الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة
Page inconnue
في تراجم الذين تحققت سنو وفاتهم
تراجم سنة إحدى وستمائة ثمان
1 / 3
الترجمة الأولى [شميم الحلي]
الأديب الشاعر المتصوف شميم الحلي علي] بن الحسن [ابن عنتر، من مدينة الحلة من مدن الفرات العراقية. شاعر مشهور بالمشرق، مذكور في الكتب وعلى الألسن.
وقفت على ترجمته في تاريخ بغداد لابن الساعي، وتاريخ حلب لابن العديم، وكتاب الأدباء لياقوت الحموي. وتلقيت جملًا من أخباره
1 / 5
وأشعاره من أدباء العراق والجزيرة والشام. فلخصت من جميع ذلك ما يليق بهذا المكان: جملة أمر هذا الرجل أن ذكره فوق شعره، فعلى كثرته لم أقف له على ما فيه إغراب ولإبداع. ومن جملة ذلك كتاب الحماسة التي جمعها من شعره، لحظتها فلفظتها إذ وجدتها مفسولة غير معسولة. وأقرب ما وقفت عليه من شعره، لما يليق بالمنزع المختار لهذا الكتاب، قوله:
ألا هاتها حيث الجداول أصبحت ... تصول على أرجائها بصلال
لدى نرجسٍ يسبى العيون بمثلها ... كأقراط تبرٍ كللت بلآل
فهو وإن لم يأت بما يظهر عليه غوص الفكر فإنه ما قصر في سبك اللفظ وتقريب المعنى وزيادة التلفيق. وأشهر ما تقدمه في تشبيه النرجس بالأقراط قول ابن عبد ربه القرطبي صاحب العقد:
على ياسمين كاللجين ونرجس ... كأقراط تبر في قضيب زبرجد
نظر إليه والى قول أبي الطيب السلامي:
1 / 6
انظر إلى غصن لوته الصبا ... وقد غدا من زهره في حلى
كأنه جيد على قامة ... من عقده بالدر قد كللا
ولفق منهما ما استحق به اسم شاعر.
وتذاكرت في شأن هذا الرجل مع بعض أهل بلده، فلم يعجبه ما وصفته به من عدم غوص الفكرة والنهوض إلى الطبقة العالية ذات الإعراب والإبداع. فجاءني بعد أيام وقال: ما تقول أيضًا فيمن يصدر عنه مثل هذا:
أقول لآمرةٍ بالخضاب ... تحاول رد الشباب النضير
أليس المشيب نذير الإله ... ومن ذا يسود وجه النذير
فقلت: لعمري لقد أغرب لو لم يكن اهتذم ذلك من قول أبي أحمد النهرجوري:
وقائلةٍ تخضب فالغواني ... قعود عن مصاحبة الكهول
فقلت لها المشيب رسول ربي ... ولست مسوِّدًا وجه الرسول
1 / 7
فقال: أمثل هذا الرجل تقصر به، وهو إمام في العلماء والزهاد! فقلت له: الآن أرحت واسترحت، إن كنت منصفًا لم أقصر به من جهة علمه ولا زهده بل من جهة الشعر، لكونكم أوجبتم له من الشهرة والتقديم فيه مالا يقوم عليه برهان. فنفض ثيابه، وقام يجر أهدابه.
وقد ذكر ياقوت الحموي أنه اجتمع بشميم فرآه كثير الدعاوى، خارجًا عن نمط الإنصاف والاعتراف. قال: أنشدني مرة قوله في الخمر:
خفقت لنا شمسان من ... لآلائها في الخافقين
في ليلة بدأ السرو ... ر بها يطالبنا بدين
ومضى طليق الراح من ... قد كان مغلول اليدين
قال: فقلت: أحسنت! فغضب وقال ويحك! ما عندك غير الاستحسان؟ فقلت: فما أصنع؟ قال: تصنع هكذا، ثم قام يرقص ويصفق. وجلس وهو يقول: ما أصنع! وقد بليت ببقر لا يفرقون بين الدر والبعر، والياقوت والحجر! قال: وكان قد جال البلاد واستقر بالموصل، فمات بها في ربيع الآخر سنة إحدى وستمائة.
