Habermas : Une très brève introduction
يورجن هابرماس: مقدمة قصيرة جدا
Genres
هذه النطاقات غير المنظمة للنشاط الاجتماعي توفر مخزونا من المعاني والتفاهمات، وأفقا اجتماعيا للقاءات اليومية بالآخرين. وهذا الأفق هو الخلفية التي يحدث في إطارها الفعل التواصلي. إن استخدام استعارة «الأفق» من علم الظواهر له هدف توجيهي؛ فالأفق يرسم حدود مجال رؤية البشر تحت الظروف الطبيعية. ومجال الرؤية موحد، لكنه ليس كلا كاملا ما دام يستحيل استيعابه كله مرة واحدة. ولا يسعنا استيعاب الأفق بالكامل في مجال رؤيتنا؛ لأننا لا نستطيع أن نرى إلا في اتجاه واحد في كل مرة. والأفق أيضا منظوري؛ فالحدود تتبدل، ولو ببطء، عندما نتحرك. وفي المقابل، فإن حدود أي شكل هندسي أو قطعة أرض تكون ثابتة وقابلة للقياس.
وقياسا على ذلك، تشكل المعاني والتفاهمات المشتركة للعالم المعيش وحدة واحدة وليس مجموعا كليا. وأي جزء من هذه الشبكة يمكن صياغته على هيئة فكرة، لكن يستحيل صياغته كله في آن واحد. إن محتويات العالم المعيش قابلة للمراجعة والتغير، ولكن التغير الذي يحدث في العالم المعيش يكون تدريجيا بالضرورة. لاحظ أن التغير، مع أنه تدريجي، قد يكون مع ذلك راديكاليا وكاملا. لا يوجد أي سبب يعلل أن كل جزء من العالم المعيش لا ينبغي مراجعته أو استبداله في نهاية المطاف. وهذه خاصية يشترك فيها العالم المعيش مع اللغة؛ وهذا الاشتراك لم يكن وليد المصادفة؛ لأن التواصل هو الوسط الذي يوجد فيه العالم المعيش. وضع الفيلسوف أوتو نويرات (1882-1945)، الفيلسوف اللغوي المنتمي إلى مدرسة فيينا، تصورا واضحا لموقفنا اللغوي. إننا على متن قارب في عرض البحر، ولا يمكننا أن نرسو بالقارب في حوض السفن الجاف لنفحصه من الخارج، لكننا نستطيع استبدال أي لوح خشبي معطوب بالقارب مع الإبقاء على القارب في حالة طفو دائم. والشيء نفسه ينطبق على العالم المعيش. استنادا إلى تصور هابرماس، توكل مهمة تنفيذ إصلاحات طفيفة بالعالم المعيش إلى الفعل التواصلي والخطاب.
للعالم المعيش العديد من الوظائف. فهو يوفر السياق للفعل؛ أي إنه يشمل مخزونا من الفرضيات المشتركة والمعارف المسبقة، ومن الأسباب المشتركة التي على أساسها قد يتوصل الفاعلون إلى إجماع. وما دام هذا السياق المشترك في الخلفية أو، على حد قول هابرماس، دون أن يصاغ في شكل فكرة محددة، فسيظل أثره خفيا، لكنه سيؤدي وظيفته؛ ألا وهي جعل التوصل إلى إجماع ممكنا ومعتادا حقا؛ ولذا، من ناحية، فهو قوة للإدماج الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، فإن منظومة الاتفاق التي يكفلها العالم المعيش هي شرط إمكانية التفكير النقدي والاختلاف الممكن.
إجمالا، إن العالم المعيش حفيظ على المعنى الاجتماعي، بمعنى أنه يحد من إمكانية حدوث الشقاق والخلاف وسوء الفهم الذي يصاحب أي حدث من أحداث التواصل والخطاب. كلما وقع فعل تواصلي ناجح، تم التوصل إلى إجماع يصب مرة أخرى في العالم المعيش ويجدده؛ ولذا، فالعالم المعيش يدعم الفعل التواصلي، والفعل التواصلي بدوره يغذي العالم المعيش عن طريق إثراء مخزون المعرفة المشتركة؛ ولذا، فالعالم المعيش قادر على أن يعمل عمل حائط الصد ضد التفكك الاجتماعي؛ إذ يقاوم تشظي المعاني، ويحول دون نشوء تضارب في الأفعال.
