الخلق الحسن في ضوء الكتاب والسنة
الخلق الحسن في ضوء الكتاب والسنة
Maison d'édition
مطبعة سفير
Lieu d'édition
الرياض
Genres
سلسلة مؤلفات سعيد بن علي بن وهف القحطاني
الخُلق الحسن
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى اللَّه تعالى
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
Page inconnue
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى اللَّه عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أمّا بعد:
فهذه رسالة مختصرة في «الخلق الحسن»، بيّنت فيها تعريف الخلق الحسن، وفضائله، وأنواعه، في اثنين وعشرين مبحثًا على النحو الآتي:
المبحث الأول: تعريف الخلق الحسن.
المبحث الثاني: فضائل الخلق الحسن.
المبحث الثالث: طرق اكتساب الخلق الحسن.
المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن.
المبحث الخامس: الجود والكرم.
المبحث السادس: العدل.
المبحث السابع: التواضع.
المبحث الثامن: الإخلاص.
المبحث التاسع: الصدق.
المبحث العاشر: القدوة الحسنة.
المبحث الحادي عشر: العلم النافع.
1 / 3
المبحث الثاني عشر: الحكمة.
المبحث الثالث عشر: السلوك الحكيم.
المبحث الرابع عشر: الاستقامة.
المبحث الخامس عشر: الخبرات والتجارب.
المبحث السادس عشر: السياسة الحكيمة.
المبحث السابع عشر: إنزال الناس منازلهم.
المبحث الثامن عشر: الحلم والعفو.
المبحث التاسع عشر: الأناة والتثبت.
المبحث العشرون: الرفق واللين.
المبحث الحادي والعشرون: الصبر.
المبحث الثاني والعشرون: الرحمة.
واللَّه أسأل أن يجعل هذا العمل القليل مباركًا، نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وينفع به من انتهى إليه؛ فإنه خير مسئول، وأكرم مأمولٍ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلاّ باللَّه العلي العظيم، وصلى اللَّه وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أبو عبد الرحمن
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر في عصر يوم الخميس ٤/ ٣/ ١٤٣١هـ
1 / 4
المبحث الأول: تعريف الخُلُق الحسن
الخُلْقُ لغةً: السجيّة، والطبع، والمروءة، والدين (١).
وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي: نفسه، وأوصافها، ومعانيها المختصة بها، بمنزلة: الخَلْق لصورته الظاهرة، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة (٢).
فالخلق: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجةٍ إلى فكر ورويّة، وجمعه: أخلاق. والأخلاق: علم موضوعه أحكام قيمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح (٣)،وهذه الحال تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يكون طبيعيًا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه.
القسم الثاني: ما يكون مستفادًا بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالرويَّة والفكر ثم يستمر عليه حتى يكون ملكةً وخلقًا (٤).
أما السلوك: فهو سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيّئ السلوك (٥).
والسلوك: عمل إراديٌّ، كقول: الكذب، والصدق، والبخل،
_________
(١) انظر: القاموس المحيط، ص١٣٧، والمصباح المنير، ١/ ١٨٠.
(٢) انظر: غريب الحديث والأثر لابن الأثير، ٢/ ٧٠.
(٣) انظر: المعجم الوسيط، ١/ ٤٤٥.
(٤) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، د/ محمود حمدي زقزوق، ص٣٩.
(٥) المعجم الوسيط، ١/ ٢٥٢.
1 / 5
والكرم ونحو ذلك.
فاتّضح أن الخلق حالة راسخة في النفس، وليس شيئًا خارجًا مظهريًّا، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولا بد لنا من مظهر يدلنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو: السلوك، فالسلوك: هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخصٍ ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسنًا دلّ على خلق حسن، وإن كان السلوك سيئًا دلّ على سلوك قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخلق الحسن يعرف بالأعمال الطيبة (١).
_________
(١) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، ص٤٣.
