانظروا، لم يكن الليل قد جاء،
حتى رأى العالم النتائج:
كان الجمال قد ذهب بها بعيدا جدا!
جدير بالحسد، من كان عاطلا منه!
3
رأيتم قيصر الجسور،
وتعرفون ما جرى له!
جلس مثل إله على المذبح،
وقتل، كما سمعتم،
حين كان في أوج عظمته.
صرخ صرخته العالية: «حتى أنت، يا ولدي!»
وانظروا، لم يكن الليل قد جاء،
حتى رأى العالم النتائج:
الجسارة قد ذهبت به بعيدا جدا!
جدير بالحسد من كان عاطلا منها!
4
تعرفون سقراط المخلص الأمين،
الذي أعلن الحقيقة على الدوام.
لكنهم لم يعترفوا بفضله،
بل غدر به الكبار وتآمروا عليه،
وحكموا عليه بشرب السم.
كم كان مخلصا ابن الشعب العظيم!
وانظروا، لم يكن الليل قد جاء،
حتى رأى العالم النتائج:
الإخلاص قد ذهب به بعيدا جدا!
جدير بالحسد، من كان خاليا منه!
5
تعرفون برشت المتعطش للمعرفة.
غنيتم جميعا أغانيه!
كثيرا ما سأل وألح في السؤال:
من أين يأتي للأثرياء ثراؤهم؟
عندما طردتموه من البلاد.
كم كان تعطشه للمعرفة شديدا!
وانظروا، لم يكن الليل قد جاء
حتى رأى العالم النتائج:
كان تعطشه للمعرفة قد ذهب به بعيدا جدا.
جدير بالحسد، من كان خاليا منه!
6
وها أنتم الآن ترون السيد ماكهيث،
ورأسه معلق على شعرة واحدة!
فعندما كان يتبع «صوت» العقل،
ويسرق ما يمكن أن يسرق،
بقي عظيما في أهل حرفته.
ثم ذهب قلبه معه حيثما ذهب!
وها أنتم ترون الآن أن الليل لم يأت بعد،
ولكن العالم قد رأى النتائج بالفعل:
الشهوة الحسية قد ذهبت به بعيدا جدا.
محسود من يتحرر منها!
ماكهيث يطلب الصفح والغفران
عن الصياغة المتأخرة في عام 1948م
يا إخوتنا في البشرية، يا من لا زلتم تحبون الحياة،
لا تدعوا قلوبكم تقسو علينا،
ولا تضحكوا عندما يعلقوننا في المشانق
تلك الضحكة الغبية من وراء ذقونكم.
آه! أنتم يا من لم تسقطوا، حيث سقطنا نحن،
لا تتجهمونا كما فعل معنا القضاة والقضاء؛
فالرزانة والاعتدال ليسا من طبع الجميع.
أيها الناس، تعلموا منا واجعلونا درسا لكم،
وتضرعوا إلى الله أن يعفو عنا.
المطر يغسلنا والمطر يطهرنا،
ويغسل اللحم الذي تلذذنا بأكله.
والعيون التي رأت الكثير واشتهت ما هو أكثر،
سوف تنتزعها الآن من محاجرنا الغربان.
الحق أننا قد تمادينا في الادعاء والغرور.
وها نحن الآن هنا معلقون كأنما نهوى العبث والمجون.
تنقرنا أجيال طيور نهمة
كتفاح الخيول المرمي على الطريق.
آه يا إخوتي! تعلموا منا واجعلونا درسا لكم.
أتوسل إليكم أن تصفحوا عنا وتسامحونا.
الأولاد الذين يقتحمون البيوت،
لأنهم محرومون من سقف يحميهم،
والذين يتفوهون بالفحش، حتى الوقحون منهم،
الذين يفضلون السب واللعن على العويل والبكاء.
النساء اللاتي يسرقن رغيف الخبز
كان من الممكن أن يكن أمهاتكم!
ربما لا تنقصهم إلا القسوة والفظاظة.
وأنا أبتهل إليكم أن تسامحوهم.
كونوا أكثر تسامحا مع اللصوص الصغار،
وأقل من ذلك تسامحا مع اللصوص الكبار،
أولئك الذين دفعوكم للحرب والعار،
وجعلوكم تفترشون الأحجار الملطخة بالدماء،
وقهروكم على ارتكاب القتل والنهب.
وهم الآن يستعطفونكم ويسألونكم المغفرة!
سدوا أفواههم بالتراب
الذي بقي من مدنكم الجميلة!
والذين يتكلمون عن النسيان،
والذين يتكلمون عن الغفران،
اضربوهم جميعا على أحناكهم
بمطارق حديدية ثقيلة!
عن أوبرا مهاجوني 1928-1929م
صعود وسقوط مدينة مهاجوني
أغنية ألاباما
1
1
أوه، أرنا الطريق إلى أقرب بار!
أوه، لا تسأل لماذا، أوه، لا تسأل لماذا!
لأننا يجب أن نجد أقرب بار.
لأننا إن لم نجد أقرب بار،
أقول لك لا بد أن نموت! لا بد أن أموت!
أوه، يا قمر ألاباما،
يجب أن نقول الآن «جود باي»
فقدنا العجوز الطيبة ماما،
ولا بد أن نحصل على الويسكي.
أوه! أنت تعرف لماذا!
2
أوه، أرنا الطريق إلى أقرب فتاة حلوة.
أوه، لا تسأل لماذا، أوه، لا تسأل لماذا!
لأننا يجب أن نجد أقرب فتاة حلوة.
لأننا إن لم نجد أقرب فتاة حلوة،
أقول لك لا بد أن نموت! لا بد أن نموت!
أوه! يا قمر ألابما.
يجب أن نقول الآن «جود باي»
فقدنا العجوز الطيبة ماما.
ولا بد أن نحصل على فتاة.
أوه! أنت تعرف لماذا!
3
أوه، أرنا الطريق إلى أقرب وأصغر دولار.
أوه، لا تسأل لماذا، أوه، لا تسأل لماذا؛
لأننا يجب أن نجد أقرب وأصغر دولار؛
لأننا إن لم نجد أقرب وأصغر دولار،
أقول لك لا بد أن نموت! لا بد أن نموت!
أوه! يا قمر ألاباما،
يجب أن نقول الآن «جود باي».
