وسأل عبد الملك بن مروان مسلمة بن اليزيد، وكان من المعمرين، فقال: أي الملوك رأيت أكمل، وأي الزمان رأيت أفضل؟ فقال: أما الملوك فلم أر إلا حامدًا أو ذامًا، وأما الزمان فيضع أقوامًا، ويرفع أقوامًا، وكلهم يذم زمانه، لأنه يبلي جديدهم، ويفرق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم.
ودخل على القاضي إياس، وهو في مجلس القضاء - عدي بن أرطاة فقال له: أين أنت؟ فقال إياس: بينك وبين الحائط، فاسمع مني قال: للاستماع جلست، قال: أين رجل من الشام، قال: نائي المحل، سحيق الدار، قال: وتزوجت امرأة، قال: بالرفاء والبنين، قال: وولد لي غلام، قال: ليهنك الفارس، قال: وأريد الرجوع إلى وطني، قال: في حفظ الله، قال: وشرطت لأهلها ألا أخرجها من بينهم، قال: أوف لهم بالشرط، قال: فاقضي بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من قضيت؟ قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك.
وهذا إياس الذي يضرب به المثل في الذكاء والفطنة، وأول ما ظهر من ذكائه، أنه دخل دمشق، وهو غلام، فتحاكم عند قاضيها، مع شيخ. فصال إياس بحديثه على الشيخ، فقال القاضي: إنه شيخ كبير، فاخفض من كلامك. فقال له إياس: الحق أكبر منك: فقال له القاضي: اسكت، قال: ومن ينطق بحجتي؟ قال القاضي: ما أراك تقول إلا حقًا، قال له إياس: لا إله إلا الله أحق هذا أم باطل؟ فحكم القاضي بينهما، وانصرف.
ولما دخل عبد الملك البصرة، رأى إياسًا وهو صبي، وخلفه أربعة من القراء، أصحاب الطيالسة والعمائم، وإياس يقدمهم فقال عبد الملك: أما فيكم شيخ يقدمكم غير هذا الحدث؟ ثم التفت إليه وقال: كم سنك؟ قال: سني - أطال الله بقاء الأمير - سن أسامة بن زيد حين ولاه رسول الله ﷺ جيشًا فيه أبو بكر وعمر، فقال: تقدم، بارك الله فيك، وكان سنه سبع عشرة سنة.
وقال المتوكل لأبي العيناء: ما أشد ما عليك في ذهاب بصرك؟ قال: ما حرمته يا أمير المؤمنين من رؤيتك من إجماع الناس على جمالك.
وقيل لأحد المكدين: أتبيع مرقعتك؟ قال: أرأيت صائدًا يبيع شبكته؟ وقال رجل لأعرابي: ما يسرني لو بت ضيفًا لك، قال: لو بت ضيفًا لي لأصبحت أبطن من أمك قبل أن تلدك بساعة.
ودخل أعرابي على معاوية في عباءة فاحتقره. فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، إنما يكلمك من فيها، ثم تكلم، فملأ سمعه بيانًا، ثم خرج، ولم يسله شيئًا، فقال معاوية: ما رأيت رجلًا أحقر أولًا، ولا أجل آخرًا منه.
وتكلم رجل عند عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب، فقال له، وقد أعجبه، ابن من أنت؟ قال: أنا ابن نفسي التي نلت بها هذا المقعد منك، قال: صدقت.
وعرض بعض الأدباء على صاحب له شعرًا، بمحضر جماعة فجعل يعرض عن محاسن الشعر، ويتتبع مواضع النقد حسدًا، فقال له صاحب الشعر: أراك كالذباب تعرض عن المواضع السليمة، وتتبع جروح الجسد.
وروي عن عمر بن الخطاب، أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لا تغالوا صدقات النساء؛ فإنه لا يبلغني عن أحد، أنه ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله ﷺ، أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، فقامت امرأة طويلة فقالت: ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين، قال: ولم؟ قالت: كتاب الله أحق أن يتبع أم قولك؟ قال: كتاب الله، قالت: فإن الله تعالى يقول: (وأتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا) فقال عمر ﵁: امرأة أصاب، ورجل أخطأ، ثم قال: كنت نهيتكم عن أن تغالوا صدقات النساء، فليفعل كل واحد في ماله ما أحب.
وأخرج الحجاج رجلًا من سجنه ليعاقبه، فقال له: سمنت يا غضبان قال: الرفد والرفعة، والخفض والدعة، ومن يكن ضيف أمير المؤمنين يسمن، قال: لأحملنك على الأدهم، قال: مثل الأمير أعزه الله يحمل على الأدهم والورد والمكيث، قال: إنه حديد قال: لأن يكون حديدًا خير من أن يكون بليدًا. قال: اضربوا به الأرض، قال: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) قال: جروه قال: (بسم الله مجراها ومرساها) قال: احملوه على الأيدي فلما حمل، قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) فضحك الحجاج، وقال: غلبنا هذا الحديث الخبيث، خلوه إلى صفحي عنه، قال: (فاصفح عنهم وقل سلام) .
1 / 7