فشبهت كلامها بعقد در، وهي سلكه، فانتثر، بنغمة عذبة رخيمة لو خوطب بها صم الصلاب لانجست، مع وجه يظلم لنوره ضياء العقول، وتتلف في روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير، فلم أتمالك أن خررت ساجدًا، وأطلت، من غير تسبيح، فقلت: ارفع غير مأجور، لا تذم بعدها برقعًا، فلربما انكشف عما يمنع الكرى، ويحل القوى، ويطيل الجوى، من غير بلوغ إرادة، ولا قضاء وطر، إلا الحين المجلوب، والقدر المكتوب، والأمل المكذوب، فبقيت - والله - معقول اللسان عن الجواب، حيران لا أهتدي لطريق الصواب، فالتفت إلى صاحبي فقال، لمار رأى هلعي، كالمسلي عن بعض ما أذهلني: ما هذه الخفة لوجه برقت لك منه بارقة، ولا تدري ما تحته، أما سمعت قول ذي الرمة:
على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الشين لو كان باديا
فقالت: أما ما ذهبت إليه، لا أبا لك، فلا، والله؛ لأني بقول الشاعر أشبه:
منعمة حوراء، يجري وشاحها، ... على كشح مرتج الروادف أهضم
خزاعية الأطراف، مرية الحشا ... فزارية العينين، طائية الفم
لها بشر صاف، وعين مريضة ... وأحسن إيماء بأحسن معصم
من قول الأخرق، ثم رفعت ثيابًا، حتى بلغت بها نحرها، وجاوزت منكبيها، فإذا فضة قد شيبت بماء الذهب، تهتز على مثل قضيب نقا، وصدر عليه كالرمانتين، وخصر لو رمت عقده لانعقد، منطوي الاندماج، على كفل رجراج، وسرة مستديرة، يقصر فهمي عن بلوغ نعتها، وفخذان لفاوان، وساقان تخرسان الخلاخل، وقدمان كأنهما لسانان ثم قالت: أشين ما ترى؟ لا أبالك، قلت: لا، والله، ولكن سبب القدر المتاح، ومقرب من الموت الصراح، فيطبق على الضريح، ويتركني جسدًا بغير روح، قال: ثم خرجت عجوز من الخباء، وقالت: امض لشأنك؛ فإن قتيلها مطلول لا يودي، وأسيرها مكبول لا يفدي، قالت: دعيه، فإنه مثل قول غيلان:
فلا تعبن يومًا محيًا مبرقعًا ... فربتما أشجاك ما أنت عائب
فنحن كذلك، حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل، وكرب داخل، وأنا أقول:
يا حسرتي مما يحن فؤادي ... أزف الرحيل بغربتي وبعادي
1 / 48