1 / 8
ومما ذكره المؤرخون من أمره أنه كان من أعلام فقهاء الشيعة بالحلة، وأهل الفُتيا والإقراء عندهم. ثم ترقى إلى الزهد بزعمه وإطراح الدنيا. وصار يكثر الخلوة ويصل الصوم، إلى أن كان يزعم أنه يبلغ شهرًا لا يأكل ولا يشرب، في يوم ولانهار منه.
وكثير من أمثاله عاينتهم ببلاد المشرق يبلغون في الخلوة هذا المقدار وأكثر، ويجعل عليهم أمناء وحراس من قبل الملوك والكبراء لتتبين حقائقهم، فيشار إليهم بعد ذلك بالأنامل، وتلتفت عليهم هالات المحافل.
ومن تاريخ ابن العديم: أن شميمًا بلغ في الخلوة إلى أن كان يصل الصوم، ثم يأكل الطين فينزل برجيع ما فيه رائحة، ويشمه من يدخل عليه ليعلم مقدار مبلغه من الرياضة، فلذلك لقب بشميم.
وحكى لي أحد فضلاء ماردين أنه ورد عليها ونزل حيث لا يخفى مكانه، لما كان عليه من التهويل واستعمال المخارق. فأرسل إليه ملكها ابن أرتق في أن يحضر عنده. فقال للرسول: كيف أسير
1 / 9
إليه وأنا الذي أقول:
أنا الذي لو درى زماني ... قدري ما كان غير عبدي
لم يزل واقفًا ببابي ... ولم يصرف خلاف قصدي
فعاد الرسول بالجواب. فضحك الملك وقال: هذا رجل مجنون أو مستخف، وعلى الأمرين ينبغي لنا إن نرى ما عنده. ثم ركب إليه واجتمع به وانصرف، وقال للرسول: قل له: كان فلان قد نظر لك في ضيافة زاد قبل أن يشاهد ما عندك، فلما شاهده علم أن قدرك يحل عن كل ما عنده. فلما عاد إليه الرسول بذلك، التفت إلى أحد أصحابه وقال: أي ولد زنى! وسمع ذلك الرسول فرجع وهو يضحك. فقال له الملك: ما كان جوابه؟ قال: سكت. قال سبحان الله! أمن السكوت يكون ضحك؟ فأخبره. فضحك حتى فحص برجليه وقال: الرجل ممخرق، وقد علم أن مخرقته لم تجز علينا فجعل هذا فصل ما بيننا وبينه.
وأخبرني ابن الصفار الدينوري ... أن شميمًا اجتاز بمدينة دنيسر
1 / 10
فصادف أن كان بها صاحب ماردين، فبلغه نزوله في بستان هنالك، فركب كأنه يتفقد البستان، وغرضه الاجتماع به. فقيل له: إن السلطان قد دخل البستان. فقال: ومن منعه؟ ولم يقم له ولا لقيه. فصعب على صاحب ماردين ذلك، وأظهر أنه جاء للفرجة، وانصرف ولم يجتمع به. وجاءه من عتبه في ذلك. فقال: كنت في مناجاة سلطان أعظم منه. فقال صاحب ماردين: رحم عياله! ولو كان الجنيد. ودس إليه من يؤذيه حتى خرج عن بلده.