فقدنا العجوز الطيبة ماما،
ولا بد أن نحصل على دولارات.
أوه! أنت تعرف لماذا!
أغنية الرجال عن المدن المزدحمة بملايين الناس
في المدن اللعينة،
يعذب الإنسان
بالحقد والضغينة،
والموت والهوان.
نعيش لم نزل
فيها كما الديدان
وتحتها المجاري
وفوقها الدخان
نحيا ولم نزل
في وحلها نسير
في نيرها ندور
نسعى بلا أمل
ونعرف المصير
وسوف تنتهي
وينتهي الزمن
بهذه المدن
للموت والعفن
كما يوسد الإنسان نفسه ينام
المنظر الحادي عشر
باول :
كما يوسد الإنسان نفسه ينام.
ولن يغطيك سواك، لن يقيك لفح البرد والظلام.
كلما داس أحد،
فأنا ذاك الهمام
وإذا ديس أحد،
فهو أنت.
في الرغام.
الجميع :
كما يوسد الإنسان نفسه ينام.
ولن يغطيك سواك، لن يقيك لفح البرد والظلام.
وإذا داس أحد،
فأنا ذاك الهمام،
وإذا ديس أحد،
فهو أنت.
في الرغام.
الجوقة (من بعيد) :
تماسكوا! تماسكوا!
حذار أن تخافوا.
لا تجبنوا!
لا تقلقوا من نذر الدمار.
هل ينفع البكاء من ينازل الإعصار ؟
الجوقة (بعد مرور عام على انحراف الإعصار عن مدينة ماهاجوني ثم ازدهار أحوالها) :
تذكروا ...
تذكروا ...
في البدء يأتي الأكل والطعام.
فانتبهوا للكلمة!
وثانيا: العشق والغرام.
تتلوهما الملاكمة!
والشرب - طبق العقد - والمنادمة.
وقبل كل شيء والمهم يا رجال،
تذكروا، تأكدوا على الدوام،
هنا يباح كل شيء للجميع،
كل شيء،
كل شيء ها هنا حلال!
الحبيبان (على لسان باول وجيني)
المنظر الرابع عشر
جيني :
انظر إلى زوج اليمام
2
رف في الأعالي.
باول :
والسحب تحدو الموكب الصغير كالظلال.
جيني :
وهو يطير هائما.
باول :
من عالم لعالم جديد.
جيني :
يلتصق الجناح بالجناح
في الهبوط والصعود.
جيني وباول معا :
مجاورين للسحاب لحظة، ومبعدين
يقسمان صفحة السماء بين بين.
جيني :
ويمضيان مسرعين،
عاشقين ذاهلين.
باول :
عن الوجود أسلما الزمام للمغامرة.
جيني :
لم يشعرا إلا بخفق الريح
في الأجنحة المهاجرة،
تهدهد التوأم في المهد وتحنو في حذر،
فما درى بغير صحبة الحبيب في السفر.
باول :
ولو رمته الريح في اللجة،
أو في هوة العدم،
ماذا يهم والأليف صنوه
في فرحه وفي الألم؟
جيني :
وهل يصيبه أذى
ما دام يرعى عهده ويفتدي؟
باول :
وهكذا يحلقان فوق كل معتدي،
وينجوان من رصاص الغدر أو زخ المطر.
جيني :
يرفرفان تحت قرص الشمس أو قرص القمر،
مستسلمين زاهدين في الحياة والبشر.
باول :
أين تقصدان يا ترى؟
جيني :
لا لمكان.
باول :
ترى وعمن تبعدان؟
جيني :
عن الجميع.
باول :
وتسألون: كم مضى عليهما
منذ تعارفت روحاهما وائتلفا؟
جيني :
منذ قليل.
باول :
وتسألونني عن ساعة الفراق:
هل دنت؟
جيني :
بعد قليل.
جيني وباول معا :
وهكذا الحب العظيم؛
سند للعاشقين
الطيبين واليمام ...
جوقة الرجال :
تذكروا ... تذكروا ...
في البدء يأتي الأكل والطعام،
فانتبهوا للكلمة!
وثانيا: العشق والغرام.
تتلوهما الملاكمة!
والشرب - طبق العقد - والمنادمة.
وقبل كل شيء والمهم يا رجال،
تذكروا ... تأكدوا على الدوام،
هنا يباح كل شيء للجميع،
كل شيء،
كل شيء ها هنا حلال!
تجديف
إن كان هناك شيء
تستطيع أن تحصل عليه بالمال،
فاستول على المال.
إن مر بك إنسان ومعه مال،
فاضربه على رأسه،
وخذ ماله.
من حقك أن تفعل هذا!
إن أردت أن تسكن في بيت
فادخل بيتا
واضطجع في سرير.
إذا دخلت سيدة البيت عليك، آوها.
أما إذا انهار السقف عليك، فانصرف!
من حقك أن تفعل هذا!
إن كانت هناك فكرة
لا تعرفها،
ففكر في الفكرة.
إذا كلفتك مالك،
أو كلفتك بيتك،
ففكرها! فكرها!
من حقك أن تفعل هذا!
لصالح النظام.
لمصلحة الدولة.
من أجل مستقبل البشرية.
في سبيل راحتك أنت،
يجوز لك أن تفعل هذا!
أغنية عن ميت
المنظر العشرون
يمكننا أن نحضر خلا
كي نمسح وجهه،
أو نحضر أيضا كماشة
كي ننزع منه لسانه.
لن يمكننا أن نصنع للميت شيئا.
يمكن أن نتحدث معه،
أو نزعق فيه.
يمكن أن نتركه فوق فراشه،
أو نأخذه معنا للبيت.
لن يمكننا أن نصدر للميت أمرا.
يمكن أن نضع المال بكفه،
أو نحفر حفرة
نحشره فيها ونهيل ترابا،
أو بالجاروف نحطم رأسه.
لن نقدر أن نصنع للميت شيئا،
أو نقف بصف الموتى.
يمكننا الحديث عن عصوره العظيمة.
يمكننا نسيانه وعصره العظيم.
لن نقدر أن نصنع للميت شيئا،
أو أن نصبح في عون الموتى.
لكن لن يمكننا أبدا
أن ننقذ أنفسنا،
أو ننقذكم،
أو ننقذ أحدا!
