ولا بدع في ذلك فإن الرجل إنما ولد للحب، حتى لا يجد نفسه رجلا إلا متى امتلأ قلبه منه، فهو لا يزال دائب السعي حزينا قلقا تائه الأفكار حتى يعشق فيستريح من سعيه ويقف في مكانه وقد سالمته الأيام وعرف ما هو نصيبه من المقدور.
فجلست إلى شاطئ البحيرة على صخور هناك، وسرحت طرفي في زرقة ذلك الماء وقد تشابه لونه ولون السماء حتى لم أعد أقدر أن أميز أين يلتقيان، وحتى حسبت نفسي قد طارت منى فأخذت تسبح بين الأزرقين وأنا غارق القلب في السرور أبعد غورا من لجة ذلك الماء وأقصى مدى من تناهي ذلك الفضاء لا أقدر أن أصوره لنفسي على صفحات الوهم، فكيف أصوره لغيري على صفحات القرطاس؟! ولم أجد له مثلا إلا مثل الروح الخفي تشعر به النفس ولا يقدر أن يفصح عنه اللسان، وأقسم أني لو مر علي في حالتي تلك ألوف من السنين ثم انتبهت لرأيت أنه لم يمر علي أكثر من ثانية أو لحظة عين، وقد علمت من ذلك كيف يكون الخلود قصير المدى على أنفس الخالدين، وكيف قال داود في زبوره:
ألف سنة في عينيك يا رب مثل يوم أمس الذي عبر.
ثم انتبهت إلى ذلك السرور فوجدته أعظم من أن يوصف، وأوحد من أن يجزئه فكر أو تقسمه كلمات، ثم هو مع ذلك لم يكن ناشئا عن جمال تلك المحبوبة لأني لم أتصور جمالها إلا يغشاه اصفرار الموت فيحول بيني وبينه، ولا عن ازدهاء بأني محبوبها لأني لم أكن أعلم هل أثرت فيها أم كنت لديها كالخيال في الحلم يذهب بانقضائه، ولا عن أمل أن أتمتع بمحاسنها لأني كنت أجلها عن أن أنزل بها إلى مثل ذلك ولو بخطرات الأفكار، ولا عن طمع بأن أصل أيامها بأيامي وأجعلها من نصيبي؛ لأني كنت أعلم أنها نصيب سواي، ولا عن رجاء بأن أراها أو أتبع آثارها؛ لأني لم أكن مطلق التصرف بنفسي بأكثر مما كانت مطلقة بنفسها إلى أمد لا تلبث أن تعود بعده إلى موطنها فتفرق بيننا الأيام، ولا عن يقين بأنها تهواني؛ لأني لم أكن أعرف من قلبها شيئا سوى ما سمعته من كلمة ذلك الإخاء وعرفان الجميل ... ولكنه كان ناشئا عن انعطاف طاهر أدبي هو الراحة من بحث طويل عن ضالة غرام كان ينشدها قلبي فلا يلقاها حتى وجدها، فأصبح لاحقا بها معلقا على آثارها مستريحا من سعيه لديها كالحديدة التي يجذبها المغناطيس فلا تزال تتحرك وتضطرب حتى تنجذب إليه، فإذا لصقت به سكنت واطمأنت، أو كالنفس الذي لا يزال يتغلغل في الصدر ويلتمس الخروج حتى يفارق الشفتين فيتخلل الهواء ويتلاشى فيه.
ومن الغريب أنني لم أكن أشتاق إلى أن أراها أو أسمع صوتها أو أدنو منها أو أحادثها، وما ذلك إلا لأنني رأيتها فوعيتها في قلبي فلم يعد أحد يقدر أن ينزع صورتها منى، وسواء علي قربت أو بعدت وحضرت أو غابت ما دامت ساكنة في قلبي وداخلة في نفسي، وقد قيل:
ما للنوى ذنب ومن أهوى معي
إن غاب عن إنسان عيني فهو في
وإنما كان ذلك لأن الحب متى بلغ تمامه واستتم كماله كان صبرا في قلب صاحبه؛ لأنه يكون فيه بمنزلة الأبد السرمد، ومن شأن الأبد الانتظار والصبر لأنه لا نهاية له، وهيهات أن ينزعه شيء من قلبي إلا إذا نزع قلبي معه؛ إذ قد وجدت صاحبته لي ألزم من النور للعين عند انفتاحها، ومن الهواء للصدر عند تنفسه، ومن الفكر للنفس عند اشتغالها، وحتى صرت أراهن العالم على أن ينتزعها مني إذا كان ذلك في إمكانه، وكل ذلك لأنني كنت قد رأيتها فأحببتها وكفى. وما عسى أن يهمني بعد ذلك إذا كانت تحبني أو تمر أمامي ولا تراني وأنا قد أحدق بي جمالها حتى تسربلت بشعاعه فلم تعد هي نفسها تقدر أن تسترد بهاءها مني إلا إذا كانت الشمس تقدر أن تسترد ضياءها بعد انبعاثه، وحتى استوت حالات قلبي فلم يعد فيه برد ولا ظلام ولو عشت ألف سنة؛ لأنها تظل مشرقة فيه كما كانت مشرقة في تلك الليلة؟
وكانت تلك الأفكار تزيد حبي ثباتا وسكونا واتساعا ونشوة سرور لا توصف، فجعلت أنفق الساعات لا أحسبها على ثقة بأن أمامي ساعات لا نهاية لها، وأن كل ساعة منها تزيدني وجدا وغراما حتى لو غبت عمن أحبها قرنا كاملا ما أنقص ذلك القرن ذرة من ودادي، فكنت أذهب وأرجع وأقعد وأقوم وأجري وأمشي وأنا لا أكاد أمس الأرض كأنني الخيال الساري من شدة ما استطارني من السرور، ثم كنت أفتح ذراعي للهواء والبحيرة والنور كأنني أريد أن أعانق الطبيعة لأشكرها على إنعامها علي بمخلوقة جمعت فيها كل أسرارها ومحاسنها وحياتها وسرورها، وأركع على الحجارة والصخور الجاسية وأنا لا أشعر بها، أو على شفا الوديان العميقة وأنا لا أراها، وأصيح بكلام متقطع لا معنى له تضيع نبراته في هدير أمواج البحيرة، وأمد بصري إلى السماء بنظرات بعيدة المرمى كأنني أريد أن أخترق بها حجب الجلد لأرى من ورائها صورة الله فأشكره على إنعامه.
وبالجملة فإنني لم أعد إنسانا بل صرت نسمة حية صارخة منشدة داعية مناجية شاكرة عابدة، وقلبا طروبا ونفسا طائرة تقود على شفا تلك اللجج جسما لا تشعر بهيولاه ولا تحسب له وقتا ولا مدى، ولا مماتا ولا دينا ولا آخرة.
Page inconnue