1 / 11
الترجمة الثانية [العبدوسي]
الشاعر البارع المحسن العبدوسي محمد بن عبدوس الواسطي، من مدينة واسط. أطلعته واسطة من عقد شعرائها، فترقى إلى مخالطة كبرائها وأمرائها، ثم جال حتى انتهى إلى الديار المصرية، ومدح بها العادل وأرباب دولته، ومدح الظاهر صاحب حلب بما اجتمع منه سفر. ذكر ذلك صاحب تاريخها ولم يعجبني من جميع ما أورد من شعره غير قوله في الملك المذكور:
أشتاقه شوق مصدود وكم حملت ... أم الأماني برؤياه فلم تلد
وطبقته أعلى من هذا بأضعاف. ذاكرت أحد علماء بلدي في شأنه، فنوه باسمه وأنشدني له ما اخترته لكتاب "كنوز الأدب" وهو قوله الذي أبدع فيه وأغرب:
1 / 12
أهلًا وسهلًا بالعذار الذي ... أصبحت في شغل به شاغل
خطان صيغت منهما في الهوى ... "لا" وهي حرف النهى للعاذل
يا سائلي عن أمرها نكتة ... أضحى بها كالقمر الكامل
كأنها ذاك السواد الذي ... تبصره في البدر يا سائلي
فجر الصبا في وجنتيه غدا ... يموج مثل البحر الجائل
أما تراه إذ طفا ماؤه ... قد قذف العنبر في الساحل
وقد ازدحم على مشرع هذه الأبيات جملة من شعراء عصره، فما بلغوا فيه إلا دون قدره. وقوله، وهو غير خارج من "كنوز الأدب":
وبديع أطلع الآ ... س بروض الجلنار
رمت منه لثمة إذ ... عيل في الحب اصطباري
قال لي لا تدن أنفا ... سك من نبت العذار
إنني أخشى عليه ... منك من لفح الأوار
قلت دعني من رقاعا ... تك واسمع لاعتذاري
هو كالعنبر يذكو ... طيبه من غير نار
فانثنى يبسم عن جمر ... شبيه بالدراري
فرتعنا في رياض ... وكرعنا في عقار
أي خمر أنا منها ... طول عمري في خمار
1 / 13
وهو من الشعراء الذين حفظ ما قالوه في الجارية التي صنعت في أحد خديها بالغالية حية وفي الآخر عقربًا، فأمر الملك العزيز صاحب مصر أن يقال فيها. وكان قول العبدوسي:
يا معشر الناس ألا فأعجبوا ... من قمرٍ حل به العقرب
وحية ميتة أرسلت ... في جنة تلدغ من يقرب
يا مظهرًا آية موسى لنا ... إليك من دون الهوى المهرب
وكانت وفاته بمصر سنة إحدى وستمائة، بعدما أكثر من هجائها وذم أهلها. ومن أعف ذلك وأبدعه قوله:
يأهل مصر مدحتم ... مصرًا بلا برهان
وقلتم هي عينٌ ... نعم بلا إنسان
أرض عدمنا لديها ... عوارف الإحسان
وكل بر تراه ... فإنه في اللسان
يوم ارتحالي عنها ... جعلته مهرجان
وكان قد اتصل بالوزير ابن مجاور، فلما بلغ الغاية من الاستيلاء على دولة العزيز، لما استبد بالديار المصرية، قصر به، فأنشده:
1 / 14
عجبت لبحر جاد لي عند جزره ... ولم أر جودًا منه إذ جاءه المد
لعل له عذرًا على كل حالة ... هو الملك الأعلى يدًا وأنا العبد؟
فقال: ما ثم عذر، لكن هذا شان الدهر، وعلى هذه الحال مرت الليالي والأيام، ولقد أحسنت إلي إذ ذكرتني بفضيلة. ثم أحسن إليه وسعى له فيما أقر عينه عند صاحبه. ومدحه بقصيدة منها:
يا سائلي عما رأى من كسًا ... ونعمة يقصر عنها الكلام
قد كنت ذا جدب ولكنني ... أفلحت فاستمطرت صوب الغمام
قام بأمري سيد ماجد ... ذكره عتبي رعى الذمام
مبارك الطلعة ميمونها ... يبدأ من يخدمه بالسلام
قد جرب الدهر وأحواله ... وأختار أخلاق جميع الكرام
ومن محاسن شعره قوله:
لله ذو أدبٍ حلو شمائله ... لقياه أطيب لي من جملة النعم
أمس يحدثني والكأس في يده ... فبت أشرب راح الكرم والكرم
وأنشدت له بالعراق هذه الأبيات، وهي مما يرتاح إليه في السماع، ويهتز لما اشتملت عليه كل كريم الطباع:
ليلى بلا سحرٍ من ساحر الحوار ... أشتاقه وهو مشتاق إلى السحر