1 / 6
المبحث الثاني: فضائل الخلق الحسن
أولًا: الخلق الحسن من أعظم روابط الإيمان وأعلى درجاته؛ لقوله ﷺ: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» (١).
ثانيًا: الخلق الحسن من تخلّق به كان من أحبّ الناس إلى النبي ﷺ - وأقربهم منه مجلسًا يوم القيامة: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا» (٢).
ثالثًا: الخلق الحسن يجعل المسلم من خيار الناس مطلقًا، ولا يكون كذلك إلا بالتخلّق بهذا الخلق العظيم، قال النبي ﷺ: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا» (٣).
وقد أحسن الشاعر إذ يقول:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
رابعًا: الخلق الحسن من أعظم القربات وأجلّ العطايا والهبات،؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن فإنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفاحِشَ البذِيء» (٤).
_________
(١) أخرجه الترمذي، كتاب الرضاع، باب حق المرأة على زوجها، برقم ١١٦٢، وأبو داود، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، برقم ٤٦٨٢، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ١/ ٣٤٠.
(٢) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب معالي الأخلاق، برقم ٢٠١٩، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ٢/ ١٩٦.
(٣) البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، برقم ٣٥٥٩، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه ﷺ، برقم ٢٣٢١.
(٤) أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم ٤٧٩٩، والترمذي بلفظه، كتاب البر والصلة، باب بيان ما جاء في حسن الخلق، برقم ٢٥٨٧، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، ٣/ ٩١١.
1 / 7
خامسًا: الخلق الحسن يدرك المسلم به درجة الصائم القائم، قال النبي ﷺ: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» (١).
سادسًا: الخلق الحسن خير من الدنيا وما فيها؛ ولهذا قال النبي لعبد اللَّه بن عمرو: «أربع إذا كن فيك فما عليك ما فاتك من الدنيا: حفظُ أمانةٍ، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة» (٢).
سابعًا: يحصل بالخلق الحسن: جوامع الخيرات والبركات؛ قال النبي: «البر حسن الخلق» (٣).
ثامنًا: الخلق الحسن هو وصية رسول الله ﷺ إلى جميع المسلمين، فقد أوصى به ﷺ معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن واليًا، وقاضيًا، وداعيًا إلى اللَّه فقال له: «.. وخالق الناس بخلق حسن» (٤).
تاسعًا: الخلق الحسن ذو أهمية بالغة؛ لأن اللَّه ﷿ أمر به نبيه الكريم، وأثنى عليه به، وعظّم شأنه الرسول الأمين ﷺ. قال اللَّه ﷿: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (٥)، وقال ﷾: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (٦)، وقال النبي ﷺ: «إنما بعثت لأتمم
_________
(١) أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم ٤٧٩٨، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، ٣/ ٩١١.
(٢) أحمد في المسند بإسناد جيد،٢/ ١٧٧،وانظر: صحيح الجامع الصغير للألباني،١/ ٣٠١،برقم ٨٨٦.
(٣) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، برقم ٢٥٥٣.
(٤) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب معاشرة الناس، برقم ١٩٨٧، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ٢/ ١٩١.
(٥) سورة الأعراف، الآية: ١٩٩.
(٦) سورة القلم، الآية: ٤.
1 / 8
مكارم الأخلاق» (١).
وسئلت عائشة ﵂ عن خُلُقِهِ ﷺ فقالت: «.. فإن خلق نبيكم ﷺ كان القرآن» (٢).
عاشرًا: الخلق الحسن من أعظم الأساليب التي تجذب الناس إلى الإسلام، والهداية، والاستقامة؛ ولهذا من تتبَّع سيرة المصطفى ﷺ وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله وخاصة في دعوته إلى اللَّه تعالى، فأقبل الناس ودخلوا في دين اللَّه أفواجًا بفضل اللَّه تعالى ثم بفضل حسن خلقه ﷺ، فكم دخل في الإسلام بسبب خلقه العظيم.
فهذا يُسلم ويقول: «واللَّه ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ» (٣).