عن مسرحية بادن التعليمية عن القبول (1929م)
تقرير عن الطيران
في الوقت الذي بدأت فيه البشرية تعرف نفسها،
صنعنا طائرات من الخشب والحديد والزجاج.
وحلقنا طائرين في الهواء
بسرعة تفوق سرعة الإعصار مرتين.
كان محرك (طائراتنا) أقوى من مائة حصان.
لكن أصغر حجما من حصان صغير.
على مدى ألف عام ظل كل شيء يسقط من أعلى إلى أسفل،
باستثناء الطيور،
حتى على أقدم الأحجار،
لم نجد رسما واحدا لأي إنسان
حلق طائرا في الهواء.
لكننا نهضنا
مع نهاية الألف الثانية من حسابنا للزمن،
ونهضت معنا فطرتنا الصلبة؛
لتدلنا على ما هو ممكن،
دون أن تنسينا
ما لم نبلغه بعد.
بحث قضية: هل يساعد الإنسان الإنسان؟
واحد منا عبر البحر،
واكتشف قارة جديدة.
لكن الكثيرين من بعده
بنوا هناك مدنا عظيمة
بكثير من الجهد والذكاء.
غير أن الخبز لم يصبح بذلك أرخص سعرا.
واحد منا صنع آلة،
حرك فيها عجلة بالبخار.
وكانت هذه هي أم كثير من الآلات.
كما أن الكثيرين يعملون عليها كل يوم.
غير أن الخبز لم يصبح بذلك أرخص سعرا.
كثيرون منا تفكروا
في دوران الأرض حول الشمس،
في العالم الباطن للإنسان،
في القوانين التي تحكم المجتمعات،
في طبيعة الهواء وفي الأسماك التي تعيش في أعماق البحار.
واكتشفوا أشياء عظيمة.
غير أن الخبز لم يصبح بذلك أرخص سعرا.
وإنما ازداد الفقر في مدننا،
ولم يعد أحد يعرف منذ زمن طويل،
ما هو الإنسان.
على سبيل المثال: بينما كنتم تحلقون في السماء،
كان شيء يشبهكم يزحف على الأرض
بطريقة لا تليق بالإنسان!
هل نستنتج من هذا أن الإنسان يساعد الإنسان؟
لا!
عن مسرحية الإجراء (أو القرار) (1929-1930م)
أغنية السلعة
الأرز موجود في وادي النهر،
في المحافظات المرتفعة يحتاج الناس الأرز.
إذا تركنا الأرز في المخازن،
سيدفعون فيه سعرا أعلى.
والذين يسحبون قوارب الأرز
سيقل نصيبهم من الأرز.
ما الأرز في الحقيقة؟
هل أعرف ما هو الأرز؟
ليتني عرفت من يعرفه!
أنا لا أعرف ما الأرز،
ولا أعرف إلا سعره.
الشتاء قادم والناس تحتاج الملابس.
لا بد من شراء القطن،
ولا بد من احتكاره.
عندما يأتي البرد سترتفع أسعار الملابس.
ومغازل القطن ستدفع أجورا أعلى؛
فهناك قطن وفير.
ما القطن في الحقيقة؟
هل أعرف ما هو القطن؟
ليتني عرفت من يعرفه.
أنا لا أعرف ما القطن،
ولا أعرف إلا سعره.
غير العالم فهو يحتاج للتغيير
من ذا الذي لا يجلس معه العادل
لكي ينصر العدل؟
أي دواء لا يصبر على مرارته
من يرقد على فراش الموت؟
أي وضاعة لا يحق لك أن تقدم عليها
لكي تقضي على الوضاعة؟
إن لم تستطع في نهاية المطاف أن تغير العالم
فأي نفع يرجى منك؟
من أنت؟
تمرغ في الرغام.
عانق السفاح،
لكن غير العالم،
فهو يحتاج إلى التغيير!
عن مسرحية الاستثناء والقاعدة (1929-1930م)
أغنية الأنا والنحن
ها هو ذا النهر.
ومن الخطر عبوره.
يقف على شاطئه رجلان
أحدهما يجتازه، والآخر يتردد.
هل أحدهما شجاع؟
هل الآخر جبان؟
وراء النهر ينتظر أحدهما عمل ينجزه.
من الخطر يخرج أحدهما.
إلى الشاطئ الذي غزاه وهو يتنفس الصعداء.
إنه يطأ الأرض التي يمتلكها.
يأكل أكلا جديدا،
لكن الآخر يخرج من الخطر،
لاهث الأنفاس، إلى العدم،
ويتلقاه، وهو الضعيف،
خطر جديد.
هل كلاهما شجاع؟
هل كلاهما حكيم؟
واأسفاه!
من النهر الذي هزماه معا.
لا يخرج الاثنان منتصرين.
نحن، وأنا وأنت،
ليسا في الواقع نفس الشيء.
ننتصر معا على النهر.
وأنت تنتصر علي.
أغنية التاجر
المريض يموت والقوي يقاتل.
وهذه هي سنة الحياة.
القوي يساعده الناس، والضعيف لا يساعده أحد.
وهذه هي سنة الحياة.
ما يسقط، دعه يسقط، واركله بقدمك أيضا.
لأن هذه هي سنة الحياة.
من ناضل وانتزع النصر، تبوأ مكانه من المأدبة.
وهذا شيء طيب وعلى ما يرام.
والطباخ لا يشارك بعد المعركة في إحصاء عدد الموتى.
وحسن ما يفعله الطباخ.
والله الذي خلق الأشياء وسواها، خلق السيد والعبد،
والخير فيما فعل والحكمة فيما رآه.
ومن طابت أحواله فهو طيب، ومن ساءت أحواله فهو شرير.
وهذا شيء حسن وعلى ما يرام.
الاستثناء
في النظام الذي وضعتموه
تعتبر الإنسانية استثناء.
فمن يسلك مسلك إنسان
لا بد أن يدفع الثمن.
كل من يبدو محبوبا سمحا
عليكم أن تخافوا عليه.
من أراد أن يساعد إنسانا
عليكم أن تمنعوه!
بجوارك يعطش إنسان.
أغمض عينيك بسرعة!
سد الأذنين!
فبجانبك تأوه أحد الناس!
أمسك خطواتك
عمن يصرخ في طلب النجدة!