وأخيرا، العالم المعيش هو الوسط الذي يحدث فيه الاستنساخ الرمزي والثقافي للمجتمع، وهو الوسيلة التي يتم من خلالها توريث التقاليد، مع أنها تمر عبر العدسات الناقدة للتواصل والخطاب. في الظروف الطبيعية؛ أي في ظل غياب الاضطرابات الاجتماعية الهائلة، يعمل العالم المعيش عمل الوسط في نقل كل أشكال المعرفة وتطويرها؛ المعرفة الفنية والعملية والعلمية والأخلاقية. (2-2) النظام
يشير النظام إلى البنى الرسوبية والأنماط الراسخة للفعل الأداتي. ويمكن تقسيمه إلى نظامين فرعيين مختلفين هما المال والسلطة، وفقا للغايات الخارجية التي تفرضها على الفاعلين. يشكل المال والسلطة «الإعلام الموجه» الخاص بهما (أي آليات التوجيه والتنسيق المتأصلة) للاقتصاد الرأسمالي من ناحية، وإدارة الدولة والمؤسسات ذات الصلة كالخدمة العامة والأحزاب السياسية التي تقرها الدولة من ناحية أخرى. وفقا لهابرماس، تشق أنظمة المال والسلطة لنفسها قنوات عميقة في الحياة الاجتماعية؛ مما يترتب عليه أن الفاعلين يقعون بطبيعة الحال في أنماط راسخة مسبقا من السلوك الأداتي. على سبيل المثال، أي شخص يعمل لدى شركة، سواء أكان من كبار التنفيذيين أو موظفا بسيطا، سيقوده الدور الذي يتقلده إلى أنماط أفعال بعينها سعيا لتحقيق أهداف مالية. وما دامت أهداف الفعل الأداتي تتحدد سلفا وبمعزل عن التوصل إلى الإجماع، فإن أغلب الأهداف النهائية الموجهة إليها أفعال المنتمين إلى النظام محددة مسبقا، وليست مختارة من قبلهم. علاوة على ذلك، فهي لن تكون دوما ظاهرة للفاعلين الذين يعملون على تحقيقها. وسواء أكان مشجعي فريق مانشستر يونايتيد لكرة القدم على دراية بذلك أم لا، فإن أفعالهم تخدم هدف تحقيق مكاسب للشركة المالكة للفريق تكون كافية لتوزيع الأرباح على حملة الأسهم بها.
الوظيفة الأساسية للأنظمة الفرعية للمال والسلطة هي الاستنساخ المادي للمجتمع؛ أي إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها. لكنها تلبي وظيفة أخرى مهمة جدا شبيهة بوظيفة العالم المعيش؛ وذلك لأنها تنسق بين الأفعال، ولها أثر تكاملي خاص بها. ويطلق هابرماس على هذا الأثر اسم «تكامل النظام»؛ تمييزا له عن «التكامل الاجتماعي»، وهو الأثر الذي يحققه العالم المعيش. وبينما أمست المجتمعات أكبر حجما وأكثر تعقيدا في فجر التصنيع والتحديث، وإذ أصبح الناس أكثر حركة، أضحى التكامل الاجتماعي أكثر صعوبة يوما بعد يوم. وفي ظل هذه الظروف، خففت أنظمة كالاقتصاد وإدارة الدولة العبء الواقع على التواصل والخطاب؛ فهي تساعد على الحفاظ على تماسك المجتمع.
يمكننا أن نرى هنا كيف يختلف هابرماس عن أدورنو وهوركهايمر اللذين يتبنيان وجهة نظر تكاد تكون سلبية بالكامل تجاه العقلانية الأداتية عامة والاقتصاد الرأسمالي خاصة. هابرماس ليس عدائيا تجاه العقلانية الأداتية في حد ذاتها، ولا تجاه المؤسسات التي تجسد منطقها الأداتي، وهي الدولة واقتصاد السوق؛ فهو يدرك أنهما يؤديان وظائف اجتماعية ضرورية ومهمة، وأن إلغاءهما أو الاستغناء عنهما ليس خيارا متاحا. (2-3) بعض الاختلافات بين العالم المعيش والنظام
يقر هابرماس بإسهامات النظام في الحياة الاجتماعية، لكنه حريص كل الحرص على بيان الأخطار الكامنة في تكامل النظام. أولا : أنظمة المال والسلطة توجه الفاعلين باتجاه غايات لا ترتبط بالفهم أو الإجماع. وتترتب على ذلك تبعتان؛ الأولى: أننا قد نغفل المعنى الكامل أو الأهمية الكاملة لأفعالنا الاقتصادية والإدارية، وهو ما يحدث كثيرا؛ فالأنظمة ترسخ وتدعم أنماطا من الفعل يخفي فيها الفاعلون أهدافهم، ولا يتأملون غايات فعلهم؛ ولذا، فإن لدى الأنظمة نوعا من اللانفاذية المدمجة بها، تمييزا لها عن العالم المعيش (موطن الفعل التواصلي) الذي تميل فيه معاني الأفعال والكلمات وغايات الفعل إلى أن تكون جلية للجميع ومفهومة. ثانيا: الغايات النهائية للفاعلين في الأنظمة (على العكس من الفاعلين في العالم المعيش) لا تئول إليهم حقا. فمن الممكن أن يختاروا السبل لا الغايات النهائية لأفعالهم. ومن ثم، يمكن القول بأن العالم المعيش يفضي عامة إلى الاستقلال الذي يفهم باعتباره سعيا لتحقيق غايات مختارة شخصيا، بطريقة لا يفضي إليها النظام.
ويستشعر الفاعلون هذا الفارق على النحو التالي: ينسق الفاعلون في العالم المعيش أفعالهم عبر ادعاءات الصحة. والقيود التي تحكم أفعالهم وتنتج عن هذه العملية مفروضة طواعية وداخلية المنشأ بقدر ما تنشأ من الإقرار المتبادل بادعاءات الصحة. وفي المقابل، تفرض أنظمة المال والسلطة قيودا خارجية على الفعل، ليس للفاعلين سلطان عليها بأي حال من الأحوال؛ ولذا، فإن النظام يتخذ هيئة يطلق عليها هابرماس «كتلة الواقع شبه الطبيعي»، وهو واقع مستقل ذو منطق داخلي استقلالي يستعصي على سيطرة البشر، ولا يمكن لهم تحمل مسئوليته، ولا ينبغي لهم تحمل تلك المسئولية. (3) استعمار العالم المعيش
Page inconnue