وذاك يقول: «اللَّهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا» (٤)، تأثر بعفو النبي ﷺ ولم يتركه على تحجيره رحمة اللَّه التي وسعت كل شيء، بل قال له: «لقد تحجَّرت واسعًا».
والآخر يقول: «فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه» (٥).
والرابع يقول: «يا قومي أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاءً لا
_________
(١) البيهقي في السنن الكبرى بلفظه، ١٠/ ١٩٢، وأحمد، ٢/ ٣٨١، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ٢/ ٦١٣، وانظر: الأحاديث الصحيحة للألباني، ١/ ٧٥، برقم ٤٥.
(٢) مسلم في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، برقم ٧٤٦.
(٣) البخاري، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة، برقم ٤٣٧٢، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه،، برقم ١٧٦٤.
(٤) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم ٦٠١٠.
(٥) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، برقم ٥٣٧.
1 / 9
يخشى الفاقة» (١).
والخامس يقول: «واللَّه لقد أعطاني رسول اللَّه ﷺ ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليَّ» (٢).
والسادس يقول: بعد عفو النبي ﷺ عنه: «جئتكم من عند خير الناس»، ثم يدعو قومه للإسلام فأسلم منهم خلق كثير (٣)، وهناك أمثلة كثيرة جدًا.
الحادي عشر: الخلق الحسن هو أمنية كل مسلم وكل داعية مخلص خاصة؛ لأنه بذلك ينجو ويفوز وينجح في جميع أموره الخاصة والعامة؛ ولهذه الأهمية كان ﷺ يدعو ربه أن يهديه للخلق الحسن، فكان ﷺ يقول في استفتاحه لصلاة الليل: «واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ..» (٤)، وكان يقول: «اللَّهم كما أحسنت خلْقي فحسّن خُلُقي» (٥).
الثاني عشر: الخلق الحسن يحبّب المسلم إلى الناس جميعًا حتى أعدائه، ويتمكن بذلك من إرضاء الناس على اختلاف طبقاتهم، وكل من جالسه أو خالطه أحبه، وبهذا يسهل على الداعية إدراك مطالبه السامية بإذن اللَّه تعالى؛ لأن الدعاة إلى اللَّه ﷿ لا
_________
(١) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ﷺ شيئًا قط فقال: لا، وكثرة عطائه، برقم ٢٣١٢.
(٢) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ﷺ شيئًا قط فقال: لا، وكثرة عطائه، برقم ٢٣١٣.
(٣) انظر: فتح الباري، ٧/ ٤٢٨.
(٤) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم ٧٧١.
(٥) البيهقي في الشعب، ٦/ ٣٦٤، وأحمد، ٦/ ٦٨، وصححه الألباني في إرواء الغليل، ١/ ١١٣، برقم ٧٤.
1 / 10
يَسعَون الناس بأموالهم ولكن ببسط الوجه وحسن الخلق (١).
الثالث عشر: من لم يتخلّق بالخلق الحسن من المسلمين ينفِّر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يستطيل عليهم أو يبدو منه احتقارهم، واستصغارهم، ولو كان ما يقوله حقًا. قال ﷿ للنبي الكريم ﷺ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (٢).
وقال ﷿: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (٣).
وقال ﷿ ممتنًا على عباده: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (٤).
وقال اللَّه تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (٥) الآية.
وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (٦)، وقال ﷿: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (٧).
_________
(١) روى ابن أبي شيبة،٥/ ٢١٢:عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه: «لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق»، والبزار، ٢/ ٤٤٢، وحسَّنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، ٣/ ٩.
(٢) سورة آل عمران، الآية: ١٥٩.
(٣) سورة الشعراء، الآية: ٢١٥.
(٤) سورة التوبة، الآية: ١٢٨.
(٥) سورة آل عمران، الآية: ١٦٤.
(٦) سورة الأنبياء، الآية: ١٠٧.
(٧) سورة الفتح، الآية: ٢٩.
1 / 11
وقال ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا *وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ (١).
