ونرى، قبل أن ندرس الصفات المشتركة لأكثرية الهندوس فنشير إلى الأسباب التي أوجدتها، أن نأتي بتقسيمات قليلة أساسية للعروق الكثيرة التي وصفناها فيما تقدم على انفراد، فبعد أن نصنع هذا على طريقة التحليل نبدأ بالدرس على طريقة التركيب.
يؤدي البحث الخاطف إلى إمكان تكتيل جميع تلك العروق في ثلاثة تقسيمات أساسية كبيرة، فأما التقسيم الأول فيشتمل على العروق التي لم تنل بصيصا من أية حضارة فتجلت فيها آثار سكان الهند الفطريين الأصليين، فليس هؤلاء السكان الفطريون القاطنون في الجبال أو في المناطق المنعزلة إلا أقلية ضعيفة، وهم من شدة الاختلاف عن بقية سكان شبه جزيرة الهند ما لا يحتشدون بها معهم، فلهذا لا نفكر في أمرهم هنا.
وأما التقسيم الثاني فيشتمل على الهندوس الحقيقيين الذين هم، كما نعلم، نتيجة توالد عروق بيض أو صفر مع السكان السود الأصليين، فهؤلاء الهندوس إذ كانوا على شيء من التمازج في غضون القرون فإنهم مجموع من الزمر المتباينة بنسبة العناصر التي تتركب كل واحدة منها، وهذا مع القول إن البيئات المادية والأدبية الواحدة التي خضعت تلك الزمر لأحكامها منذ زمن طويل والمعتقدات الواحدة التي اعتنقتها قد وسمتها بعدد من الصفات المشتركة، وإنه على تلك الزمر التي تتألف منها أكثرية الهند الساحقة تنطبق هذه الصفات المشتركة التي نرى أن نبحث فيها.
وأما التقسيم الثالث فيشتمل على السكان المسلمين الذين هم نتيجة توالد العرب والأفغان والفرس والتركمان والمغول وغيرهم من الذين غزوا الهند في مختلف الأدوار فانتهوا إلى فتحها، وكان يصعب خلط هؤلاء المسلمين بزمر التقسيم المذكور آنفا لو ظلوا خلصا بعيدين من كل توالد، بيد أنك لا تجد بين الملايين الخمسين الذين يدينون بالإسلام في الهند سوى أناس قليلين لا تجري في شرايينهم دماء هندوسية، فهؤلاء المسلمون، وإن كانوا يختلفون عن زمر ذلك التقسيم الثاني في غير ناحية، أكثر تأثرا بهذه الزمر من تأثيرهم فيها، فإذا كان جميع الصفات العامة التي نذكرها فيما يأتي لا ينطبق على المسلمين فإن كثيرا من هذه الصفات مشترك بينهم وبين تلك الزمر مع ذلك.
إن المؤثرات التي أسفرت عن صفات مشتركة هي مادية وأدبية معا.
ويمكن تلخيص المؤثرات المادية في بضع كلمات: فمن هذه المؤثرات نذكر الجو الحار الذي لا يعد الإنسان إلى الأعمال القاسية، بل يسهل عليه أمر زراعة الأرض الذي وقف أكثر السكان به نفوسهم عليه من جهة، ويؤدي إلى اعتمادهم على النظام النباتي في أمر الغذاء من جهة أخرى، فالهندوسي يكاد لا يغتطي، ويقتصر في طعامه على قليل من النبات ويرتوي بماء صاف، ويعيش عن سعة ببضعة دوانق مياومة، فارتفاع درجة الحرارة في بلد الهندوسي، إذ يؤدي إلى زهد الهندوسي في الطعام واللباس، لا يجد الهندوسي به الحافز الحاجي الذي يزيل به كسله الطبيعي.
ونشأ عن تأثير البيئات المادية المتماثلة وتكرر الأعمال الواحدة طرق للمعايش متشابهة بحكم الضرورة، ثم ثبت أمر هذه المعايش المتشابهة بمؤثرات أدبية واحدة أهمها نظام الطوائف والنظام السياسي والمعتقدات الدينية.
ونظام الطوائف هو حجر الزاوية لجميع نظم الهند الاجتماعية منذ ألفي سنة، وبلغ نظام الطوائف من الأهمية ما وقفنا به مطلبا خاصا من هذا الكتاب على البحث فيه، فسنرى في هذا المطلب ما هي الأسباب الإثنولوجية التي أوجبته في غابر الأزمان، وما هي الأسباب التي حلت محل تلك بالتدريج فدام بها مع تتابع القرون، وسنرى كيف أسفر ذلك النظام عن تقسيم الهند إلى ألوف من الجمهوريات الصغيرة غير مبال بعضها بشئون بعض، أو معاد بعضها لبعض، ومنفصل بعضها عن بعض في المشاعر انفصالا يتعذر معه أن تكون ذوات مآرب مشتركة، وسنرى كيف أن طائفة الهندوسي، لا الهند، هي وطن الهندوسي الحقيقي، وكيف أن طائفة الهندوسي قد أحاطته بشبكة من التقاليد والعادات إحاطة ثبت أمرها بالوراثة فأضحى خروجه منها صعبا إلى الغاية.
وأدى النظام السياسي، الذي هو ثاني المؤثرات المذكورة آنفا، وذلك في غضون القرون، إلى مثل ما أدى إليه نظام الطوائف في تكوين روح الهندوسي، ويمكن تعريف نظام الهند السياسي السائد منذ زمن طويل بأنه يتألف من جماعات صغيرة تعرف بالطوائف، وأن هذه الطوائف متجمعة على شكل جمهوريات صغيرة تعرف بالقرى الخاضعة لسيد واحد ذي سلطان مطلق، وعلى ما اعتور اسم السيد من تبدل لم يتغير ذلك النظام الذي بلغ من الديمومة ما وهنت به روح المقاومة في الهندوسي فتعود الهندوسي مع القرون أن يطيع سلطة سيد إطاعة تامة، سائرا وفق المعتقدات الدينية.
ونذكر التعاليم الدينية، التي هي ثالثة المؤثرات، مما أوجب اتصاف الهندوس بأخلاق متماثلة، ولا يستطيع الأوربي أن يدرك تأثير الدين العظيم في الهندوس إلا إذا حققه بنفسه، فأكثر الأوربيين تدينا يفرق بين المقدس والمدنس تفريقا لا يفهمه الهندوسي الذي يعتقد أن الآلهة تنظر في أدق شئونه وأن تعاليم الدين تهيمن على جميع أعماله، فالدين، بالحقيقة، كل حياته إن لم يكن جزءا منها، فما السعي والأكل والنوم عند الهندوسي إلا أعمال دينية، وكل شيء ما خلا أوامر الدين باطل لديه، والدين هو الذي يوجهه، ولم يرض بلقاح الجدري، مثلا، إلا بعد أن اكتسب شكلا دينيا، ونحن، حين البحث في تكوين أديان الهند، نثبت مقدار الفراغ الذي تملؤه الأديان في حياة الهندوس، ومقدار عد الهندوس لكل سلطة عنوان قدرة إلهية، وهنا، كما في أمور كثيرة أخرى، نتمثل الهوة العظيمة التي تفصل الشرق عن الغرب في كل أمر، والتي لم تفتأ تزيد اتساعا.
Page inconnue