ولو أتى زائر ما كان يمنعني ... لقرب ما بين حال الورد والصدر
1 / 15
فالليل عندي سواء إن دنا وقلا ... أشكو من الطول ما أشكو من القصر
يا خاليا حاليا بالحسن ها كبدي ... أمست بالا جلد قوسا بلا وتر
الظبي أنت وقد حوشيت من خنسٍ ... والبدر أنت موقى كلفه الغير
والخمر أنت ولكن سكرها أبدًا ... والغصن أنت ولكن دائم الزهر
لا جفف الله عيني من هواك ولا ... متعت من غير ذاك الوجه بالبصر
ورأيت جماعة من أدباء العراق يتطاولون بإنشاد هذه الأبيات ويفتخرون بها، وهي لعمري أهل لذلك، إلا أن بيته الذي هو واسطة القلادة مسروق من قول اللص الإشبيلي:
فالليل إن هجرت كالليل إن وصلت ... أشكو من الطول ما أشكو من القصر
1 / 16
وهذا كما قال الملك الأشرف لبعض الشعراء وقد مدحه بقصيدة فيها أبيات سلخ ألفاظها ومعانيها من شعر غيره: أما تستحي أن تنشدي لنفسك ما أحفظه لغيرك؟ فقال: قد يقع الحافر على الحافر. فقال: نعم، ولكن للميدان كله لا. فضحك جميع من حضر من أهل الأدب. وصار ذلك الشخص عندهم يعرف بالميداني. وأخبرني بدمشق أحد أقارب الأموي كاتب الملك الأشرف بن العادل بن أيوب، أن ابن عبدوس وصل إلى الملك الأشرف وهو حينئذ بالجزيرة في مدة أبيه، والحال ضيقة، فحضر مجلسه وأنشده قصيدةً منها:
ملك شككنا أيها أعلى علا ... أولاه أم وسطاه أم أخراه
لما علا فوق الأنام محله ... مسحت عليهم كالسحاب يداه
أشتاق رؤيته لأني واثقٌ ... إلا أرى بؤسًا متى ألقاه
فضحك الأشرف لما انتهى إلى هذا البيت وقال: ذهب البوس يابن عبدوس. إلا أنه نحن على ما لا يخفى عنك في هذا الوقت، فأيما
1 / 17
تختار: يسير معجل، أو كثير مؤجل؟ فقال: يا خوند، إنما يصبر على المؤجل التجار أصحاب رءوس الأموال، وأما المفلسون الذي رؤوس أموالهم الأشعار مثلي وأشباهي فإنما هم أبناء يومهم. قال صدقت، وألتفت إلى الصفي كاتبه وقال: بحياتي عليك إلا ما أجزته عني. فقال: نعم وكرامة. وانصرف به إلى منزله، وحلف له انه ما يملك في ذمته شيئًا يقدر على خروجه عنه والتعوض منه إلا على البغلة التي يركبها، ودفعها إليه وألبسه ثيابه التي كانت عليه. فجن فرحًا، وأطنب في الثناء على الملك والكاتب وقال: هذا عندي في هذا الوقت خير من عشرة آلاف دينار في وقت آخر.
قال: وهكذا كانت أفعال الملك الأشرف في أكثر الأوقات، إذ كان أعرف الناس باستجلاب الثناء في كل وقت وبكل ما أمكن. قال: ومما أنشده لنفسه فاستحسنه الصفي وكتبه، قوله:
اسمع أخي اختبار ... قد شيبت رأسه الرجال
إياك أن تشتفي بقول ... فيه على ربه وبال
وبلغ النفس ما تمنت ... إذا تأتى لك الفعال
1 / 18
الترجمة الثالثة [ابن مجاور]
الوزير الجواد المجيد نجم الدين بن مجاور يوسف بن الحسن.
بيت بني مجاور بدمشق مشهور إلى الآن. لزمهم هذا النسب من جدهم، رفض جنة الدنيا بدمشق ولزم المجاورة بمكة، فعرف بالمجاور. ونشا نجم الدين متغذيًا بتلك الطريقة ملتزما قراءة القرآن وإقراءه، واتخذ مكتبا يعلم فيه الصبيان على باب جامع دمشق. وسمت همته إلى إقراء النحو والأدب، واستفاد من ذلك ما علم به أولاد الكبراء، إلى أن أحتاج السلطان صلاح الدين معلما لابنه العزيز، فدل عليه، ووصفت طريقته الحميدة فأخذت السعادة بيديه. وأنس به العزيز فساد بخدمته في بلده وغير بلده، ووكله في أول الحال، ثم استوزره في نيابته عن أبيه بمصر، ثم فوض له جميع أمور دولته لما مات أبوه واستبد بالسلطنة. وكان أهلا لذلك، لما جمع من الفضائل والآداب ومكارم الأخلاق.