الويل الويل لمن ينسى نفسه!
سيمد الكأس ليروي ظمأ العطشان،
فلا يلبث أن يعرف
أن الشارب ذئب!
النشيد الختامي (الإبيلوج)
على لسان جوقة الممثلين الذين يخاطبون النظارة
هكذا تنتهي
حكاية رحلة
على نحو ما رأيتم وسمعتم.
رأيتم شيئا عاديا،
يقع كل يوم،
لكننا نناشدكم:
تبينوا وجه الغرابة
فيما يبدو مألوفا!
والشيء المعتاد
اكتشفوا أنه لا يقبل التفسير!
واليومي المتكرر
ينبغي أن يشعركم بالدهشة.
وما يعد قاعدة مقبولة، اعلموا أنه شذوذ وسوء استخدام.
وحيثما وجدتم الشذوذ وسوء الاستخدام
فأوجدوا العلاج!
1
عن مسرحية الأم (1931م)
المأخوذة عن رواية مكسيم جوركي
ثناء على القضية الثالثة
دائما ما نسمع الناس تردد:
كيف تفقد الأمهات أبناءهن بسرعة؟
غير أنني احتفظت بابني.
كيف احتفظت به؟
عن طريق القضية الثالثة.
هو وأنا كنا اثنين.
لكن القضية الثالثة المشتركة التي كافحنا معا في سبيلها
هي التي وحدت بيننا.
طالما سمعت بنفسي حديث الأبناء مع آبائهم،
لكن كم كان حديثا أروع منه،
حديثنا عن القضية الثالثة، قضيتنا المشتركة.
كم كنا قريبين من بعضنا، قريبين من هذه القضية!
وكم كنا طيبين مع بعضنا،
قريبين من هذه القضية الطيبة!
من لا يزال حيا، فعليه ألا يقول مستحيل!
من لا يزال حيا
فعليه ألا يقول مستحيل!
المؤكد ليس مؤكدا،
وهو لا يبقى على ما هو عليه.
عندما ينتهي الحكام من كلامهم،
سيتكلم المحكومون.
من ذا الذي يجرؤ أن يقول مستحيل؟
من المسئول عن بقاء الظلم والاضطهاد؟ نحن.
من المسئول عن تحطيمه والقضاء عليه؟ نحن أيضا.
من يسقط مهزوما
عليه أن ينهض واقفا على قدميه!
من ضل وضاع، عليه أن يناضل!
من أدرك وضعه، كيف يمكن إيقافه؟
لأن المهزومين اليوم هم المنتصرون في الغد.
وأبدا ومستحيل
تصبح: في هذا اليوم!
عن مسرحية الرءوس المدورة والرءوس المدببة (1931-1934م)
حكاية الساقية
1
عن عظماء هذه الأرض
تخبرنا أغاني الأبطال
أنهم يرتفعون كالنجوم
ويسقطون كذلك كالنجوم.
هذا شيء تتعزى به النفس ولا بد أن يعرفه الإنسان.
لكننا نحن الذين فرض علينا أن نطعمهم.
قد كان صعودهم وسقوطهم بالنسبة لنا على حد سواء.
ارتفعوا أم سقطوا: من الذي يتحمل النفقات؟
بالطبع تدور تدور العجلة دوما.
والأعلى لا يبقى للأبد الأعلى.
ويظل الماء - هنا في الأسفل - واأسفا
يدفع للأبد العجلة ويكد ويشقى.
2
آه! كان لنا أسياد كثيرون.
منهم النمور والضباع.
ومنهم النسور والخنازير.
مع ذلك كنا نطعم هذا وذاك.
وسواء كانوا أفضل أو أسوأ،
فالحذاء كان يشبه الحذاء باستمرار،
وكان يدوس علينا. إنكم لا شك تفهمون:
لا أقصد أننا نحتاج سادة آخرين،
بل إننا لا نحتاج لأي سيد على الإطلاق!
بالطبع تدور تدور العجلة دوما.
والأعلى لا يبقى للأبد الأعلى.
ويظل الماء - هنا في الأسفل - واأسفا
يدفع للأبد العجلة، ويكد ويشقى.
3
وهم يقطعون رءوس بعضهم وتسيل الدماء،
يتصارعون دائما على الفريسة.
يصفون غيرهم بأنهم حمقى نهمون،
وينعتون أنفسهم بأنهم طيبون،
ونراهم ينتقمون من بعضهم ويحاربون
بعضهم بلا انقطاع.
لكن عندما نرفض أن نطعمهم،
عندئذ، وعندئذ فقط، نجدهم فجأة يتحدون.
بالطبع تدور تدور العجلة دوما
والأعلى لا يبقى للأبد الأعلى.
ويظل الماء - هنا في الأسفل - واأسفا
يدفع للأبد العجلة ويكد ويشقى.
عن مسرحية الأم شجاعة وأبنائها (1939م)1
أغنية سليمان
1
رأيتم سليمان الحكيم،
وتعرفون ما جرى له.
كل شيء كان واضحا عنده وضوح الشمس.
لعن الساعة التي ولد فيها،
ورأى أن الكل باطل.
كم كان سليمان عظيما وحكيما!
وانظروا، لم يكن الليل قد جاء
حتى رأى العالم النتائج:
الحكمة قد ذهبت به بعيدا جدا!
محسود من يخلو منها!
2
رأيتم قيصر الجسور،
وتعرفون ما جرى له.
جلس على المذبح كإله
وقتل كما سمعتم.
حين كان في أوج عظمته
صرخ صرخته العالية: حتى أنت يا ولدي!
وانظروا، لم يكن الليل قد جاء
حتى رأى العالم النتائج:
الجسارة قد ذهبت به بعيدا جدا!
محسود من يتخلص منها!
3
تعرفون سقراط المخلص الأمين،
الذي أعلن الحقيقة على الدوام:
لكنهم لم يعترفوا بفضله،
بل غدر به الكبار وتآمروا عليه،
وحكموا عليه بأن يشرب كأس السم.
كم كان المخلص الأمين،
ابن الشعب العظيم!
وانظروا، لم يكن الليل قد جاء
حتى رأى العالم النتائج:
الأمانة والإخلاص قد ذهبا به بعيدا جدا!
وجدير بالحسد من تحرر منهما!