ولا شك أنه يتعين على كل داعية أن يتخذه ﷺ قدوة وإمامًا لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (٢).
الرابع عشر: إن صلاح الأمة وهدايتها والنهوض بها لا يكون سليمًا نقيًا إلا بالأخذ من المنبع الصافي، والبعد عن الأفكار الهدامة المنحرفة، والتزام المسلمين بالخلق الحسن ودعوة الناس إليه هو من هذا المنبع، وتطبيق ذلك على أنفسهم قبل الدعوة إليه، قال اللَّه ﷿: ﴿يَا أيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ (٣)؛ ولهذا أمر اللَّه بالعلم قبل العمل، وبالعمل قبل الدعوة إليه، فقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (٤)، وقال: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (٥)، فقدَّم العمل قبل الدعوة إلى الحق.
الخامس عشر: الخلق الحسن يجعل المسلم مستنير القلب، ويفتح مداركه، فيتبصَّر به مواطن الحق، ويهتدي به إلى الوسائل والأساليب الصحيحة في دعوة الناس الملائمة للظروف والأحوال، والأشخاص
_________
(١) سورة الأحزاب، الآيات: ٤٥ - ٤٧.
(٢) سورة الأحزاب، الآية: ٢١.
(٣) سورة الصف، الآيتان: ٢ - ٣.
(٤) سورة محمد، الآية: ١٩.
(٥) سورة العصر.
1 / 12
﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ (١) الآية.
السادس عشر: الخلق الحسن من أعظم الأسباب التي تُنجي من النار وتُورث الفوز بأعلى الدرجات في جنات النعيم، وهذا هو غاية كل مسلم بعد رضى اللَّه ﷿؛ ولهذا عندما سأل النبي ﷺ رجلًا فقال له: «ما تقول في الصلاة» قال: أتشهّد ثم أسأل اللَّه الجنة وأعوذ به من النار. أما واللَّه! ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، فقال النبي ﷺ: «حَوْلها نُدَنْدِنُ» (٢)، وهذا يدلّ أن جميع الأقوال والدعوات والأعمال؛ إنما هو من أجل الفوز بالجنة والنجاة من النار بعد رضى اللَّه ﷿.
السابع عشر: تَكَفَّل النبي ﷺ ببيت في أعْلى الجنة لمن حسَّن خلقه، فقال: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه» (٣).
الثامن عشر: الخلق الحسن أكثر ما يدخل به الناس الجنة: فقد سُئل النبي ﷺ عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: «تقوى اللَّه وحسن الخلق» (٤).
التاسع عشر: الخلق الحسن من أسباب النجاة من النار: فعن ابن مسعود ﵁ قال: قال رسول اللَّه ﷺ: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار،-أو بمن تحرم عليه النار؟ - على كُلِّ قريب هيّن سهل» (٥).
_________
(١) سورة الأنفال، الآية: ٢٩.
(٢) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة، برقم ٧٩٢، وأحمد، ٣/ ٤٧٤، وانظر: صحيح ابن ماجه، ٢/ ٣٢٨.
(٣) أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم ٤٨٠٢، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، ٣/ ٩١١، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم ٢٧٣.
(٤) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب حسن الخلق، برقم ٢٠٠٥، وانظر: جامع الأصول،
١١/ ٦٩٤، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، ٢/ ١٩٤.
(٥) الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب حدثنا هناد، برقم ٢٤٨٨، وانظر: جامع الأصول، ١١/ ٦٩٨، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ٢/ ٦١١، برقم ٩٣٨.
1 / 13
العشرون: صاحب الخلق الحسن خير أمة محمد ﷺ -؛ لقول النبي ﷺ: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (١).
الحادي والعشرون: الخلق الحسن موضوع واسع جدًا يشمل: الحلم، والأناة، والجود والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل والإنصاف، والصدق، والبرّ، والوفاء بالعهد، والإيثار، والرحمة، والعفّة، والتواضع، والزهد، والكيِّس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، والإخلاص ... وهذا هو الخلق الحسن في الدعوة إلى اللَّه تعالى وما يتفرّع منه.
