وداومت مصر في زمن البطالمة على تقاليدها القديمة، وعاشت فيه عيش رغد ورخاء، وصارت الإسكندرية فيه مركزا تجاريا مهما وملجأ ثقافيا، وأقيمت فيه أبنية عظيمة على الطراز الفرعوني، كما تشهد بذلك بعض تلك الأبنية التي لا تزال قائمة في جزيرة الفيلة، فتعد مصدقة لما قلناه من انتحال جميع الفاتحين الجدد لتقاليد المصريين، وأنت إذا ما استثنيت المدن الإغريقية الرومانية التي أقيمت في مصر، كالإسكندرية مثلا، لم تكد تشعر بأي تأثير كان لأولئك الغزاة في مصر.
شكل 4-4: منظر القاهرة، ويرى مسجد قاغباي في أول الصورة (من صورة فوتوغرافية).
وعندما أصبحت النصرانية دين دولة القسطنطينية الرسمي أمر القيصر ثيودوز، في سنة 389م، بهدم جميع تماثيل الآلهة المصرية القديمة ومعابدها وجميع ما يذكر الناس بها، واكتفى بتشويه كتابات المعابد المصرية التي كانت من المتانة بحيث لم يقدر على هدمها بسهولة.
ولا تزال مصر ملأى بأنقاض ذلك التخريب الذي أملاه التعصب، وتعد تلك الأعمال من أفظع ما عرفه التاريخ من أثر عدم التسامح والبربرية، ومن دواعي الأسف أن كان من بواكير أعمال ناشري الدين الجديد، الذي حل محل دين الأغارقة والرومان، هدم المباني التي احترمها أكثر الفاتحين منذ خمسة آلاف سنة.
وأدت هذه الأعمال الوحشية بسرعة إلى إمحاء الحضارة المصرية، وزوال دور الخط الهيروغليفي الذي حلت رموزه في الزمن الحاضر، وأكرهت مصر على انتحال النصرانية، وهبطت بذلك إلى دركات الانحطاط مقدارا فمقدارا إلى أن جاء العرب.
وكان قيصر الروم هرقل سيد مصر حينما حاول العرب فتح مصر بقيادة أحد رجال الخليفة الثاني، وكان أشد البؤس والشقاء مما تعانيه مصر التي غدت ميدان قتال للمذاهب النصرانية، وكانت هذه المذاهب تكثر في ذلك الزمن وتتلاعن وتتقاتل.
وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية، ونهكتها مظالم الحاكم تحقد أشد الحقد على سادتها الكئيبين، وكانت تعد من يحررونها من أيدي قياصرة القسطنطينية منقذين، فحفظ هذا الشأن للعرب.
تلك هي حال مصر عند ظهور أتباع النبي، ولنتكلم عن طرق حياتها الخاصة في ذلك الزمن:
يجب أن ننتقل إلى وادي النيل؛ لكي نطلع على أخلاق قدماء المصريين، وطرق حياتهم، ولأرض مصر وجوها من الخواص الثابتة بتقادم الزمن ما جعل الحياة فيها غير متحولة، ووصف مصر الحاضرة وسكانها المعاصرين يتضمن تمثل ما كان عليه وادي النيل وأهلوه عندما ظهر العرب في هذا القطر.
من المعلوم أن مصر هي الوادي الضيق الذي أوجده النيل في سواء الصحراء، ويبلغ طول هذا الوادي مستقيما من الشلال الأول الواقع على حدود بلاد النوبة إلى البحر نحو مئتي فرسخ، ويبلغ طوله معوجا من ذلك الشلال إلى البحر أكثر من ثلاثمائة فرسخ.
Page inconnue