4
القديس مارتن، كما تعلمون،
لم يكن يحتمل رؤية الآخرين
وهم يقاسون المحن ويعانون.
لمح في الثلج أحد الفقراء
فقدم له نصف معطفه،
وتجمد كلاهما من البرد ومات.
لم ينتظر الرجل من الأرض وأهلها أي جزاء!
وانظروا، لم يكن الليل قد جاء
حتى رأى العالم النتائج:
الإيثار ذهب به إلى البعيد البعيد!
محسود من أخلى منه قلبه!
5
ها أنتم أولاء ترون أناسا محترمين
متمسكين بالوصايا العشر.
لم ينفعنا ذلك حتى الآن.
يا من تجلسون بجوار الموقد وتتدفئون،
ساعدونا على تخفيف محنتنا!
لكم كنا مخلصين للصليب أتقياء صالحين!
وانظروا، لم يكن الليل قد جاء
حتى رأى العالم النتائج أمامه:
التقوى ذهبت بنا بعيدا بعيدا!
محسود من أفرغ منها القلب!
أغنية للمهد
آيا بويا با
ماذا في القش يخشخش؟
أبناء الجار ينوحون،
وانا أبنائي فرحون.
أبناء الجار عرايا،
وثيابك أنت حرير.
من معطف ملك من نور.
أبناء الجار بلا لقمة،
وأمامك يا ولدي «التورتة».
إن لم تك في فمك طرية
فتكلم، أسمعني كلمة!
آيا بوبا با
ماذا في القش يخشخش؟
ابن يرقد في «بولندا»،
والآخر ... من يدري أين؟
عن مسرحية محاكمة لوكولوس (1939م)1
ولدي سقط في الحرب
ولدي
سقط في الحرب.
كنت بائعة سمك في السوق.
2
قيل لنا يوما إن السفن العائدة
من الحرب في آسيا قد وصلت (للميناء).
جريت من السوق ووقفت على شط «التيبر» ساعات،
حتى أخلوا السفن من الركاب.
ولم يكن ولدي على ظهرها.
وبسبب الزحمة في الميناء
هدتني في الليل الحمى
في بحران الهذيان.
رحت أفتش عن ولدي.
وكلما أوغلت في البحث عنه،
ازداد شعوري بالبرد اللاسع حتى مت
وجئت هنا إلى مملكة الظلال،
وواصلت البحث.
ناديت عليه يا فابر - إذا كان هذا هو اسمه -
فابر، يا ولدي فابر،
يا من حملت في بطني،
يا من ربيت!
يا ولدي فابر!
وجريت جريت وسط الظلال والأشباح،
وأنا أنادي على فابر
حتى أمسكني من كم ردائي بواب
يقف هناك في معسكر ضحايا الحرب.
قال لي: أيتها العجوز! هنا أكثر من فابر.
أبناء أمهات بلا حصر.
كثيرون هم ومفتقدون،
لكنهم نسوا أسماءهم؛
إذ لم يكن لها من فائدة
إلا أن يرتبوهم في صفوف الجيش.
ولم يعد لها ضرورة في مملكة الظلال.
وهم لا يريدون أن يقابلوا أمهاتهم
منذ أن تركنهم للحرب الدموية.
وقفت هناك والرجل لا يزال يمسك بكمي.
وندائي وقف في حلقي .
استدرت راجعة في صمت؛
إذ لم تبق في نفسي رغبة
في مقابلة ولدي وجها لوجه.
عن مسرحية «الإنسان الطيب من ستشوان» (1938-1940م)
من خواطر «شن تي» عندما آوى إليها الفقراء
هم فقراء
بلا مأوى
وبلا أصحاب،
يحتاجون لأحد يقف بجانبهم.
كيف أقول لهم لا؟!
هم أشرار
ليس لهم أصحاب أو خلان.
لا يعطون لأحد صحفة أرز
هم أنفسهم محتاجون إليها .
من يلقي الذنب عليهم،
ويوجه لهم اللوم؟!
إن سارع قارب إنقاذ،
جرفوه معهم للقاع،
كقطيع يغرق في الماء،
ويشد المنقذ والراعي
في غضب كي يغرق معهم.
يهوي في اللجة واليم.
أغنية عن التسامح
بقليل من التسامح تتضاعف الطاقات.
انظر، البغل الذي يجر العربة
يتوقف أمام حزمة من العشب.
بمجرد النظر - في - الأصابع،
يستأنف البغل سيره بصورة أفضل.
في شهر يونيو تحتاج الشجرة لقليل من الصبر،
ولا يأتي شهر أغسطس حتى تنحني مثقلة بثمار الخوخ.
كيف يمكننا أن نعيش معا بغير صبر؟
بشيء من التسامح
تتحقق أبعد الأهداف.
في مواجهة البؤس
في بلادنا
لا يصح أن يوجد أي مساء عكر حزين،
ولا أن تمتد جسور فوق الأنهار،
حتى الساعة التي تفصل الليل عن النهار،
مع فصل الشتاء بأكمله.
كل ذلك يحمل معه أشد الأخطار.
ففي مواجهة الضنك والبؤس
يكفي أقل القليل؛
لكي يتخلص الناس
من الحياة التي لا تطاق.
آه أيها التعساء
آه، أيها التعساء!
أخوكم يضرب ويعذب، وأنتم تغمضون الأعين!
المنكوب يصرخ بأعلى صوت، وأنتم صامتون؟
الجبار الظالم يتجول هنا وهناك
ويختار ضحيته.
أما أنتم فتقولون: سوف يبتعد عنا
لأننا لا نعترض على شيء
ولا نمتعض من شيء.
أي مدينة هذه؟
أي بشر أنتم؟!
عندما يرتكب الظلم في مدينة،
فلا بد من التمرد.
وحيث ينعدم التمرد،
فالأفضل أن تسقط المدينة،
أن تحرقها النار
قبل حلول الليل!
أي عالم هذا؟
أي عالم هذا؟
العناق يتحول إلى الخنق.
تنهدات الحب تتحول إلى صرخات الفزع.
لماذا تدور الصقور دورتها هناك؟
لأن واحدة تذهب إلى هناك في موعد غرامي!
أريد أن أذهب مع من أحب
أريد أن أذهب مع من أحب.
لا أريد أن أحسب كم يكلفني هذا.