الثاني والعشرون: أما الخلق العظيم الذي مدح الله به النبي ﷺ فهو الدين كله، والخلق الحسن جزء منه كما ذكر ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى في الفتاوى (٢)، وقال الإمام ابن القيم - رحمه اللَّه تعالى - في مدارج السالكين: «حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصوّر قيام ساقِه إلا عليها: الصبر، والعفّة، والشجاعة، والعدل، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة» (٣).
_________
(١) رواه الترمذي عن عائشة ﵂، كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب فضل أزواج النبي ﷺ، برقم ٣٨٩٥، وابن ماجه عن ابن عباس ﵄، كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، برقم ١٩٧٧، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ١/ ٥١٣، ورو البيهقي عن أبي هريرة ﵁ في شعب الإيمان، ٦/ ٤١٥، بلفظ: «خيركم خيركم لنسائه وبناته»، والحاكم عن ابن عباس ﵄، ٤/ ١٧٣، بلفظ: «خيركم خيركم للنساء»، وصححه ووافقه الذهبي، ورواه ابن عساكر عن علي ﵁، ١٣/ ٣١٢، بلفظ: «خيركم خيركم لأهله، ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم»، وضعف الألباني هذه الزيادة في ضعيف الجامع، ص ٢٤٣، برقم ٢٩١٧.
(٢) مجموع فتاوى ابن تيمية، ١٠/ ٦٥٨.
(٣) مدارج السالكين، ٢/ ٣٠٨.
1 / 14
المبحث الثالث: طرق اكتساب الخلق الحسن
الأسباب والوسائل التي يكتسب بها الخلق الحسن كثيرة، ولكن من أبرزها على سبيل المثال ما يأتي:
١ - التدريب العملي، والممارسة التطبيقية للأخلاق الحسنة ولو مع التكلّف في أول الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى؛ فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلّم، والصبر بالتصبّر، والاستعفاف بالتعفّف، قال ﷺ: «ومن يستعفف يعفّه اللَّه ومن يستغن يُغنه اللَّه، ومن يتصبّر يُصبِّره اللَّه» (١).
٢ - الغمس في البيئة الصالحة؛ لأن من طبيعة الإنسان أن يكتسب من البيئة التي ينغمس فيها ويعيش مع أهلها، فيكتسب ما لديهم من أخلاق، وعادات، وتقاليد، وأنواع سلوك عن طريق المحاكاة والتقليد، وبذلك تتم العدوى النافعة، ولهذا قيل: إن الطبع للطبع يسرق، وأعظم من ذلك توجيه النبي ﷺ وبيانه أن الجليس الصالح كحامل المسك إما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحًا طيبة (٢).
ولاشك أن الرجل على دين خليله، فلينظر كل مسلم من يخالل (٣)؛ ولهذا قال النبي: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» (٤).
_________
(١) البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم ١٤٢٧، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والتصبر، برقم ١٠٥٣.
(٢) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين، برقم ٢٦٢٨.
(٣) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، ١/ ٢٠٩ - ٢١٣.
(٤) مسند أحمد، ١٤/ ١٤٢، برقم ٨٤١٧، واللفظ له، وأبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، برقم ٤٨٣٥، والترمذي، كتاب الزهد، باب حدثنا محمد بن بشار، برقم ٢٣٧٨. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ٢/ ٦٣٣.
1 / 15
المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن
فروع حسن الخلق كثيرة جدًا فهو يشمل: العلم، والحلم، والأناة، والحكمة، والجود والكرم، والعفو، والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل، والإنصاف، والصدق والإخلاص، والبر، والوفاء، والإيثار والرحمة، والتواضع، والزهد، والكيس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، وحفظ السر، والورع، واليقين، والتوكل ... وهذا مفهوم واسع لا يتسع له هذا المبحث، وسيأتي بعض هذه الأخلاق في المباحث الآتية.