وكان معرفا بتوطئة الأكتاف، ومعاونة الأدباء والشعراء، والأخذ معهم غير مميز عنهم، حتى كأنه إذا باحثهم واحد منهم، مع ارتقاء في الشعر إلى الدرجة التي تأخذ بمجامع القلوب والألباب،
1 / 19
وترفع عن طبقة العلماء والأدباء والكتاب. ومن أمعن الفكر فيما أورد له في هذا المجموع علم أن له فكرة غواصة، وان معاني الأغراب وألفاظ الإبداع ليست عليه بمعتاصة.
ومن الحكايات المستطرفة المتعلقة بترجمته أن ابن منذر البطلبوسي لما ورد من المغرب أعترضه وهو قاصد دار السلطان، فكلفه رفع بطاقة إليه في مرتب يستعين به على طلب العلم. فأعلمه أن الكلام في إجراء راتب مخترع لا يمكن. فقال: فإن لم يمكن هذا فاكتب إلى الفقيه فلان في أن ينزلني عنده في المدرسة ويجري لي من الوقف ما يكفيني. فقال: ليس هذا من شغلي وإنما من شغل متولي الاوقاف٠ فاظهر انه لا ينفصل عنه إلا بالنظر في أمره، وجعل يورد عليه من أنواع التكليف ما يروغ الوزير عنه إلى أن أضجر. فأراد الانفصال عنه فقال: يا هذا، أعلم أنه من كلف ما لا يقدر عليه أتعب لسانه وسمع من يكلمه. فقال: أيها الوزير، أتعد إن أنا كلفتك ما تستطيع لم تعتذر لي عنه؟ قال: ما أعتذر لك عن شيء أستطيعه. قال: وأنا أيضًا فما أكلفك إلا أن ترجع إلى تعليم الصبيان في المكتب الذي كنت فيه، فتستريح أنت من كلف الناس ويستريح الناس من هذه الوزارة الخراء التي لا فائدة فيها، وقد شغلت مكانتها عن مستحقها ممن يفرح بقضاء حوائج الناس،، ويتكلف المشقات في تخليد شكرهم. فضحك الوزير ضحكًا لم يعهد منه مثله، وقال له:
1 / 20
أي وأنت على هذا المنزع، وفيك هذه الحلاوة، ولست من المغاربة الجفاء، ففيك مصطنع، ونبلغ إن شاء الله في شأنك فوق ما نقدر عليه. وحمله معه حتى ادخله على العزيز، فأعاد عليه ما جرى بينه وبين الوزير.
فضحك واستطاب القصة وصيره من خواصه وانتفع بخدمته غاية الانتفاع. حتى أشتهر ذكره وصار كالوكيل والأمين، وانتقل بعد ذلك إلى حلب فصار في خدمة أخيه الظاهر.
ومن الحكايات التي اخترتها لكتاب "روح الأدب" وشعرها من "كنوز المعاني" ما أخبرني به أبو بيان الإسرائيلي حكيم الديار المصرية وبقية المعمرين من أشياخها، الممازحين للملوك وأرباب الدول، قال: أهدي للملك العزيز بن صلاح الدين مملوك من القفجق، كما دب عذاره بشقره، لا يراه أحد فيقدر أن يثني عنه بصره. فقال:
1 / 21
الملك العزيز لجلسائه الأدباء: نجعل هذا المملوك الجديد ساقينا اليوم. فلما استقر مجلس الأنس- وفيه جعفر بن شمس الخلافة، والأسعد ابن مماتي، وهما حينئذ الغاية في طبقة الشعراء، وهناك من يشعر غيرهما- قال لهم، وقد أخذت الكأس منهم وأزلت حجاب الحياء عنهم: هذا مكان الأفكار وإجالتها، وأشار إلى المملوك. فأفكروا ساعةً فلم يحضر لهم ما يرضونه، فقالوا: يا مولانا، إن الوزير نجم الدين له شغف بالمعذرين وأوصافهم، بفكرة منقادة لتعلقه بهم، وما لهذا إلا خاطره. فقال: نسره بالمشاركة في هذا الشأن ولا نضيره بالاستدعاء للحضور على ما لا يريده. ثم أمر بالكتب له في ذلك. فوصل جوابه بهذه الأبيات التي لا نظير لها في حسنها، ولا عديل لقصدها في فنها:
غصن من الفضة قد أورقا ... بالتبر من فاز به وفقا
رواه ساقي الحسن من مائة ... فبان في أعلاه ما قد سقى
ومنتهى الأحرف من خطه ... في جانبي صدغيه قد عرقا
1 / 22