لا أريد أن أفكر بعقلي، إن كان هذا خيرا.
لا أريد أن أعرف، إن كان يبادلني الحب.
أريد أن أذهب
مع من أحب.
هذا خير
ألا نترك أحدا يهلك نفسه،
وكذلك ألا نهلك أنفسنا.
أن نسعد كل الناس،
بما في ذلك أنفسنا،
هذا خير
هو كل الخير!
النشيد الختامي الثاني (لمسرحية الإنسان الطيب من ستشوان)
أيها المشاهد، اعلم أن عاصمة ستشوان - التي لم يستطع أحد فيها
أن يعيش وأن يكون خيرا في وقت واحد -
لم يعد لها وجود.
لقد كان من الضروري أن تسقط،
لكن هناك مدنا أخرى كثيرة تشبهها
إذا قدم الإنسان فيها الخير،
افترسه أقرب فأر.
أما الشر فله هناك ثمن مجز.
أيها المشاهد،
إن كنت تسكن في مدينة كهذه،
فحاول أن تغير بناءها بسرعة،
قبل أن تلتهمك أنت.
ما من سعادة على وجه هذه الأرض
تفوق في عمقها وعظمتها
سعادة أن تكون خيرا،
وأن تفعل الخير.
عن مسرحية «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» (1940م)
حكاية غنائية عن حارس الغابة والدوقة
في بلد السويد
كانت تعيش دوقة
جميلة جدا،
شاحبة جدا.
يا أيها الحارس!
يا أيها الحارس!
رباط جوربي انخلع.
رباطه انخلع ...
رباطه انخلع ...
يا أيها الحارس
اركع على الأرض.
اركع على الأرض.
واربطه لي حالا!
سيدتي الدوقة!
سيدتي الدوقة!
لا تنظري إلي،
فإنني أخدمكم
للقمة العيش.
نهداك بيضاوان
كطلعة الفجر،
لكنها البلطة
يهوي بها الجلاد
يوما على رأسي
باردة كالثلج،
باردة كالثلج.
الحب ما أحلاه،
وما أمر الموت!
هرب الحارس
في نفس الليلة.
ركب جواده
وجرى للبحر.
يا أيها الملاح!
يا أيها الملاح!
خذني بقاربك.
خذني بقاربك
لآخر البحر ...
لآخر البحر ...
كانت هناك ثعلبة
تحب ديكا رائعا.
يا حبي الذهبي،
ترى تحبني
كمثل حبي لك؟
كان المساء حلوا
وطلع الفجر،
وطلع الفجر.
وكان كل ريشه
معلقا على الشجر ...
معلقا على الشجر ...
الحب ما أحلاه!
وما أمر الموت!
أغنية بونتيلا
1
السيد بونتيلا سكر ثلاثة أيام
في فندق تافا ستهوز،
وعندما هم بالانصراف،
لم يقف النادل ليحييه.
آه يا جرسون! هل هذه أخلاق؟
أليس العالم عجيبا؟ هه؟
النادل تكلم وقال:
لا أستطيع أن أوافقك؛
فقدماي تؤلماني من الوقوف.
2
ابنة صاحب الضيعة
قرأت رواية واستمتعت بها،
ثم احتفظت بها، إذ كان مؤلفها يقول
إنها كائن علوي،
لكنها ذات يوم قالت للسائق
ونظرت إليه نظرة غريبة:
تعال، داعبني أيها السائق؛
فقد سمعت أنك أنت أيضا رجل.
3
وبينما كان السيد بونتيلا يتنزه،
رأى إحدى البنات التي تستيقظ في البكور.
أخ يا راعية البقر! يا ذات الصدر الأبيض.
قولي لي: إلى أين تذهبين؟
يبدو أنك ذاهبة لتحلبي أبقاري
من الفجر والديكة تصيح.
لكن يجب ألا تستيقظي من الفراش من أجلي،
بل يجب أيضا أن تذهبي معي إلى الفراش!
4
في ضيعة بونتيلا يحبون دخول الحمام؛
فهو المكان الذي يتسلون فيه.
وفي بعض الأحيان يدخل أحد الأتباع،
عندما تكون الآنسة هناك.
السيد بونتيلا تكلم وقال:
سأزوج ابنتي من الملحق الدبلوماسي.
لن يقول شيئا إذا رأى التابع معها؛
لأنني سأدفع كل ديونه.
5
ابنة صاحب الضيعة دخلت مرة
إلى المطبخ في الساعة التاسعة والنصف ليلا.
أيها السائق، رجولتك تسحرني.
تعال معي نصطاد الكابوريا.
السائق قال: آه يا آنستي،
لا بد أن يحدث معك شيء، وهذا ما أراه.
لكن ألا ترين يا آنستي
أنني الآن أقرأ الجريدة؟
6
رابطة عرائس السيد بونتيلا
ظهرت في حفلة الخطوبة.
وما كاد السيد بونتيلا يراهن
حتى صاح في وجوههن:
هل رأى أحد خروفا يلبس رداء من الصوف
منذ أن بدءوا يجزون الخراف؟
أنا أنام معكن، لكن لا تطمعن
في أن تأكلن يوما على مائدتي.
7
نساء كورجيلا، كما يقال،
غنين أغنية ساخرة،
لكن أحذيتهم ذابت من المشي.
ويوم الأحد ضاع عليهن.
والذي يثق في كرم الأغنياء
يحب أن يفرح، لأنه لم يخسر غير الحذاء؛
لأنه هو الذي جنى هذا على نفسه.
8
السيد بونتيلا ضرب بيده على المائدة وصاح - وكانت مائدة الزفاف -
لن أزف ابنتي، كما يقال،
لسمكة باردة.
هنا أراد أن يزوجها لتابعه ،
لكنه حين سأل التابع قال:
أشكرك، لا أستطيع يا سيدي؛
فهي لا تناسب سائقا مثلي.
عن مسرحية الصعود الذي يمكن أن يوقف ل «أرتورو أوي» (1941م)1
الخاتمة (الإبيلوج)
أما أنتم فتعلموا كيف يصبر الإنسان بدلا من أن يحملق،
وكيف يعمل ويتصرف بدلا من أن يثرثر ويثرثر.
مثل هذا المخلوق أوشك أن يحكم العالم!