1 / 16
المبحث الخامس: الجود والكرم
الجود والكرم خُلقٌ عظيم وهو على عشر مراتب على النحو الآتي:
١ - الجود بالنفس وهو أَعْلى مراتب الجود.
٢ - الجود بالرياسة، فيحمل الجواد جوده على الجود برياسته والإيثار في قضاء حاجات الناس.
٣ - الجود براحته، فيجود بها تعبًا في مصلحة غيره.
٤ - الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود، وهو أفضل من المال.
٥ - الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة وغيرها.
٦ - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، فكل يوم تعدل فيه بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فترفع متاعه عليها أو تحمله عليها صدقة، والكلمة الطيبة صدقة.
٧ - الجود بالعرض، كمن يعفو عمن اغتابه، أو سبّه، ونال من عرضه، كما فعل أبو ضمضم (١).
٨ - الجود بالصبر، والاحتمال، وكظم الغيظ، وهذا أنفع من الجود بالمال.
٩ - الجود بالخلق الحسن، والبشاشة، والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر.
١٠ - الجود بترك ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه.
ولكل مرتبة من الجود مزيد وتأثير خاص في القلب، واللَّه سبحانه
_________
(١) روى أبو داود، ٤/ ٤٢٣، برقم ٤٨٨٦ مرسلًا: عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَيْغَمٍ أَوْ ضَمْضَمٍ - شَكَّ ابْنُ عُبَيْدٍ- كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ. وقال الألباني في إرواء الغليل، ٨/ ٤٢: «وإسناده صحيح إلى قتادة».
1 / 17
قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك، واللَّه المستعان (١).
وكل أنواع الجود والكرم ينبغي للدعاة أن يتحلوا بها في دعوتهم، ومن الصور العظيمة لتطبيق الجود والكرم ما فعله رسول اللَّه ﷺ ومن ذلك:
عن أنس ﵁ قال: ما سئل رسول اللَّه ﷺ على الإسلام شيئًا إلا أعطاهُ، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة (٢).
وهذا الموقف الحكيم العظيم يدلّ على عظم سخاء النبي ﷺ، وغزارة جوده (٣).
وكان ﷺ يعطي العطاء ابتغاء مرضاة اللَّه ﷿ وترغيبًا للناس في الإسلام، وتأليفًا لقلوبهم، وقد يُظهر الرجل إسلامه أولًا للدنيا ثم - بفضل اللَّه تعالى، ثم بفضل النبي ﷺ ونور الإسلام - لا يلبث إلا قليلًا حتى ينشرح صدره للإسلام بحقيقة الإيمان، ويتمكّن من قلبه، فيكون أحب إليه من الدنيا وما فيها (٤).
_________
(١) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، ٢/ ٢٩٣ - ٢٩٦ بتصرف.
(٢) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل ﷺ شيئًا فقال: لا، برقم ٢٣١٢.
(٣) انظر: أمثلة كثيرة من كرمه وجوده في البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا عبدان ١/ ٣٠، وكتاب الأدب باب حسن الخلق وما يكره من البخل، ١٠/ ٤٥٥، وكتاب الرقاق، باب قول النبي ﷺ: لو أن عندي مثل أحُد ذهبًا، ١١/ ٢٦٤، ١١/ ٣٠٣، وكتاب الكفالة، باب من تكفل عن ميت دينًا فليس له أن يرجع، ٤/ ٤٧٤، وكتاب التمني، باب تمني الخير، وقول النبي ﷺ: لو كان لي مثل أحُد ذهبًا، ١٣/ ٢١٧، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ﷺ شيئًا قط فقال: لا، وكثرة عطائه، ٤/ ١٨٠٥، ١٨٠٦، وكتاب الزكاة، باب من سأل بفحش وغلظة، ٢/ ٧٣٠، وباب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، ٢/ ٦٨٧.
(٤) انظر: شرح النووي على مسلم، ١٥/ ٧٢.
1 / 18
ولهذا شواهد كثيرة، منها: ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي ﷺ غزا غزوة الفتح - فتح مكة - ثم خرج ﷺ بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين، فنصر اللَّه دينه والمسلمين، وأعطى رسول اللَّه ﷺ يومئذ صفوان بن أمية مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة، قال صفوان: واللَّه لقد أعطاني رسول اللَّه ﷺ ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ (١).
وقال أنس ﵁: «إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» (٢).
وإذا رأى النبي ﷺ الرجل ضعيف الإيمان، فقد كان ﷺ يجزل له في العطاء، قال ﷺ: «إني لأعطي الرجل وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه» (٣)؛ ولذلك كان ﷺ «يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل» (٤).
ومن مواقفه الحكيمة العظيمة في ذلك ما فعله ﷺ مع المرأة المشركة صاحبة المزادتين (٥)، فإنه بعد أن أسقى أصحابه من مزادتيها، ورجعت المزادتان أشد ملاءةً منها حين ابتدأ فيها قال لأصحابه: «اجمعوا لها»، فجمعوا لها - من بين عجوةٍ، ودقيقةٍ
_________
(١) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل ﷺ شيئًا قط فقال: لا، وكثرة عطائه، برقم ٢٣١٣.
(٢) مسلم، في الكتاب والباب المشار إليهما آنفًا، ٤/ ١٨٠٦.
(٣) البخاري، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة: ٢٧٣]، برقم ١٤٧٨، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من يخاف على إيمانه، برقم ١٥٠.
(٤) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي ﷺ يعطي المؤلفة قلوبهم، برقم ٢٩٧٨.
(٥) المزادتان: مثنى مزادة، والمزادة: الراوية، ولا تكون إلا من جلد. انظر: القاموس المحيط، مادة (زود).
1 / 19
وسويقةٍ - حتى جمعوا لها طعامًا كثيرًا وجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، فقال لها ﷺ: «اذهبي فأطعمي هذا عيالك، تعلمين واللَّه ما رزأناك (١) من مائك شيئًا، ولكن اللَّه هو الذي أسقانا».
وفي القصة أنها رجعت إلى قومها فقالت: لقيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا، فهدى اللَّه ذلك الصرم (٢) بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا (٣).
وفي رواية: فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون ذلك الصرم الذي هي فيه، فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام (٤).
وقد كان سبب إسلام هذه المرأة أمران:
الأمر الأول: ما رأته من أخذ النبي ﷺ وأصحابه من مزادتيها ولم ينقص ذلك من مائها شيئًا، وهذا من معجزات النبي ﷺ الّتي تدل على صدق رسالته.
الأمر الثاني: كرم النبي ﷺ حينما أمر أصحابه أن يجمعوا لها، فجمعوا لها طعامًا كثيرًا.
_________
(١) ما رزأناك: أي: لم ننقص من مائك شيئًا. انظر: فتح الباري، ١/ ٤٥٣.
(٢) الصرم: أبيات مجتمعة من الناس. انظر: فتح الباري، ١/ ٤٥٣.
(٣) البخاري، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه عن الماء، برقم ٣٤٤، وكتاب المناقب، باب علامات النبوة، برقم ٣٥٧١، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم ٦٨٢.
(٤) البخاري، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم بكفيه من الماء، برقم ٣٤٤.
1 / 20
أما قومها، فقد أسلموا على يديها؛ لأن المسلمين صاروا يراعون قومها بإقرار النبي ﷺ على سبيل الاستئلاف لهم، حتى كان ذلك سببًا لإسلامهم (١).
وهذه الأمثلة التي سُقْتُها ما هي إلا قطرة من بحر من كرم النبي ﷺ، فما أحوجنا، وما أولى جميع الدعاة إلى اللَّه ﷿ إلى الاقتداء بالنبي ﷺ والاقتباس من نوره وهديه في دعوته وفي أموره كلها، واللَّه المستعان.
_________
(١) انظر: فتح الباري، ١/ ٤٥٣.
1 / 21