غير أن الشعوب قد تمكنت منه.
ومع ذلك لا يصح أن يفرح أحد بالنصر قبل الأوان؛
فلم يزل خصبا ذلك الرحم
الذي زحف منه هذا المخلوق.
عن مسرحية رؤى سيمون ماشار (1941-1943م)
يا ابنة فرنسا، لا تخشي شيئا
يا ابنة هذا الوطن فرنسا،
لا تخشي شيئا.
لن يبقى أحد شن الحرب عليك.
كل يد تمتد إليك بعدوان
ستجف سريعا.
أي مكان حملوك إليه سواء؛
إذ كل مكان يحويك فرنسا.
بعد قليل
تنهض واقفة
في أبهى روعة.
عن مسرحية شفايك في الحرب العالمية الثانية
(1943م)
وماذا تلقت زوجة الجندي؟
وماذا تلقت زوجة الجندي
من براغ العاصمة القديمة؟
من براغ تلقت حذاء «بكعب عال»،
تحية وحذاء «بكعب عال».
تلقتهما من مدينة براغ.
وماذا تلقت زوجة الجندي
من وارسو على شاطئ الفستولا؟
من وارسو تلقت القميص الشفاف،
ملون وعجيب هذا القميص البولندي!
الذي تلقته من شاطئ الفستولا.
وماذا تلقت زوجة الجندي
من أوسلو على نهر الزوند؟
من أوسلو تلقت ياقة من الفراء؛
عسى أن تعجبها ياقة الفراء،
التي تلقتها من أوسلو على شاطئ الزوند!
وماذا تلقت زوجة الجندي
من روتردام الغنية؟
من روتردام تلقت القبعة.
وهي تليق عليها، هذه القبعة الهولندية
التي تلقتها من روتردام.
وماذا تلقت زوجة الجندي
من بروكسل البلجيكية؟
من بروكسل تلقت الدنتلا النادرة.
آه ما أبدع هذه الدنتلا النادرة
التي تلقتها من بلاد البلجيك!
وماذا تلقت زوجة الجندي
من باريس مدينة النور؟
من باريس تلقت ثوبا من الحرير،
والجارات حسدنها على ثوب الحرير
الذي تلقته من باريس.
وماذا تلقت زوجة الجندي
من طرابلس الليبية؟
من طرابلس تلقت السلسلة الصغيرة،
والتميمة على السلسلة النحاسية،
تلقتها من طرابلس.
وماذا تلقت زوجة الجندي
من روسيا البعيدة؟
من روسيا تلقت نقاب الأرامل.
نقاب الأرامل الأسود.
تلقته من روسيا البعيدة.
عن مسرحية دائرة الطباشير القوقازية (1943-1945م)
عندما ينهار بيت واحد من الكبار
يقضي على كثير من الصغار،
والذين لم يشاركوا العظام حظهم السعيد،
يشاركونهم في الغالب حظهم التعيس.
العربة التي تهوي (في المنحدر)،
تشد معها الحيوانات التي تجرها، وهي تتصبب عرقا،
إلى الهاوية.
يا لعمى الكبار
يا لعمى الكبار!
إنهم يمشون كأنهم مخلدون عظام
فوق رقاب محنية،
واثقين من القبضات المؤجرة،
واثقين من السلطة التي دامت وقتا طويلا.
لكن الوقت الطويل لا يعني الأبدية.
يا تغير الأزمان! يا أمل الشعب!
سوف أنتظرك
اذهب أنت في أمان للمعركة
يا جندي،
المعركة الدموية، المعركة المرة
التي لا يرجع منها كل إنسان.
عندما ترجع، سأكون في انتظارك.
سأنتظرك تحت شجرة الدردار الخضراء.
سأنتظرك تحت شجرة الدردار العارية.
سأنتظرك حتى يرجع آخر العائدين،
وبعد عودته أيضا.
إذا رجعت من المعركة
لن تجد حذاء أمام الباب.
ستكون المخدة التي بجانبي خالية،
وفمي لم يقبله أحد.
عندما تعود
سيكون في إمكانك أن تقول:
كل شيء على حاله القديم.
من أغاني جروشا أثناء التجوال
1
أربع جنرالات
زحفوا بالجيش إلى إيران.
الأول لم يدخل حربا،
الثاني لم يحرز نصرا،
والثالث وجد الطقس رديئا،
والرابع خذلته جنوده.
أربع جنرالات
لم يبلغ أحد هدفه.
سوسو روياكيدس
زحف إلى إيران،
وخاض الحرب المرة،
وانتصر بسرعة.
أبلى الجند بلاء حسنا.
سوسو روياكيدس
هو قائدنا.
2
ولدي
الهوة أعمق مما تتصور،
والدرب عسير متعثر،
لكنا لا نختار بأنفسنا الدرب،
لا يا ولدي.
يجب عليك
أن تسلك دربك.
وأنا اخترت الدرب.
يجب عليك
أن تأكل خبزك.
والخبز حفظت لأجلك.
يجب علينا
أن نقتسم اللقمة
إن كانت أربع كسرات،
فثلاث منها لك.
هل تكفي
أن تشبع بطنك؟
لن أعرف أبدا يا ولدي.
3
أمك عاهرة،
واللص أبوك.
مع ذلك
فسيركع لك
أشرف شرفاء الدنيا.
ابن النمر سيطعم
بيديه صغار الخيل.
وابن الحية يجلب
معه اللبن لأمه.
عن مسرحية من العدم يكون العدم (1929-1930م)
أغنية من العدم يكون العدم
1
انظروا، كيف يصعد!
إنه يرتفع بغير توقف،
ويضع الشمس في يديه.
الآن يصعد إلى أعلى.
اسمه: قيصر!
أنصتوا لما يقول!
الآن يقول: أنا أساعدكم!
لكنه في الحقيقة
لا يساعد إلا نفسه.
أما أنتم
فيضطهدكم.
لكنكم تخافون منه.
من هو؟
لا تخافوا!
انظروا إليه
انتظروا
إنه عدم!
إنه لن يعمر طويلا.
إنه لا يعرف نفسه.
هو وحده لا شيء.
هو لا شيء!
2
انظروا، كيف صعد!
ارتفع بغير توقف،
وضع الشمس في يديه.
لقد طالما صعد،
ودائما تغير اسمه.
كثيرا ما قال: أنا أساعدكم،
لكنه في الحقيقة
لم يساعد إلا نفسه.
أما أنتم،
فكان يضطهدكم،
لكنكم
تخافون منه.
من كان؟
لم يعمر طويلا.
لم يعرف نفسه.
كان وحده لا شيء.
كان لا شيء!
3
انظروا، كيف ينحدر!
يسقط دون توقف.
الفراغ في يديه.
هو الآن ينحدر.
أنصتوا لما يقول!
إنه الآن يقول:
من يساعدني؟
سرعان ما تسمعون من جديد:
إنه يتقدم بغير توقف،
والشمس في يديه.
سرعان ما يصعد إلى أعلى.
سرعان ما يكون اسمه: من يدري ماذا يكون؟
سرعان ما يقول: أنا أساعدكم!
لا تخافوا!
تطلعوا إليه،
انتظروا
إنه عدم!
إنه لا يعمر طويلا.
إنه لا يعرف نفسه.
هو وحده لا شيء.
هو لا شيء!
قصائد أخرى
أغنية المرأة
1 (1) في المساء، على شاطئ النهر، في قلب الأغصان المعتم.
أرى في بعض الأحيان وجهها من جديد، وجه المرأة التي أحببتها، امرأتي التي ماتت. (2) انقضت أعوام كثيرة، وفي بعض الأحيان لا أعرف عنها شيئا، وهي التي كانت لي كل شيء، لكن كل شيء يزول. (3) وكانت تسكن في نفسي مثل أشجار العرعر في مراعي منغوليا، حبلى بالمياه الذاوية الصفراء وبالحزن العظيم. (4) كنا نقيم في كوخ أسود على ضفة النهر، الذباب اللاسع كان كثيرا ما يلسع جسدها الأبيض، وكنت أقرأ الجريدة سبع مرات أو أقول: شعرك قذر، أو أقول: أنت بلا قلب. (5) لكن ذات يوم، وأنا أغسل قميصي في الكوخ، سارت إلى الباب ورنت إلي بعينيها وأرادت أن تخرج. (6) والذي ظل يضربها حتى تعبت، قال: يا ملاكي. (7) والذي قال: أحبك، سار معها إلى الخارج وتطلع مبتسما في الهواء، وامتدح الطقس ومد إليها يده. (8) لما خرجت في الهواء، وسادت الوحشة في الكوخ، أوصد الباب وجلس يطالع الجريدة. (9) من ذلك اليوم لم ترها عيناي، ولم يبق منها غير صرخة صغيرة أطلقتها، حين عادت في الصباح ووقفت أمام الباب الموصد. (10) الآن تهدم الكوخ وحشي الصدر بأوراق الصحف، وأنا أرقد في المساء على ضفة النهر في قلب الأغصان المعتم، وأتذكر. (11) الريح تحمل رائحة العشب في شعرها، والماء يصرخ بلا انقطاع يطلب الراحة من الله، وعلى لساني طعم مرارة.
عندما عمت الشكوى المرة من الكساد
أنا مقتنع تمام الاقتناع
بأن الطقس غدا
أصفي منه اليوم،
أن بعد المطر تطلع الشمس،
أن جاري يحب ابنته،
وأن عدوي رجل شرير.
كذلك لا أشك
في أن أحوالي ستتحسن
عن أحوال الآخرين جميعا،
على وجه التقريب.
كذلك لم يسمعني أحد أقول:
إن الدنيا أيام زمان
كانت أفضل منها اليوم،
أو أن النوع يتدهور،
أو أنه لا توجد نساء
يمكن أن يكفيهن رجل واحد.
أنا في كل هذا
أوسع صدرا، وأكثر إيمانا من الساخطين؛
لأنه يبدو لي
أن هذا كله
لا يدل على شيء.
أغنية السلام
الصاعقة تدوي، والمطر يتساقط،
والريح تحمل السحب بعيدا.
أما الحرب فلم تحملها الريح إلى العالم،
الحرب من صنع البشر.
السلام لا يخضر كالأعشاب والأشجار،
السلام لا يزدهر إلا بمشيئة البشر.
أيتها الشعوب،
أنت أنت قدر العالم،
فتذكري قوتك.
ليست الحرب قانونا طبيعيا،
ولا السلام هبة تقدم إليك.
يجب أن نقهر الحرب.
يجب أن نتجاسر على السلام.
الآن يجب أن نقول للسفاحين: لا، لا، ثم لا.
لن نتخلى عن الحياة.
ويومئذ لن تقوم الحرب.
أغنية عن العماء
2
يا أختي، أخفي وجهك، وأنت يا أخي، أحضر سكينك؛
فالزمن قد خرج عن محوره.
الكبراء يجأرون بالشكوى، والوضعاء مبتهجون فرحون.
المدينة تقول: هيا نطرد الأقوياء بعيدا عنا.
المصالح الحكومية يقتحمها اللصوص، والقوائم المدون عليها أسماء رقيق الأرض تخرب وتدمر .
السادة شدوهم إلى أحجار الطاحون. الذين لم يروا
ضوء النهار أبدا، غادروا بيوتهم.
حطمت صناديق القرابين المصنوعة من خشب الأبنوس، والخشب الرائع النفيس قطعوه وصنعوا منه أسرة.
من لم يكن يملك رغيف الخبز، لديه الآن مخازن للغلال، والذي كان يتسول الحبوب
يتصدق بنفسه اليوم على المحتاجين. (أين أنت أيها القائد؟ أرجوك، أرجوك، أرجوك ، أعد النظام!)
ابن الوجيه المرموق لم يعد من الممكن التعرف عليه، وابن السيدة أصبح ابن أمتها.
كبار المستشارين يبحثون في المخزن عن سقف يحميهم،
من لم يكن يسمح له بالمبيت فوق الأسوار، يتمطى الآن في الفراش.
من كان يسحب القارب بالمجداف، يمتلك السفن الآن، وإذا نظر
إليها مالكها الأصلي، عرف أنها خرجت عن يده.
خمسة رجال أرسلهم سادتهم. إنهم يقولون: اسلكوا الطريق
بأنفسكم، لقد وصلنا. (أين أنت أيها القائد؟
إليك أتوسل، أتوسل، أتوسل: أعد النظام!)
Page inconnue